جماليات

فجرٌبعيدٌ…جداً

حدّق النظر مليّاً في عقارب ساعته، كانت تشير إلى الثانية وتسع دقائق وثلاث وأربعين ثانية. ابتسم بغموض وهمهم أنه ربما للمرة الأولى في حياته تستغرق الثواني منه انتباهه. مدّ أصابعه وغرسها عميقاً في خصلات شعره ومسّدها وكأنه يتعرّف عليها للمرة الأولى، كانت تلك الخصلات لزجة بعض الشيء بالرغم من أنه أخذ حمامه قبل ساعتين أو أكثر قليلاً. تحسس بعض الملمس الخشن لوجهه وأذهله أن تكون “ذقنه” نمت بهذه السرعة، لقد حلقها في الصباح …صباح هذا اليوم!

وفجأة أحسّ بأنه قادر على سماع الأصوات المختلفة، دبيب النمل، نمو الأزهار، ربما صوت بزوغ الشمس أيضاً الذي سيحل في الساعة الخامسة وواحد وعشرين دقيقة. أحسّ أنه يرى كل شيء عبر تلك الجدران الكثيفة، مولد الكون، طفولة المجرات، قاع المحيطات، أعماق الثقب الأسود…أحسّ أنه كان هنالك منذ البداية، رأى كل شيء وسمع كل شيء، تلمّس طرف الكتاب الذي كان يقرأ فيه منذ قليل ورفعه لتصفع عيناه تلك الأبيات التي توقف عندها من ديوان أوراق العشب لوالت ويتمان:

ينام الأعمى، وينام الأصم والأبكم

ينام السجين جيداً في السجن

والأبن الهارب ينام

والقاتل الذي تقرر أن يُشنق في الغد، والقتيل كيف ينام

والأنثى التي تحب من طرف واحد تنام

والرجل الذي يحب من طرف واحد ينام

ورأس جامع المال التي انهمكت في التخطيط طوال اليوم تنام

وجميع الأمزجة المهتاجة والمغادرة جميعها…جميعها تنام

أحسّ للحظات أنه ربما كان أكثر رجل مشى على وجه هذه الأرض عزلة ووحدة، ليس هناك امرأة تنتظره، ولا طفل، ولا صديق، عاش وحيداً، كأرنب بري مصاب بالكَلَب، كصبّارة تنمو في حوض لأزهار التيوليب، كسمكة قرش هرمة.

أحسّ بحبات العرق تجتاح صدغيه وتأخذ مجراها لما وراء أذنيه، أحس برائحتها النفّاذة كرائحة تراب بللته القطرات الأولى للمطر. ابتسم وفكر ربما جُبِلنا من تراب؟ هكذا قالت الكتب المقدسة التي لم يقرأ سطراً واحداً منها طوال حياته.

ربما سمع هذا عندما كان طفلاً، لا يتذكر أين؟ لكنه حتماً لم يكن معبداً ذلك المكان الذي سمعها فيه. هو لم يطأ أرض أي معبد، كانت رؤية الأدراج التي تقوده إلى أبواب هذه الكنيسة أو تلك ترعبه كرعبه عندما كان يرى والده يتحسس على ظهره حزامه المليء بالمسامير المضغوطة، قبل أن ترسم خطوطاً فوضوية شبيهة بالكثبان الرملية.

نظر إلى طاولة الطعام الموجودة قرب البوابة المعدنية وتأمل بعناية محتويات الصحن البلاستيكي المقسم الى أقسام عديدة، بطاطا مقلية، شيزبرغر، أجنحة دجاج مقلية، حلقات البصل المغطسة بالكريسبي المقلية، باكون، مقانق، ولفافات القرفة المحلاة.

ابتدأ بعد حبات البطاطا المقلية… هناك ثلاثة عشرة منها، وثمانية أجنحة دجاج مقلية، وأربعة عشرة حلقة بصل مغطسة بالكريسبي مقلية، وثلاث شرائح بكون، وأربع لفافات قرفة محلاة.

أحسّ ببعض العطش، التفت ليرى كأساً بلاستيكياً مليئاً بمياه غازية ما، قدّر من لونها أنها قد تكون سفن اب أو ربما مياه “البيرييه”؟

لم يهتم كثيراً وأحسّ لأول مره في حياته أنه يفتقد الشهية للطعام، أحسّ أنه يعرف مذاق كل أطعمة العالم، لا شيء جديد في هذه الأطباق، لكن هزّه أنه لأول مره في حياته عد الوحدات الخاصة بكل صنف موضوع على الطاولة في هذا الطبق، وهزّه أنه هو المعروف بأنه يملك شهية ماعز جبلي لا يستطيع أن يلقي نظره أخرى على هذا الصحن لأنه سوف يقذف ما في جوفه إن فعل.

نهض من فراشه ونظر إلى ساعته، كان مؤشرها يشير إلى الخامسة إلّا خمس دقائق وثمانية وعشرين ثانية. رفع قميصه وأعاد توضيبه تحت بنطاله، أعاد شدّ جوربيه إلى الأعلى، ووضع قدميه داخل خفيه. رأى فرانك سيناترا في حفلة في لاس فيغاس على تلك المنصة ودندن برتابة وكأنه يقرأ في كتاب للكشافة المبتدأين مطلع تلك الأغنية الشهيرة التي غناها سيناترا ذات يوم:

“عشت حياتي بطريقتي”.

سمع صوت الأقفال تفتح من الخارج ودلف أربعة من حراس السجن إلى داخل الزنزانة.

سمع أحدهم يقول، حان الوقت يا سيدي…

وسمع آخر يصيح: الميت يمشي!!

نظر إلى ساعته لآخر مره، كانت الساعة الخامسة وأربع عشرة دقيقة وثلاث وثلاثين ثانية، الفجر لم يأت بعد…

حيدر كاتبة

كاتب سوري

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق