أوراق العالم القادم

الـ (فايروس) ومشاهد المستقبل؟

هل سنبقى في البيت وراء الشاشة والشريحة في رأسنا؟

يربح المستقبل من يضع اصبعه على مفتاح تشغيله. المستقبل يكافىء من يفعل هذا.  اصبعي موجدة دوماً على مفتاح التشغيل هذا. ما عليَّ إلاَّ أن أضغط عليه ليبدأ.(باراك أوباما)
لا يمكنك أن تتحمل مسؤولياتك في الغد ،اذا حاولت تجنّب تحديات اليوم. (ابراهام لينكولن)

ليس أكثر من كائن مجهري هو من قذف الإنسان على عتبات الغد وحافاته، ليس أكثر من جيش مجهري بدون أية تراتبية  يعادل وزنه الآن في مجمل الكرة الأرضية أقل من غرامين اثنين لترليوناته، من القوة الضاربة التي رمت  بالإنسان، بدون مخططات مسبقة نحو المستقبل وأخاديده. ما فعله كوفيد 19 بالضبط، أنه من مهّد لحفريات المستقبل ونقل الإنسان عشرات السنوات إلى الأمام دون أن يكون جاهزاً، ووضعه أمام ما كان سينجزه بأدائه الرتيب، بعد عقود طويلة ليصل إلى نفس الحافات التي قطع رتابة زمنها كوفيد 19.

مع بداية السنة الحالية تكون الإنسانية قد اجتازت أقصر قرن سياسي، امتد من عام 1991 تاريخ سقوط الاتحاد السوفييتي إلى عام 2020 الذي وضع بكارثيته يد الإنسان على مفتاح تشغيل المستقبل. هل نتنبأ ؟ حتماً لا. لكن، لا يمكن إلاَّ أن نرى ماهي التغييرات البنيوية التي طالت تلك البنى المركزية التي أسست للمجتمعات الإنسانية لحقب عديدة. أقصد قطاعات الصحة، التعليم، النقد والتجارة، الترفيه والتسلية؟ ما سأقدمه هو رؤية رمزية تمكّن من بناء تصوراتنا بالحفر في معالمها، لأن تصوراتنا نفسها هي التي تمهد لرؤية أفضل لعالم الغد. ولكن هذا لا يستطيع أن يكون ناجزاً إذا لم نواجه تحديات اليوم التي تتفاقم على مدار الساعة.

راقبت اليوم ابني، وهو يتابع دراسته عبر شاشه الكومبيوتر في غرفته، كان يرى استاذه وهو يشرح مقرره الدراسي ويجيب على أسئلة الطلبة المتواجدين في غرف نومهم أمام شاشه الكومبيوتر، التي تتصل بجهاز الكومبيوتر الخاص بالمدرّس. سألته: هل هو شيء طارئ، أعني هل هذه التجربة هي شيء يرتبط بالوباء، وبعد انزياحه هل ستعودون إلى قاعات دراستكم؟ قال لي باقتضاب، لا أعتقد، نحن الآن جالسون في المستقبل. إذا أردت أن تعرف أي نظام تعليمي يحمله المستقبل لنا، ها نحن الآن في قلبه.

إذاً، في المستقبل لن تكون هناك مدرسة وقاعات درس، ستكون هناك أنظمة فرعية مرتبطة بمركز رئيسي يقوم بتموين معرفة الطلاب لمقرراتهم، عبر أساتذتهم الذين ربما لن يتعرفوا عليهم شخصياً، ولن يصافحونهم. ستكون معرفة سيبرانية تختفي معها تلك الروابط الحميمة بين الطلاب وأساتذتهم وبين الطلاب، بعضهم مع بعض.

ذهبت إلى المتجر لأشتري بعض المواد. انتبهت أنَّ الجميع يدفع عبر بطاقاتهم المصرفية أو الائتمانية، بعد اسطورة تلوث الأوراق النقدية بالفيروس وامكانية انتقاله، فكان ما رآه حكم قيمة فعلي لعالم المستقبل: لماذا نحتاجها ما دمنا قد استعضنا عنها بعمليات سيبيريه غير مرئية بالنسبة لنا؟ بتمرير بسيط على الشاشة الصغيرة لـ (آلة الانتراك) تنتقل النقود من حساب الى حساب آخر. الراتب الذي تقاضيناه أودع عبر عملية برمجية في حسابنا المصرفي، وعمليات الشراء تنقل القيمة الافتراضية لما اشتريناه من حساب إلى حساب آخر، دون حاجتنا للمس أية قطعة نقدية. أصبحت القيمة الآن افتراضية، لا نراها ولا نحسّ بوجودها. هذه العملية كنا نقوم بها من قبل، لكن هذا الوباء أثبت بشكل قطعي عدم حاجتنا للمس أية قطعة نقدية أبداً. الشيء الذي سيمّهد في المستقبل لاختفاء النقد بشكله التقليدي والاستعاضة عنه بكل هذه العمليات السيبرانية التي تخدم نفس الغاية.

استعرضت برنامج الأفلام المعروضة في إحدى دور السينما التي أرتادها. لوحة التعليمات تشير بوضوح إلى ضرورة أن يترك كل متفرج مقعدين فارغين بينه وبين جاره في قاعه السينما، وذلك بسبب جائحة الوباء، وأن يحتفظ بقناعه على وجهه طول مده العرض، وأن الحجز يتم بالهاتف فقط. اتصلت بالهاتف لأحجز مقعدين وذلك قبل ساعة من بداية العرض. قال لي الموظف المسؤول عن الحجز إن الفيلم قد تم إلغاء عرضه اليوم، لأنه لا توجد أية حجوزات.

لا يحتاج المرء لأي تحليل معقد، لماذا؟ لأن السطر التالي يجيب:
منذ أيام قليلة أطلقت شركة آبل فيلمها الأول، الذي كان مخصصاً للعرض في دور السينما greyhound أو كلب الصيد الرمادي. تكلفة إنتاج الفيلم تتجاوز الخمسين مليون دولار، ومن بطولة توم هانكس وألزابيت شو. آبل أتاحت حضور الفيلم عبر موقعها للأفلام المنزلية، بإيجار وصل إلى 12 دولاراً للعرض.
هل هذا يعني شيئاً ما؟ بالتأكيد إنه ببساطة يشي بانتهاء عصر دور السينما والمسرح  والعروض الغنائية الكبرى.  اختفاء هذه الأماكن ستكون واحدة من سمات المستقبل، والتي كنا نقصدها للتسلية أو للمعرفة، ليحلَّ محلها سينما منزلية تنقل العروض الأولى المباشرة لآخر الأفلام المنتجة أو المسرحيات أو ربما، العروض الغنائية  لتضعها أمامنا في المنزل، بدلاً من أن تكون دور السينما هي المكان المقصود للعروض الأولى!

الرقاقات أو الشرائح التي ستوضع في أجساد البشر والتي تراقب الحالة الصحية للإنسان، والتي ستصبح الزامية مع تجرأ أول دولة على تطبيقها، سوف تكون العلامة الأخرى الفارقة لمجتمع الغد. بل (ويليام) غيتس نفسه هو الملهم لها، ومعهد ماساشوستس التقني هو من يعمل عليها، في سعي حثيث، يشبه في تضاريسه مجتمع الأخ الكبير لجورج أورويل في رائعته 1984 وبالرغم من أن هناك ما يشي بمقاومة حثيثة لهذا التطور المذهل، إلَّا أن هناك من يؤمن من مخططي المستقبل، أن المجتمعات ترضخ في النهاية للدعايات التي تطلقها الآلات الرسمية للدولة، وتضخّها عبر إعلام  متحالف معها لوضع الإنسان على تضاريس الطريق التي عبّدته هذه الحكومات لتقود انسانها عبره ووحده حصراً.

مرحباً بكم في عالم ما بعد الغد؟

حيدر كاتبة

كاتب سوري

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق