الشرع الأعلى

كتابٌ ودعوة للحوار

اسم الكتاب: موسيقا النقد.
اسم المؤلف: نزار سلّوم.
الناشر: مركز سيرجيل 2019.

ننشر فيما يلي النَص الكامل لكتاب موسيقا النقد / حزب أنطون سعادة وأزمته، حيث ( يتجه هذا الكتاب إلى بناء منصّة توحد الفكر في نصّه وناقده في آن…..
يكتسب الكتاب ميزة إضافية من كون المسألة المطروحة بين الناقدين نزار سلّوم وأسعد أبو خليل ليست سوى الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي يوضّب نقدياً الآن في حقلٍ مأزوم- من تقديم الناشر- انتهى الاقتباس ).
يعالج الكتاب إضافة لذلك مسائل ذات أبعاد إشكالية مثل: صفة الزعامة المرافقة لاسم أنطون سعادة، كتاب نشوء الأمم، المسألة اليهودية، الحزب والنهضة…..
يصل الكتاب في خلاصته الأخيرة إلى الاقتراح المنهجي التالي:

تعرّض سعادة والحزب معه لقراءات متعددة متغايرة وذات مناهج مختلفة، وبسبب من الثقافة السياسية المبتذلة اللغة والقاموس والغاية، التي أشهرت في وجه الحزب وسعادة لأسباب سياسية محض، بما جعل الدراسات والأبحاث الجدية والمرموقة لا تظهر إلّا ابتداءً من سبعينيات القرن الماضي. بسبب من ذلك، ظلّت الكتابات عن سعادة والحزب، تلك التي يمكن أن تشكّل نصوصاً نقدية موازية للنص المرجعي في قيمتها، محدودة جداً ونادرة.

ومن المؤكد أن التحرر والانعتاق من الأفكار المسبقة هو الحالة الضرورية التي تمكّن الباحث من إنتاج نص نقدي مجرد.

برأينا الشخصي، نرى ضرورة ملحّة في قراءة سعادة من قبل تلامذته، أو من قبل المفكرين المستقلين مهما كانت مواقعهم، كما في قراءة واقع الحزب وآفاقه، وفي هذا الوقت بالذات، انطلاقاً من الجملة التساؤلية التالية:

في ضوء الحالة التي وصل إليها مجتمعنا، ووصلت إليها أمتنا، وفي ضوء الأحداث الكبرى التي تعصف بمصيرنا ووجودنا، وفي ضوء المتغيرات العالمية المتسارعة:

هل ثمة حاجة لأنطون سعادة، وفلسفته وعقيدته؟

هل يشكّل الحزب السوري القومي الاجتماعي حاجة مصيرية لهذا المجتمع ولهذه الأمة؟

كيف؟ ولماذا؟ وبأي معنى؟

هذه دعوتنا.

موسيقا النقد

الكتاب:  موسيقا النقد

الكاتب: نزار سلّوم

جميع الحقوق محفوظة للناشر

2019

الناشر:

مركز سيرجيل للثقافة والفنون والاعلام

SERGIL: Center de  culture, d›arts et de Médias. 10307 Romuald Trudeau, Montréal, Québec, Canada H4N 2×5.

مكتب دمشق: عائده سلامه ـ العدوي ـ خلف دار الشفاء بناء دالاتي

Tel: 00963 11 4426588 – 4474590   Mob: 00963 940542444 – 933331402

Email: [email protected][email protected]

لوحة الغلاف:  حوار ـ نزار سلّوم ــ الاخراج: عائده سلامه

التوزيع: الفرات للنشر والتوزيع

راس بيروت شارع عبلة بناية بخعازي هاتف 009611750054

البريد الالكتروني alfurat@alfurat .com.

www.alfurat.com

إشارة تمهيدية

يقدم أسعد أبو خليل في مقالته: (أزمة الحزب السوري القومي الاجتماعي: النهضة مجدداً ـ جريدة الأخبار، السبت 11 آذار 2017، صفحة رأي، العدد 3125). يقدم مقاربة تتجاوز في مضمونها مناقشة ما يفترض أن يعنيه مصطلح «أزمة الحزب» ليتناول شؤوناً مختلفة تتعلق بأنطون سعادة وشخصيته وبعض كتاباته وخصوصاً كتاب «نشوء الأمم»، كما تناول نواحي من سياسات الحزب ومواقفه وخريطة علاقاته وبعض أساليبه السياسية والثقافية، ناقداً أحياناً ومثنياً في أحيان أخرى.

يمكن القول: إن الكاتب قدم «رؤية ما» إلى سعادة والحزب، وإن كانت في سياق مقال صحفي، غير أنها اكتنفت ملامح نقدية / معرفية وإن لم تأت وفق أسلوب أكاديمي أو نقدي محض، إلا أنها في النهاية نمّت عن جدية واهتمام ملحوظ بالحزب وسياساته وأزماته ومصيره. وعلى ذلك، لا يجب النظر إلى ما سنقدمه في هذا النص على أنه رد تقليدي[1] على مضمون مقالة أسعد أبو خليل، ولا بأي معنى، بل هو «إضافة ما» مختلفة في رؤيتها لسعادة والحزب بما يمكن اعتبارها نوعاً من الحوار العالي الصوت، الذي آمل أن يستمر محسّناً أدواته المنهجية إلى الوقت الذي يمكن فيه التيقّن من إنتاج مناخ حوار فكري، مفقود راهناً؟، في حقل الفكر السياسي خصوصاً، الذي يطغى عليه مناخ ثقافة سياسية شديدة الابتذال في عناوينها ومرجعياتها ومنهجياتها فضلاً عن لغتها ومصطلحاتها.

وفي سبيل إعداد «منصّة» حوار لائقة وواضحة المعالم، عمدت إلى منهَجَة العناوين المتعددة التي انطوت عليها مقالة أبو خليل في مقدمة وحقلين رئيسين شكّلت كلّها القسم الأول. وبينما تقوم المقدمة على سؤال تأسيسي حول حق النقد من موقع الاختلاف، جاء الحقل الأول خاصاً بأنطون سعادة وفكره وشخصه، وقد عمدت فيه إلى تخصيص معالجة كتاب «نشوء الأمم»  و«المسألة اليهودية» بفقرتين منفصلتين، لأنهما، بنظري، الأكثر أهمية في سياق البحث المطروح.

فيما عُني الحقل الثاني بالحزب ووضعه وسياساته ومواقفه. يهمني الإشارة أخيراً إلى أن العديد من الأفكار المطروحة في هذا النص، اعتمدنا في شرحها أحياناً على كتابنا «أهل السورية وخصومها» الصادر في العام 2005 عن دار أبعاد في بيروت.

وجاء القسم الثاني متضمناً مقالة أسعد أبو خليل، حيث آثرنا نشرها بهذا الشكل، لا كـ «ملحق»، وذلك حرصاً على اتخاذها مكانة متوازنة مع مضمون القسم الأول.

القسم الأول

أنطون سعادة: الحزب والنهضة

مقدمة

هل لكاتب أو مفكّر الحق في تناول ونقد عقيدة لا ينتمي إليها، لا بالمعنى الحزبي الرسمي ولا بالمعنى الفكري / الثقافي، وربما يكون منتمياً إلى غير عقيدة؟

وعلى ذلك، هل لأسعد أبو خليل الحق في تناول ونقد الحزب السوري القومي الاجتماعي، في عقيدته وسياساته ومرجعيته بما فيها مؤسسه وزعيمه أنطون سعادة؟ أم أنّ مقالته هذه قد تكون ،حسب قوله،[تطفلاً على شؤون الحزب من خارجه].؟

لاشكَّ أنَّ هذا التساؤل يطاول تاريخ الفكر السياسي والحقل النقدي منه خصوصاً، ذلك لأن النقد السياسي غالباً ما يأتي مدججاً بـ«حمولات» دوغمائية ناتجة من سياق الخصومات السياسية التي تصل في احتدامها أحياناً إلى مرحلة «العداوة» التامة. ومن المؤكد أن تاريخ النقد السياسي الخاص بحياتنا الحزبية والعامة لا يشير إلى محاولات متعددة ومرموقة ومتحررة من ضغط تلك «الحمولات»، بل إن هذه المحاولات تكاد تكون نادرة جداً.

يمكن القول: إن الصراع الذي حكم علاقات الأحزاب السياسية منذ ما قبل الاستقلالات الكيانية – الوطنية في أربعينيات القرن العشرين وما بعدها، لم يكن لأسباب «فكرية – معرفية» بالدرجة الأولى وإن تم الإيهام بذلك في أحيان كثيرة. وعلى ذلك جاءت الأدبيات النقدية،خصوصاً الحزبية،في أغلبها، متخمة بالاتهامات الشعاراتية والأفكار النمطية العمومية التي قصد منها التأثير على موقع الحزب (محل النقد) ومكانته في الحياة العامة. على سبيل المثال، لا يوجد، برأينا، أي سبب فكري يسّوغ اتهام الحزب السوري القومي الاجتماعي بـ«النازية» وباعتبارها مرجعية فكرية لـ«عقيدته»؟! بل إنّ الموقع السياسي للحزب الذي وضعه في مواجهة الانتداب الفرنسي  وفي صراع مباشر مع وجوده، جعل من دوائر الانتداب السياسية والإعلامية تتجه لتدبيج المرجعية «النازية» للحزب فتلقفها خصومه من الأحزاب الأخرى، ومنهم الحزب الشيوعي مثلاً، واستخدموها في صراعهم معه.

ما يصحّ منهجياً على الحزب السوري القومي الاجتماعي، في هذا المجال، يصح أيضاً على الحزب الشيوعي وعلى غيره. وبمعنى ما، وعلى نحو تساؤلي: هل شهدنا مواجهة بين العقيدتين: القومية الاجتماعية والماركسية، بالمعنى الفلسفي / الفكري؟؟ لاشكَّ أن هذه المواجهة جاءت في منتصف القرن الماضي في منسوب متدنٍ لها، فيما جاءت المواجهات السياسية ــ الإعلامية بين مؤسستي الحزبين في منسوب عالٍ جداً. وبطبيعة الحال، إذا كان «الفكر» غائباً عن مضمون هذه المواجهة، وهي مثال ،فإن المفكّر سيكون غائباً بالتأكيد، وما يوجد ليس سوى نص إعلامي وإن استعار أو حاول الإيهام بالمضمون الفكري ــ الفلسفي الذي لم يظهر إلّا في وقت متأخر من ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، وإن سجلنا هنا أن النصّ الصادر عن كتّاب قوميين اجتماعيين[2] مثل هنري حاماتي أو إنعام رعد أو وسيم زين الدين ( أبو واجب)، على سبيل المثال لا الحصر، كان أكثر التزاماً بالمنهجية الفكرية ويحمل نضجاً حوارياً ومعرفياً، من ذلك النص الصادر عن كتاب ماركسيين أو مستعيرين المنهج الماركسي أو غيره من المناهج مثل لبيب زويا «القومي سابقاً» وحازم صاغية «الذي لا يزال ينتمي إلى المدرسة الفرنسية الانتدابية في نظرته إلى الحزب ومؤسسه» وهو الذي يتبرقع مموهاً بأنه عصي على الترسيم الفكري أو المنهجي؟!

يعود منشأ الحذر الذي يشعر به المفكّر أو الكاتب إزاء تناوله «عقيدة» لا يؤمن بها ولا ينتمي، إلى تاريخ الخصومات السياسية الذي أفقر الحياة السياسية النقدية، ورفع السواتر والجدران السميكة العازلة التي حالت دون وجود «التفاعل الخلّاق» وغذت بالمقابل عمليات الضرب الخاطف أو «القذائف النقدية العشوائية» التي تتساقط من فوق تلك الجدران.

تتمثل المفارقة المذهلة، هنا، في أنّ صحافياً؟؟ مثل حسن صبرا يكتب ما لذّ له وطاب وما هو مطلوب منه أن يكتبه عن الحزب السوري القومي الاجتماعي (للصابرين فقط على الركاكة اللغوية والفكرية وعلى الأخطاء المعلوماتية فضلاً عن الضحالة في المستوى الصحفي وفنياته، نقترح عليهم مراجعة مجلة الشراع في عدد أيار 2016 )

يكتب تلك الترّهات الكاريكاتيرية وهو منتشٍ، فيما يشعر كاتب صحفي وأكاديمي مثل أسعد أبو خليل بأنه «متطفل»؟

يمكن الاستدلال، من هذه المفارقة، إلى ذلك الحضور المتواضع للنصّ النقدي وأصحابه في مشهد الثقافة السياسية السائدة.

من جانب آخر، يمكن التساؤل إن كان ثمة «محمّيات فكرية» لا يجوز لأحد الاقتراب منها؟ وهل يعني ذلك أن هذه «المحمّيات» يتم تنصيبها واستلهام وجودها واستيلادها من حرمة النص المرجعي المقدس الذي يحال بينه وأدوات النقد ومنهجياتها، حيث تمنع من الاقتراب منه ومقاربته تحت أية ذريعة أو حيثية مفروضة من علاقته بالواقع ومصير المجتمع والإنسان الذي يزعم مسؤوليته عنه؟!

إن أي فكر يتناول حياة الناس ومصيرهم، أي فكر كان ومهما كان، لا يمكن له أن يرفع جدران الحمائية المقدسة، لأنه لا يصادر بذلك العقل وحسب، بل يصادر الحياة من بابها إلى محرابها، أي يصادر ما هو حي ومتحرك ويحوّله إلى ساكن وجامد، فليس لأحد مهما كان ومن يمثل ممارسة هذا الحق، بل إن هذا الحق غير موجود في قاموس المصير الانساني؟!

الحزب السوري القومي الاجتماعي، بمرجعيته العقيدية، بفكره، بفلسفته، بمؤسساته، بسياسته، بمواقفه هو كائن حي يتحرك وغايته المجتمع وارتقاؤه وانتصاره في معركة وجوده، ولأنه كذلك، ولهذا السبب بالضبط وقبل أي سبب فكري، بابه مفتوح ومشرّع أمام المفكّر والناقد الذي ليس فقط له حق في دخول ذلك الباب والإقامة في جنبات المنزل الفكري خاصتة، بل من واجبه كمفكّر التعاطي مع هذا «الكائن – الحزب» الذي يستهدف تغيير الواقع القائم، مستخدماً أدواته النقدية والمنهجية مقارباً ومتفاعلاً مع فصوله المرجعية ومواقفه المستجدة ومختلف حالاته.

ذلكم، هو السبيل لإنتاج حقل النقد الخلّاق الموازي للنص المرجعي الخلّاق وتطورات فعله في الواقع.

في ذلك كله مسؤولية كبرى.

الحقل الأول

أنطون سعادة: مفكّراً… زعيماً؟

ثمة إشكالية، تبدو ملازمة للكيفية التي تتم وفقها قراءة شخصية أنطون سعادة. وهي إشكالية منهجية يعبّر عنها التساؤل التالي: هل أنطون سعادة مفكر؟ باحث؟ فيلسوف؟ أديب وصحفي؟

أم أن أنطون سعادة: سياسي وقائد؟

لاشكّ أنَّ وصف أنطون سعادة بـ«المفكّر» و«الفيلسوف» قد أغرى العديد من مريديه وقرّائه على السواء، لما تحمل هذه الصفة من ميزات شديدة الخصوصية «نخبوية» تحديداً. وقد تمنّى بعض منهم لو اقتصر عمل سعادة على الجانب الفكري / الفلسفي وحسب، دون أن يكون مؤسساً لحركة وحزب!! «يعبّر علي حميّة عن هذا الاتجاه بشكل واضح في مقالته المنشورة في جريدة الأخبار يوم الأربعاء 2 تشرين الثاني 2016 والتي جاءت تحت عنوان: لو لم يؤسس سعادة حزباً سياسياً. حيث ينتهي للقول: يا ليت سعادة لم يؤسس حزباً وتفرّغ للكتابة والتأليف كغيره من الفلاسفة الكبار…» وبمقدار ما يريد أصحاب هذا الاتجاه تمييز سعادة، باعتباره مختلفاً عن مؤسسي وقادة الأحزاب السياسية الأخرى، ويريدون أيضاً «تنزيهه» عن الأخطاء التي يرتكبها حزبه أو ارتكبها خلال تاريخه، حسب رؤيتهم، فإنهم في الوقت نفسه يعيدون إنتاج سعادة على نحو استبدادي، حيث يخرجونه من تاريخه ومن ذاته ويدخلونه في مخبر معرفي ويحاصرونه في صورة تؤطّره كفيلسوف أو مفكّر، وهي صورة مأخوذة على نحو افتراضي حتماً.

يؤدي إدخال سعادة إلى «مخبر معرفي» تحت ضغط الإشكالية المشّرحة لشخصه، إلى إنتاجه كـ«مفكّر / فيلسوف» ولكن إلى عزله عن ميزاته ـ،صفاته الأخرى ،وهي رئيسية، كما إلى نسف الواقع الذي عاشه وحكم فكره وأدواته وخياله.

منذ نشأته وبداية عمله، لم يهتم سعادة بتمييز نفسه كـ«مفكّر» أو فيلسوف أو كاتب، كان سعادة مكرّساً كل جهوده العقلية لخدمة قضية كبرى، اقتضت منه في لحظة فاصلة أن يقدم نفسه شهيداً لها فكان ذلك فصلاً استثنائياً لا يخصّه أو يخصّ حزبه فحسب، بل يميز تاريخنا السياسي عموماً.

منذ أن طرح على نفسه ذلك السؤال التأسيسي: ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟ عندما كان يافعاً في ريعان الشباب، خلال الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، أوضح قاطعاً دون أي التباس: (وبديهي أني لم أكن أطلب الإجابة على السؤال المتقدم من أجل المعرفة العلمية فحسب. فالعلم الذي لا يفيد كالجهالة التي لا تضر. وإنما كنت أريد الجواب من أجل اكتشاف الوسيلة الفعّالة لإزالة أسباب هذا الويل…» ويتابع قائلاً على نحوٍ لا يقبل أي تأويل «.. وفي أثناء درسي أخذت أهمية معنى الأمة وتعقّدها في العوامل المتعددة تنمو نموها الطبيعي في ذهني، وفي هذه المسألة ابتدأ انفرادي عن كل الذين اشتغلوا في سياسة بلادي ومشاكلها القومية. هم اشتغلوا للحرية والاستقلال مطلقين فخرج هذا الاشتغال عن العمل القومي بالمعنى الصحيح أما أنا فأردت «حرية أمتي واستقلال شعبي في بلادي». والفرق بين هذا المعنى التعييني والمعنى السابق المطلق المبهم واضح ـ من رسالة سعادة إلى المحامي حميد فرنجية ـ المحاضرة الثالثة من المحاضرات العشر).

بهذا المعنى، لا يبدو سعادة مهتماً بإظهار نفسه كـ«مفكّر»، بل يبدو مهتماً بإظهار «قضية بلاده» التي هو نفسه مؤسسها وباني عمارتها العقائدية من بابها إلى محرابها، بما يعني أن صفته الرئيسية العامة هنا، كمؤسس، تتجاوز صفته الخاصة كمفكّر. هذه الصفة العامة المتعددة الأبعاد والمركّبة تعبّر عنها كلمة «الزعيم» التي اختارها سعادة نفسه، ولم تكن لقباً شائعاً أطلق عليه بقصد المديح والتعظيم، اختارها لأنها منهجياً تحمل قدرة مركَّبة تنطوي على صفات الرجل الفرد المؤسس والتي منها: وضع العقيدة ونظامها والدعوة إليها وقيادة مؤسساتها. وستبقى هذه الصفة محصورة بـ«المؤسس» بما يمنحها موقعاً خاصاً واستثنائياً في نسيج القضية التي أسسها، ولكن هذا الموقع نفسه جاء مقيداً وفق النظام المؤسساتي الحقوقي الذي وضعه سعادة نفسه.

ورغم استثنائية هذا الموقع وإيحائه «الفرداني»، لم يعمد سعادة كما لا يبدو مهجوساً بتمييز نفسه كـ«فرد»، بل كان منكّباً على إيجاد الخصائص والحقائق التي يمكن الاستناد إليها لتمييز الخط الإبداعي السوري عبر التاريخ، والذي تشكّل النهضة السورية القومية الاجتماعية حلقته الراهنة والحديثة. إن أية إشارة من سعادة إلى سعادة، في مختلف المجالات أتت بكونه مؤسساً للحزب، لا بكونه فرداً عبقرياً متشاوفاً على رفقائه ومريديه وشعبه. لقد جرّد «موقعه» عن «شخصه»، فكان حين يشير إلى سعادة على سبيل التخصيص أو للإشارة إلى اجتهاد أو إبداع أو للإحالة إلى مرجع، يشير بصفة «الغائب» لا بصفة المتكلم، فيقول: قال سعادة، ولا يقول: قلت وأبدعت وو….

كان همّه الأول إزالة تلك الطبقات السميكة التي تحجب الشخصية القومية، وتبيان خطها العقلي خلال التاريخ، فسعادة برهان «فرد» على حقيقة تاريخية تخص المجتمع السوري والأمة السورية.

إن المسؤولية الموكلة لـ«سعادة» باعتباره «الزعيم – المؤسس» منحته الصفة المرجعية التي مكّنته من القول مثلاً إنَّ كتاب نشوء الأمم هو أول عمل في علم الاجتماع منذ «مقدمة» ابن خلدون «1332 ـ 1406 م»، ومكّنته أيضاً من لفت نظر جورج عطية وقد كان مسؤولاً حزبياً حينها، أن أنطون سعادة هو من أدرج عبد الرحمن الكواكبي في سياق الخط النهضوي السوري الحديث، ومكّنته أيضاً من توجيه نقد شديد لـ«سعيد عقل» الذي كان وقتها عضواً في الحزب، الذي تباهى بإبداعه  الشعري في قصيدته الطويلة الملحمية «بنت يفتاح»، فيما المطلوب وفق سعادة استلهام التراث السوري لا التراث التوراتي!!

على أن هذه المرجعية ذات وظيفة نقدية واضحة، بحيث يمكن الوقوف على تراث نقدي مرموق عند سعادة خصّ به عمله وعمل حزبه. يعتبر خطاب الأول من آذار 1938 رائداً في حقل «النقد الذاتي» وهو مصطلح سيكلف خسارة فلسطين 1948 وهزيمة 1967 حتى يرى النور في الأدب السياسي الشعاراتي المدائحي الهجائي..!!

ووضوح الوظيفة النقدية لمرجعية سعادة جعلته وبكل ثقة يصحح موقع الحدود الشرقية للأمة معدّلاً طبعة المبادئ الأساسية للحزب عام 1946، معيداً هذا التصحيح إلى الاكتشافات البحثية العلمية التي توصّل إليها، لا لدوافع رغبوية، وهذا التصرف «غريب» على عالم الرؤساء والمؤسسين وأصحاب العقائد والقضايا الذين ما أن يتفوهوا بكلمة حتى يتم تطويبها كـ«نصّ مقدّس» غير قابل للمراجعة ولا تحت ضغط أيّة اكتشافات أو أبحاث أو رؤى جديدة؟!

[إن ثقافة الخصومات العمياء دفعت إحدى أيقونات الفكر القومي العربي ـ آنذاك ـ ساطع الحصري للنظر إلى تجاوز سعادة لذاته باعتباره عيباً فكرياً، فيما هو في الواقع ميزة استثنائية].

إنَّ الصفة المرجعية لسعادة، لا تعمل وفق آلية تفترض أن حضورها يلغي غيرها، ولا «تجبّ» دونها من الصفات أو المواقع الأخرى، بل هي تندرج في إطار نظام مؤسساتي يقيدها بصلاحيات محددة. والأمثلة كثيرة ومتعددة التي تم فيها «امتحان» هذا النظام أثناء حياة سعادة، ولعل أكثر الأمثلة وضوحاً يتمثل في الطريقة التي احترم فيها مؤسسات الحزب، وهو في المغترب بعيداً، مع تأكده ويقينه أن القيادة الحزبية آنذاك كانت تحرف الحزب بعيداً عن معناه وعقيدته وغايته.

سعادة، لم يكن كاتباً، ولا مفكّراً، ولا باحثاً، ولا فيلسوفاً.. هذه مزايا فيه كان يفعّلها عندما تحتاج القضية التي كرّس حياته لأجلها.. هذه وغيرها صفات جزئية للصفة المرجعية الأساس: الزعيم.

نشوء الأمم

(إن «نشوء الأمم» كتاب اجتماعي علمي بحت تجنّبت فيه التأويلات والاستنتاجات النظرية وسائر فروع الفلسفة، ما وجدت إلى ذلك سبيلاً، وقد أسندت حقائقه إلى مصادرها الموثوقة. واجتهدت الاجتهاد الكلي في الوقوف على أحدث الحقائق الفنية التي تغير داخلية المظاهر الاجتماعية وتمنع من إجراء الأحكام الاعتباطية عليها ـ أنطون سعادة ـ من مقدمة كتاب نشوء الأمم).

يضع سعادة كتاب «نشوء الأمم» في حقل العلم، ويبعده عن حقل الفلسفة ما أمكنه ذلك، وهذا يعني دون أدنى ريب أنه يخضع مادته للمنهج العلمي من جهة، ولمرجعية المعلومات الوثائقية والاكتشافات المفتوحة دائماً، أي أن «نشوء الأمم» بما هو نص علمي فهذا يعني استطراداً أنه مفتوح على مصاريعه للمعطيات المستجدة منهجياً ومعلوماتياً. [تناول العديد من المفكرين الكتاب على نحوٍ فلسفي مثل عادل ضاهر في كتابه: المجتمع والانسان، كما أن الدكتور أحمد برقاوي رأى فيه فلسفة للتاريخ بموازاة الفلسفة الماركسية للتاريخ].

سعادة نفسه، يقول إنه لم يتمكن من مراجعة مخطوط الكتاب ويدققه على نحوٍ وافٍ، وقد دفعه للطباعة، دون ذلك، لحاجة الحركة القومية الاجتماعية إلى كتاب من هذا النوع، وفي قول سعادة الواضح هذا يمكن تلّمس «الحذر العلمي» الذي هو من سمات المؤلفين والمفكرين الباحثين في شؤون الإنسان ومصير المجتمعات والأمم.

يعتبر «نشوء الأمم» الكتاب المتكامل الأول الذي وضعه سعادة وفق منهج محكم وواضح. لكن، هل يمكن اعتباره كتاباً عقائدياً؟ أي خاصاً بالعقيدة السورية القومية الاجتماعية؟ وبالتالي، كتاباً ملزماً بمضمونه للقومي الاجتماعي، أو للمقبل على اعتناق العقيدة؟؟

من المؤكد أنَّ السوري كي يصبح قومياً اجتماعياً، لا يقع تحت شرط معرفة «نشوء الأمم»، بل يجب عليه أن يؤمن بمبادئ الحزب وغايته ويضع نفسه في إطار مؤسساته الدستورية ونظامها الحقوقي، وهذا يعني استنتاجاً، وكما قال سعادة إن «نشوء الأمم» هو كتاب علمي بحت، غير أن الحركة القومية الاجتماعية تحتاج إليه بوصفها نهضة ذات نواة: عقائدية – علمية في آن. وهذه النواة هي ما تجعل من مجالات النهضة وأفلاكها واسعة مفتوحة تتجاوز في تأثيراتها فلك «الحزبي الملتزم» لتصل إلى فلك الحقل العام وإلى أقصى دائرة اجتماعية مفترضة. وإذا كان «نشوء الأمم» كتاباً علمياً، وغير مفروض الأخذ به ومعرفته كشرط ملزم وإجباري للمقبل على عقيدة سعادة، فهل يعني ذلك أننا يمكن أن نستبعده من فضاء النهضة وإرثها ومرجعياتها ونظامها الفكري؟!

الجواب: لا قاطعة.

لأن سعادة، لم يأت بأفكار متناثرة وعشوائية، دون نسق أو منهج، هو جاء بـ«فكر» ليخدم قضية، ويصح القول أكثر أنه شكّل «نظاماً فكرياً». وعلى ذلك لم يكن يريد أن يقول للمجتمع السوري، على نحو تعسفي، أنه يشكّل أمة، دون أن يحدد، وفق علم الاجتماع ووفق معطياته الأخيرة، ما هي الأمة؟ وكيف تطور المجتمع البشري واكتسب في مراحله المتتابعة الصفات والمزايا التي أوصلته إلى حالة ودرجة الأمة.

تحت ضغط هذه الحاجة العلمية، بدا سعادة على عجلة من أمره لإصدار الكتاب، وعندما أنشأ الندوة الثقافية المركزية وأوكل إدارتها لفخري المعلوف، كان برنامجها الأول هو دراسة كتاب «نشوء الأمم».

لكن، هل يغامر سعادة إذ يضع لعقيدته جذراً علمياً خاضعاً لمبدأ النسبية وللمعطيات القابلة للتجدد الدائم؟!

هل سعادة مغامر حقاً؟!

برأينا، ولهذا السبب بالضبط، يكون سعادة قد وضع عقيدته في فلك آمن. فهو إذ يغرس هذا الجذر العلمي عميقاً في نواة العقيدة، إنما يضعها في النسق المتحرك من التاريخ، فلم يكتبها كنص مغلق ويلصقها على مسار الزمن، حيث توهم بالحركة فيما هي جثة هامدة ينقلها الزمن من قبر إلى قبر آخر؟

إن الأمان، ها هنا، يتأتى في مستواه الأول، من حضور العلم منهجاً ومعطيات، وليس من غيابه قطعاً. واستطراداً يكون النقد أحد لزوميات المنهج العلمي، وأحد أهم الأسلحة التي تمكّن العقيدة من الدخول في عملية تشكيل التاريخ والتفاعل مع أحداثه عبر الزمن والتأثير في حركته، فيما قطار النصوص المغلقة يعبر الزمن على خطٍ موازٍ فلا يرى التاريخ أبداً.

لا يعيب «نشوء الأمم»، ولا بأي معنى، أنَّ منهجيات علم الاجتماع يصار إلى استحداثها، أو أنَّ معطيات جديدة تفرض نفسها عليه، كما بالطبع لا يعيب «مقدمة ابن خلدون» أن علم اجتماع عملاق تجاوز معطياتها، ذلك لأنه وفي الحالات كلها ثمة مكانة لـ«المقدمة» الخلدونية لا يمكن تجاوزها في سياق التدرج في فهم تاريخ وفصول علم الاجتماع، كما بالتأكيد ثمة مكانة لـ«نشوء الأمم» لا يمكن تجاوزها منهجياً وتاريخياً، وإن كانت مقموعة لأسباب سياسية ولأحقاد ودوافع «لا فكرية» سوداء.

هل يغيب كتاب «نشوء الأمم» عن مناهج الكليات والمعاهد الجامعية لأسباب علمية؟! بالتأكيد: لا.

إن «نشوء الأمم» كتاب اقتحم الثقافة الديماغوجية بالمنهج العلمي، فهل يخاف النقد؟

قطعاً لا، لأنه لا يخاف من نفسه.

سعادة: اليهود.. اليهودية!!

هل ثمّة تحقيل خاص بـ«اليهود واليهودية» عند سعادة؟ أي، هل تناول سعادة ما سمّي في الأدب السياسي الأوروبي «المسألة اليهودية» على نحو منهجي مستقل، مناقشاً وباحثاً في فصولها وحيثياتها ومقدماً تصوراً خاصّاً أو رؤية محددة لها؟ طبعاً: لا.

وهذه الـ«لا» تؤشر على نحو مؤكد إلى أنَّ لا وجود لـ«المسألة اليهودية» في تاريخنا، خصوصاً الحديث منه، على التوازي مع الحضور البارز لها وعلى نحو إشكالي في التاريخ الأوروبي عموماً بما فيه الروسي، وخصوصاً في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، بما يمكننا من تحقيل «المسألة اليهودية»،كما أصبح معروفاً، في الإطار الأوروبي واعتبارها مسألة أوروبية في منشئها، كما في سياق تطورها، كما في مآلها الأخير وشكل وكيفية تصديرها وتوضّيعها كـ«مشروع صهيوني» في فلسطين. يفترض الانتباه هنا، أن «المسألة اليهودية» هي المصطلح الأم، فيما «الصهيونية» هي مصطلح مستولد منها، ولهذا التعاقب الزمني أهمية نابعة من كون «الصهيونية» هي «المشروع» الذي توضّعت وفقه «المسألة اليهودية» الأوروبية وارتسمت «دولة مركزية» في فلسطين، ذات مرجعية متفاوتة الحضور على «الشتات اليهودي» في العالم.

وبالنظر لتمايزها في حقل خاص، بدت «المسألة اليهودية» مألوفة و«تحت يد» العديد من المفكرين الأوروبيين الذين تناولوها بحثاً وأبدوا تصوراتهم حولها دون أية تحفظات يمكن إشهارها في وجههم كما يحدث الآن، فما كتبه فيدور دويستوفسكي «1821 ـ 1881» الأديب الروسي الأشهر مثلاً في هذه المسألة، لو كتبه الآن لما كنا قرأنا رواياته الخالدة وربما لم يكن ليتسنى له طباعتها، ولنال مصير المفكرّ الفرنسي روجيه غارودي «1913 ـ 2012»الذي تطاول في كتابه «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية» على المسموح به في هذا المجال!! فنال ما ناله من إقصاء وإبعاد وصل إلى حدود الإلغاء من المشهد الثقافي الفرنسي والعالمي.  كارل ماركس نفسه كتب بحثاً مستقلاً بعنوان المسألة اليهودية وغيره العديد من المفكرين الأوروبيين[3].

وإذا كان سعادة قد تناول أحياناً اليهودية كدين في معرض بحثه في المسيحية والمحمدية مقارناً، فإنه لم يأت على بحث «مصير اليهود» في التاريخ ولم يقدّم أية رؤية مستقلة بذلك.

إذن، كيف قارب سعادة وجاء على ذكر «اليهود» ولماذا؟!

القضية المركزية والوحيدة التي شغلت سعادة وكرّس لها كل جهوده هي قضية الشعب السوري ومصيره، وفي إطار بحثه في هذه القضية وما يرتبط بها ويدور في فلكها، تاريخياً والآن، جاء سعادة على ذكر اليهود ولاحظ أن «الاثنية اليهودية» التي تمت المحافظة عليها بفعل التعاليم الدينية ظلت على مسافة من النسيج الاجتماعي السوري الذي تفاعلت مكوناته وتوحدت في إطاره. المسألة هنا تقع في حقل «علم الاجتماع» وليس في حقل السياسة ومصطلحاتها وقاموسها.

كان سعادة رائداً واستشرافياً في التحذير من خطر المشروع الصهيوني منذ أن كان في مغتربه شاباً إلى جانب أبيه، منذ العام 1925، بل إنه تنبأ بأن مشروع الحركة الصهيونية وما تقوم به في فلسطين سيتوقف مصير العالم برمته عليه، كان ذلك في رسالة مفتوحة وجهها إلى رئيس وزراء بريطانيا لويد جورج في العام 1931.

من المؤكد أن المبادئ التي طرحها سعادة والخاصة بوحدة المجتمع، تقوم أساساً على نفي تحقيل المجتمع باعتباره «جماعات» ترتبط بجسور قابلة للتدمير لأوهى الأسباب، بل يعتبر أن الشعب السوري مجتمع واحد، وفي هذا عدم استثناء أي وجود يعرّف نفسه كجماعة اثنية أو دينية  بكونه متعضٍ في نسيج هذا المجتمع.

مبدأ سعادة واضح لا لبس فيه: توحيدي انصهاري.

المشكلة إذن في «الجماعات» التي تواظب على النظر إلى نفسها كوجود خاصٍّ مستقل لأسباب إما إثنية أو دينية – مذهبية وتشكّل ثقافة خاصة بها تمنعها من الاقتراب من ذلك المصهر التوحيدي.

إن الخصوصية التي توصف بها «الجماعة اليهودية» في التاريخ ليست من عنديات سعادة، بل إن هذا الوصف والتمييز لها مؤسس في أدبياتها نفسها، كما في مرجعياتها الدينية المقدّسة، كما في الأدبيات التي تعاملت معها مثل الأدبيات الأوروبية التي ناقشتها تحت عنوان: المسألة اليهودية.

إذاً، «الجماعة» هي من تصف نفسها بما هي.

و«الأوروبيون» هم من بنوا على هذا الوصف ما يؤكده.

وسعادة جاء على ذكر هذا الوصف في إطار بحثه في قضية شعبه، ولم يبحثه على سبيل التخصيص، كما لم ينحت أي مصطلح خاصٍّ بهذا الحقل، ولم يقل أنه وصل إلى استنتاجات جديدة، غير معروفة، ولا أيّة «اكتشافات معرفيّة» غير مسبوقة!!

هذا هو المفصل المنهجي المميز، الذي يجنّب الباحث أو المفكّر إساءة فهم سعادة، والركون إلى استعراض عبارة «تعبوية» استخدمها ذات مرة، وترك منهجه العام الذي حكم تفكيره ونظامه الفكري، والذي يؤكد دون أدنى ريب ألّا وجود للمسألة اليهودية كتحقيل خاصٍّ مستقل عنده، وأن القضية هي قضية الصراع مع المشروع الذي أنتجته هذه المسألة وهي الصهيونية ومرتسمها دولة إسرائيل، حيث الصراع معها ليس اثنياً ولا دينياً فالمسألة الفلسطينية، كما يؤكّد سعادة ليست مسألة إسلام ويهود بل مسألة قومية من الطراز الأول.

خلاصة: سعادة: داخل / خارج: النقد؟

إنَّ سيرة أنطون سعادة (1904 ـ 1949) مميزة وخاصّة، بما انطوت عليه من فصول متعددة حافلة بإنجازات استثنائية فكرية وعملية، وصولاً لاكتسابها طابعاً ملحمياً وصل إلى ذروة حضوره في فجر استشهاده يوم الثامن من تموز 1949. وبمقدار ما تحمل هذه الملحمية من خاصّية تعبوية وملهمة جعلت من سعادة دائم الحضور في حزبه وعلى علاقة دائمة ومستمرة واستثنائية مع مريديه، فإنها بالمقابل شكّلت وتشكّل «ثقلاً ضاغطاً» يكاد لا يحتمل على العديد ممن يعملون في الحقل العام السياسي منه خصوصاً فضلاً عن الثقافي والفكري.

وإذا كانت هذه «الملحمية» مسؤولة، على نحوٍ ما، من إبقاء سعادة في خيال مريديه قصيّاً وبعيداً عن حقل النقد، فإنها في الوقت نفسه، وبسبب من ثقلها الضاغط، شكّلت «عبئاً» رازحاً في خيال نقّاده وخصومه بوجه خاص. لا يخفى أبداً، أن بعض النقد، بل أغلبه، الذي تم توجيهه لسعادة، تأسس على رغبة مسبقة بمحاولة تحطيم «الغلاف الملحمي» الطاغي في شخصيته.

هل يعني ذلك أننا نضع سعادة خارج حقل النقد؟ لا، أبداً. لكننا نحاول التحذير من تلك «الرغبوية» النقدية المسبقة التي تحركها دوافع لا تبدو على علاقة بالمسائل المعروضة على مشرحة النقد.

لا يخفى، أيضاً، ومن جهة أخرى، أن «الملحمية» تنتج صورة «لا اعتيادية» عن الشخصية المعنية على نحوٍ يقرّبها من «المقدّس»، وفي هذه الحالة يفترض بالنقد، كي يتمكّن من أن يكون مقنعاً ومجرداً، أن يحسّن أدواته ومنهجه ويمتشق أفضل أسلحته لا أسوأها ولا أكثرها اعتيادية.

لكن، ما هي وظيفة الناقد بالأصل؟ وما هي غاية النص النقدي؟ وهل الناقد هو الأستاذ المصحح لـ«نصّ» قدمه تلميذ وإن كان بمرتبة مفكّر؟ وهل الناقد استطراداً، هو من يمتلك القراءة الأخيرة الصحيحة.. المطلقة؟

تساؤلات مثل هذه، قد تحتاج، إلى أبحاث مطوّلة، لكننا ومن ضمن نطاق البحث الذي نحن فيه، نرى أن الناقد هو قارئ خاص يمتلك أدوات ومنهج وقاموس تختلف عن تلك التي يعتمدها القارئ العام، وعلى ذلك فإن قراءته للنص تأتي في سياق مختلف لكن دون وظيفة تصحيحية إلّا في الأخطاء المنهجية والمعلومات والتوثيق وشؤون تحرير النصوص. بهذا المعنى، تشكّل القراءة النقدية نصّاً موازياً ومتمماً أحياناً للنصّ المقروء محل النقد، بل نصاً ضرورياً له كي يتموضع على نحوٍ أكثر رسوخاً في مخيلة أو عقل القارئ العام. وعلى ذلك لا يجب أن يكون الشغل الشاغل للناقد التنقيب عن خطأ ما وقع فيه المفكّر أو الكاتب أو الفيلسوف، في أحد نصوصه وفي مناسبة ما، لا قيمة فعلية له في السياق العام لفكر هذا المفكر وعقيدته ومنهجه. (لو اقتطعنا من كتاب المسألة اليهودية الذي وضعه كارل ماركس عبارة: المال إله اليهود، ماذا كنا سنقول عن ماركس؟ لاسامي، عنصري!!)

وفق هذه المنهجية، يفترض بقارئ سعادة سواء أكان ناقداً أو باحثاً أو تلميذاً «سعادياً»، ألّا يؤسس قراءته لنصوصه باعتباره «مطلقاً»، بل بكونه رجلاً ومفكراً «نسبياً»، وتميزه واستثنائيته إنما مستمدة من هذه النسبية نفسها، وهو الذي أكد بوضوح أن «كل مطلق هو نسبي مهما قيل عنه أنه مطلق..»، وبذلك نعيد التأكيد أن النسبية هي التي توفر عوامل الأمان الضامنة لقدرة عقيدة سعادة على الاستمرار والارتقاء وتأكيد أطروحتها في الواقع.

إن تأسيس قراءة سعادة، أية قراءة وبأي مستوى نقدي، إلى كونه «مطلقاً»، سيؤدي حتماً إلى توسّل الوقوف على خطأ ما.. أي خطأ، ربما وقع فيه، حتى ولو كان إملائياً أو نحوياً، وسيصار إلى انتشال هذا الخطأ المفترض من مكانه، وعزله وإعادة بسطه وحيداً وعرضه على منصّة مرتفعة وتكبيره وتضخيمه ليملأ المنصّة ويفيض عنها فلا يُرى شيء غيره!

فيما القراءة المؤسسة على «النسبية» تتجه نحو مضمون عقيدة سعادة وفلسفته ومنهجيته لتكشف جوانب فيها غير معروفة أو غامضة، وتراجعها وتقدم رؤية خاصة بها وتقرأها في ضوء مستجدات الواقع وعلاماته وظواهره.

لم يكن سعادة من أصحاب «التّرصيع اللغوي»، ولم يكن مهووساً بصياغة فقرة أو نص «إعجازي»، ولم يكن لديه الوقت الكافي الذي امتلكه مثلاً الأديب الفرنسي غوستاف فلوبير[4] كي يقضي ليلة بطولها لصياغة جملة واحدة من روايته «مدام بوفاري»!

كان سعادة في لجّة حركة الواقع وأحداثه، وكتاباته وأطروحاته جاءت في هذا الحقل تماماً، ولم تخرج من مكان معزول عن الحركة وبعيدة عن إيقاع التاريخ ، لأنها لو كانت كذلك وإن جاءت متخمة بالإعجاز الأسلوبي والفيض المعلوماتي، فإنها لن تكون إلا «كالجهالة التي لا تضر»!! كما قال هو نفسه.

الحقل الثاني

النهضة والحزب وأزمته

هل الحزب في أزمة؟ ومنذ متى؟ ولماذا؟ وما هي طبيعة هذه الأزمة؟

نعم، الحزب السوري القومي الاجتماعي في أزمة. والسبب: لأنه لم ينتصر بدعوته، وبالتالي بمجتمعه، على نحوٍ نهائي حاسم. وبسبب من طبيعته الخاصّة، لازمته الأزمة منذ تأسيسه، ما دفع سعادة إلى حلّه وإعادة تأسيسه لأن واحداً من الخمسة الأوائل لم يتمكن من فهم فحوى الحزب تماماً، وسيظل هذا «القصور في الفهم» ملازماً لمسيرته جنباً إلى جنب مع محاولات متعددة لإبعاده عن «حالته النهضوية» وأخلاقها وقيمها ومثلها وغايتها النهائية العظمى. وقد تجلّت أزمة الحزب واقعاً على مدى تاريخه، بأشكال مختلفة تدرّجت من حالة العطالة الإدارية إلى حالة القلق وعدم الاستقرار القيادي، وصولاً إلى حالة الانشقاقات التنظيمية المرافقة دائماً لأحداث سياسية كبرى.

بنيوياً، ثمّة أزمة تتمثل في العلاقة ما بين الحزب والنهضة، ما يؤدي للتساؤل الإشكالي التالي:

هل الحزب هو النهضة؟ أو لا يعدو كونه «أداة» لتحقيقها وإنجازها؟ وما هي وجهة الاختلاف بينهما؟

في إرث سعادة ثمّة مصطلحات ثلاثة، كان يستخدمها في الاتجاه نفسه: النهضة، الحزب، الحركة. وإن كان استخدامه للحزب سائداً أكثر من استخدامه للحركة أو للنهضة التي أكثر من استخدامها بعيد عودته من مغتربه القسري في 2 آذار 1947.

كانت محاضرات الندوة الثقافية في النصف الأول من العام 1948، والتي جمعت لاحقاً وصدرت بكتاب يحمل عنوان «المحاضرات العشر»، هي النصوص التي أسهب سعادة من خلالها شارحاً معنى النهضة ومآلها والحزب وخصوصيته. من المؤكد أن مغترب سعادة القسري والطويل (1938 ـ 1947) وابتعاده عن القيادة المباشرة للحزب في الوطن في تلك الحقبة الهامة، كان السبب الرئيسي الذي سمح وسهّل لقيادة الحزب ،آنذاك ،العمل على تطبيع الحزب سياسياً وثقافياً مع ما يتفق مع «الواقع اللبناني». وفي هذه المحاولة بدت أزمة الحزب في إحدى أشد لحظاتها احتداماً. حينها، بدا الحزب غير ذاته، كما بدا بعيداً عن النهضة التي أرادها سعادة لشعبه.

في شروحاته العقائدية، صاغ سعادة سردية متكاملة للتدليل على أن الحزب «غير اعتيادي» وفق مصطلحه هو. أي لا يشمله تعريف الأحزاب السياسية الموجودة في الواقع. فالحزب بحسب سعادة «فكرة وحركة تتناولان حياة أمة بأسرها» كما أكّد في الخطاب المنهاجي الأول الذي ألقاه في العام 1935، فيما النهضة هي «خروجنا من التخبّط والبلبلة والتفسّخ الروحي بين مختلف العقائد إلى عقيدة جلية صحيحة واضحة نشعر أنها تعبّر عن جوهر نفسيتنا وشخصيتنا القومية الاجتماعية. إلى نظرة جلية، قوية، إلى الحياة والعالم . المحاضرة الأولى». ثم يعود سعادة ليؤكد أن الحزب هو الوسيلة التي «تؤمن حماية النهضة القومية الاجتماعية الجديدة في سيرها» ويتابع قائلاً «فأسست الحزب السوري القومي الاجتماعي ووحدت فيه العقائد القومية في عقيدة واحدة.. من رسالته إلى المحامي حميد فرنجية ـ المحاضرة الثالثة».

من الصعوبة إيجاد مسافة ما بين «الحزب» و«النهضة»، ومن الصعوبة التفريق بينهما، فطالما أن جواب السؤال التالي: هل توجد نهضة وتستمر وتنتصر دون الحزب؟ وهل يكون الحزب السوري القومي الاجتماعي نفسه دون النهضة؟ فطالما أن جواب هذا السؤال سيظل: لا. لا. لا. فهذا يعني أن الحزب هو «مرتسم» النهضة وهو «كينونتها» وهو «حركتها» وبالمقابل هي روحه وفلسفته ومضمونه، ولذلك يكون الحزب هو «الأمة السورية مصغّرة» وفق الحقيقة الحرفية المجردة، كما أكّد سعادة.

إن نفي صفة الاعتيادية عن الحزب واعتباره «لا اعتيادياً» لا يعرّفه بمضمونه وجوهره ومآله. غير أن هذا النفي يؤكد أن الحزب يقع خارج حقل الأحزاب السياسية الاعتيادية الموجودة، وهذا يعني أنه خارج هذا الحقل بالتعريف، فما هو، إذن، هذا الحزب غير الاعتيادي؟

بكل تأكيد هو حزب النهضة، التي لا يمكن أن تتجسد واقعاً دونه، والذي يفقد «لا اعتياديته» إذا غادرها.

تأسيساً على هذا التوصيف، يمكن التساؤل:

ما الذي جرى، ويجري، في تاريخ الحزب ومسيرته، وأنتج مثل هذه الأزمة التي يتم التعبير عنها دائماً بأن الحزب بعيد عن النهضة؟

منذ الاستقلالات الكيانية في أربعينيات القرن العشرين «الشام ـ لبنان»، واجه الحزب معضلة تطبيعه مع الواقع السياسي الناشئ والقائم، وهذه المعضلة ناتجة بالأصل من كونه حزباً «لا اعتيادياً» ويفترض في الوقت نفسه، خضوعه للشروط التي تخضع لها «الأحزاب الاعتيادية» حتى يكون مقبولاً ومكوناً من مكونات هذا الواقع.

لاشكّ أن سعادة، بعيد عودته في العام 1947، أسقط محاولة تطبيع الحزب على مقاس الواقع اللبناني، وأعاده «غير اعتيادي» ليكون حزب النهضة، ثم حاول التعاطي مع الواقع السياسي اللبناني والشامي وفق ما يسميه هو منهج «المدرسة السياسية الدقيقة الفكر» التي تتميز بالمرونة على حد قوله، محاولاً الانخراط في أحداث الواقع الذي ترسم سياسته الأنظمة القائمة والحاكمة، غير أن ذلك الواقع برمته كان متعضّياً في بنية نظام إقليمي – دولي لا يملك من السعة ما يمكّنه من قبول منهجية سعادة «غير المألوفة»، ما أدى إلى تلك المواجهة التي دفعت سعادة لتقديم نفسه صبيحة الثامن من تموز فداء لنهضوية الحزب.

في تلك الموقعة التراجيدية، انتصر الحزب ضد محاولات تطويعه وتطبيعه وربح نهضويته وأكّدها ورسّخها، ولكنه بالمقابل خسر معركته ضد الواقع القائم الذي بدا شديد التعقيد.

ومنذ ذلك التاريخ، بدت هذه المعضلة جاثمة أمام الحزب، مستمرة ودائمة، فكان على قياداته المتعاقبة أن تعمل على حفظ نهضويته من جهة، وعلى تأمين انخراطه في الواقع القائم مرة جديدة، من جهة مقابلة.

بعد ضرب الحزب وقواعده وبيئته في العام 1955 في الشام، إثر اغتيال العقيد عدنان المالكي، وبعد ضربه على التوازي في لبنان إثر فشل محاولته الانقلابية على النظام اللبناني في العام 1961، بدا وكأن الحزب قد لحقت به خسارة استراتيجية لا يمكن تعويضها بسهولة، في إطار معركته لتغيير الواقع السياسي في أي من كيانات الأمة، وتأسيس واقع بديل نهضوي. بالمعنى العملي، بدأ الحزب يتخذ وضعية دفاعية في محاولة منه لإيجاد فسحة له في هذا الواقع الذي أراد أن يغيره؟

هنا، تماماً، بدت إشكالية افتراق الحزب واتخاذه مسافة افتراضية عن معنى النهضة، تتضح على نحوٍ جلي. فكيف لحزب يعرّف نفسه:

بالنفي: بأنه ليس حزباً اعتيادياً مثل بقية الأحزاب.

بالإيجاب: بأنه نهضة شاملة تنهي الفوضى والبلبلة والغموض وتنتج الوضوح واليقين بعقيدة واحدة موحدة جامعة وشخصية قومية واحدة للأمة.

كيف لهذا الحزب أن يجد لنفسه فسحة / مكاناً في الواقع؟

أي، كيف لحزب أن يكون جزءاً من واقع سياسي، هو نفسه غير راضٍ عنه ومنقلب عليه ويعتبره نقيضاً له ولنهضته؟. فما هو «غير اعتيادي» يجب أن يكون «اعتيادياً» إذا أراد أن يكون مقبولاً في «الواقع القائم» ومكوناً من مكوناته.!

ثمة أحداث كبرى وقعت، ابتداءً، من منتصف ستينيات القرن العشرين، لعبت دوراً ملحوظاً في الكيفية التي أعاد فيها الحزب إنتاج ذاته وتقديمها، إثر خسارته الكبرى في لبنان كما في الشام:

1 ـ تأسيس المقاومة الفلسطينية وانطلاق شرارتها الأولى في العام 1965، وحضور هذه المقاومة المتزايد في الواقع السياسي للكيانات والأنظمة السياسية خصوصاً في لبنان والشام والأردن والعراق.

2 ـ هزيمة 1967، وخروج إسرائيل من خريطة 1948 وتقدمها على جسد الكيانات المجاورة، وصولاً إلى اجتياحها لبنان في عامي 1978، 1982، ونشوء المقاومة الوطنية اللبنانية، التي بدأ الحزب عملياتها باكراً، ومن ثم تطور الصراع مع اسرائيل ووصوله إلى ما هو عليه راهناً.

3 ـ اتخاذ دمشق مكانة مركزية إقليمياً، مع وصول الرئيس حافظ الأسد إلى السلطة، وإنجاز حرب تشرين 1973، ومن ثم التدخل في لبنان 1976، بعيد بداية الحرب الأهلية ذات الامتدادات الإقليمية – الدولية، ومن ثم رسوخ دمشق كمركز لإدارة الصراع مع إسرائيل من خلال اعتماد إستراتيجية مركّبة سياسية ومقاومة في آن.

ستوفر هذه الأحداث العوامل التي ستمكّن الحزب من إعادة ترسيم نفسه في الواقع القائم.

ولكن أي واقع هذا، هل هو نفسه الذي كان سائداً قبلها؟

من المؤكد أن إعادة تموضع للقوى السياسية حدثت بعد هذه المتغيرات، كما أن قوى جديدة برزت وأخذت مكاناً لها فيه.

غير أن هذه الأحداث جعلت من حضور «العامل الإسرائيلي» في هذا الواقع، متقدماً على نحوٍ غير مسبوق، ما مكّن الحزب من تأكيد أطروحته بصدد الصراع مع «المشروع الإسرائيلي»، واعتماده قاعدة أساسية في إطار تموضعه في شبكة الواقع، ما جعل الموقف من هذا الصراع هو المقياس الأول الذي يبني فيه الحزب عمارته وعلاقاته مع قوى هذا الواقع.

وإزاء صراع وجودي من هذا الطراز، واعتباره أولية للحزب، بدت العناوين الاجتماعية والاقتصادية وحتى الثقافية متراجعة في برامج الحزب. ويمكن القول إن حقبة تعايش مع «الواقع القائم» بدأت على نحوٍ رسمي في لبنان مع تنفيذ اتفاق الطائف ابتداءً من العام 1990، وفي الشام مع دخول الحزب في إطار «الجبهة التقدمية الوطنية» ابتداءً من العام 2005 ، وبالتالي بدا الحزب «اعتيادياً» مثل غيره، بالمعنى السياسي. تتمثل الإشكالية هنا في كون الأولوية التي هي من مرتبة وجودية وتطاول مصير المجتمع والأمة هي ما تحكم خيار الحزب واتجاهه وتموضعه، وبالتالي إن الأثمان المدفوعة في سبيل تكريس هذه الأولية ستكون هي عنوان الأزمة التي ليست سوى رؤية مسافة أو فراغ ما بين الحزب والنهضة؟!

إزاء المتغيرات التي أعادت ترتيب القوى والأحزاب السياسية، تأسيساً إلى رؤيتها للصراع مع «المشروع الإسرائيلي»، أعاد الحزب تموضعه، وسط شبكة تحالفات [لا تعجب أسعد أبو خليل، كما لا تعجب العديد من المفكرين، بل وأيضاً العديد من القوميين الاجتماعيين]، كما وسط نسق خصومات مع أطراف وأحزاب، منها ما هو قديم، ومنها ما هو مستحدث وأحد إفرازات الهزيمة أمام إسرائيل، والحقبة النفطية الخليجية، فضلاً عن الليبرالية الرأسمالية المتجددة [طبعاً يعيب أسعد أبو خليل على الحزب طريقة تعاطيه مع أخصامه بتخليه عن سياسة ردع الخصوم وعدم أخذه بالثأر لمجزرة حلبا، في الوقت الذي كان قد استلفت انتباهه كيف أن سعادة في نشوء الأمم اعتبر أن عادة الثأر عند العرب ناتجة من كون التشكيل القبلي لا يقيم وزناً للفرد إلا بكونه قيمة عددية تراكمية، فيما أسعد أبو خليل يقول بأنه نوع من الشرطة الذاتية بغياب الدولة! فكيف يستقيم أن يعمل الحزب بمنطق الثأر الذي «يحقّره» سعادة من جهة، والذي يعتبره أبو خليل ضرورياً لغياب الدولة، في وقت يفترض الحزب فيه أن الدولة قائمة وهو شريك فيها؟]

الحزب، أي حزب، وبمعنى ما، هو «كائن: سياسي – اجتماعي»، وهو افتراضاً يتوضّع إلى جانب «كائنات» من جنسه. أي أنه محاط بقوى يقترب من بعضها ليصل إلى مرحلة التحالف ويبتعد عن بعضها الآخر ليصل إلى مرحلة الخصومة. فالتقارب والتباعد والتحالف والتخاصم هي حالات تحكم وجود «الكائن» الحي الفاعل والمؤثر عبر حركته في خريطة الواقع القائم.

لا التحالف السياسي يفترض تطابقاً عقائدياً أو فلسفياً ولا حتى أخلاقياً، حتى يستهجن أسعد أبو خليل تحالف الحزب مع «النظام السوري» ذي النزعة القطرية وصاحب القومية العربية؟، وحتى يشترك في الحكومة اللبنانية ما يعني قبوله باتفاق الطائف ونهائية الكيان اللبناني؟!

كما أن الخصومة السياسية من جهة مقابلة لا تفترض نفياً شاملاً وعداوة وجودية.

ثمة أسباب تفرض التحالفات،

كما ثمة أسباب تؤدي إلى الخصومات.

من المؤكد أن التحقيل الكلاسيكي الأوروبي للأحزاب بتصنيفها يمين ويسار وإقحام بعضها في الوسط، ومن ثم يمين ويسار الوسط ويمين اليمين.. إنّ هذا التحقيل لا يمكن اعتماده، ولا بأي أسلوب في مقاربة توضّع الحزب السوري القومي الاجتماعي، ولا حتى الأحزاب الأخرى إلى جانبه أو على خصومة معه. وإن البحث عن تجانس عقائدي كامل يبرر التحالف، كما البحث عن تناقضات عقائدية تفسّر الخصومة، لا يستقيم هنا تماماً، فطالما أن الأولية الحاكمة لمنهج الحزب تتمثل بالصراع الوجودي المصيري مع «المشروع الإسرائيلي» ومع مشاريع مستحدثة ومساندة له وتتمثل راهناً بـ«التنظيمات الارهابية ـ التكفيرية» والاستراتيجات الكبرى التي تديرها وما يدور في فلكها، فإنه من الطبيعي أن يتموضع الحزب إلى جانب القوى والكيانات التي تعتمد الأولية نفسها.

لذلك الحزب إلى جانب دمشق،

وإلى جانب بغداد،

وإلى جانب القوى الفلسطينية التي تواصل مواجهة «إسرائيل».

وإلى جانب لبنان في جناحه المقاوم.

وعلى خصومة مع لبنان في جناحه المتواطئ.

هل من تجانس عقائدي بين الحزب وحزب الله، وهما يتوضّعان راهناً جنباً إلى جنب؟ هل يتجانسان في معنى الهويّة؟ أو في مضمون الخطاب الاجتماعي.؟

ماذا نفعل بـ«العلمانية»؟

وهل الحزب مع القومية العربية البعثية أو الناصرية؟

لكن، هل الشام مع القومية السورية؟

هل الحزب مع ولاية الفقيه؟

لكن، هل حزب الله مع مبادئ سعادة الإصلاحية؟

أو حتى مع النسخة التخفيفية والخجولة، والغامضة للعلمانية في دمشق؟

أسئلة وتساؤلات كبرى، مهمة، وضرورية. لكن في لحظات الخطر الوجودي المصيري، وللحفاظ على هذه الأسئلة ذاتها، يقوم ذلك «التحالف المقاوم» الذي يضمن استمرارها حيّة للمستقبل، ذلك لأن الأسئلة الكبرى لا تموت مع المقاومة التي تحرسها وتصونها، فيما يتم سحلها بالهزيمة والاستسلام.

وفي ذلك كله وغيره، نتساءل:

هل تخلّى الحزب عن عقيدته أو حرّف فيها أو غيّرها؟

هل تخلّى الحزب عن مبادئه؟ ورضخ لمبادئ الواقع الذي يشارك فيه؟

هل تخلّى الحزب عن غايته؟

هل تخلّى الحزب عن مشروعه التغييري الكبير؟

رغم الأعباء الكبرى التي تقع على كاهله، ورغم التمزقات التنظيمية التي طاولته ولازالت، ومحاولات تطويعه وتطبيعه كحزب اعتيادي، إلا أن الحزب ظلَّ محافظاً على نفسه وظلّ يقدم عقيدته النهضوية ودعوته لشعبه أن يأخذ بها، ولكنه لم يتمكن من إيجاد المرتسم «السياسي» لهذه العقيدة التي لا تحتمل التطبّع مع الواقع القائم بأي شكل من الأشكال.

هنا، والآن، تكمن أزمة الحزب بنيوياً، وفي هذا المجال يفترض بمفكريه ومرجعياته أن تعمل جاهدة وتستنبط الحلول التي تزيل ذلك الفراغ المحسوس ما بين الحزب والنهضة.

هل يكمن مفتاح الوصول إلى هذه الحلول في ذلك الباب الذي أسماه سعادة: مدرسة الحزب الدبلماسية الدقيقة الفكر، والمرنة؟!

ما هي هذه المدرسة؟

ذلكم تساؤل نضعه أمام العقل القومي الاجتماعي.

خلاصة أخيرة: اقتراح منهجي ودعوة

تعرّض سعادة والحزب معه لقراءات متعددة متغايرة وذات مناهج مختلفة، وبسبب من الثقافة السياسية المبتذلة اللغة والقاموس والغاية، التي أشهرت في وجه الحزب وسعادة لأسباب سياسية محض، بما جعل الدراسات والأبحاث الجدية والمرموقة لا تظهر إلّا ابتداءً من سبعينيات القرن الماضي. بسبب من ذلك، ظلّت الكتابات عن سعادة والحزب، تلك التي يمكن أن تشكّل نصوصاً نقدية موازية للنص المرجعي في قيمتها، محدودة جداً ونادرة.

ومن المؤكد أن التحرر والانعتاق من الأفكار المسبقة هو الحالة الضرورية التي تمكّن الباحث من إنتاج نص نقدي مجرد.

برأينا الشخصي، نرى ضرورة ملحّة في قراءة سعادة من قبل تلامذته، أو من قبل المفكرين المستقلين مهما كانت مواقعهم، كما في قراءة واقع الحزب وآفاقه، وفي هذا الوقت بالذات، انطلاقاً من الجملة التساؤلية التالية:

في ضوء الحالة التي وصل إليها مجتمعنا، ووصلت إليها أمتنا، وفي ضوء الأحداث الكبرى التي تعصف بمصيرنا ووجودنا، وفي ضوء المتغيرات العالمية المتسارعة:

هل ثمة حاجة لأنطون سعادة، وفلسفته وعقيدته؟

هل يشكّل الحزب السوري القومي الاجتماعي حاجة مصيرية لهذا المجتمع ولهذه الأمة؟

كيف؟ ولماذا؟ وبأي معنى؟

هذه دعوتنا.

القسم الثاني

سعادة والحزب: مقاربة نقدية

أزمة الحزب السوري القومي الاجتماعي:

النهضة مجدّداً[5]

أسعد أبو خليل[6]

يكنّ مَن تخرّج من وسط التجربة الشيوعيّة الثوريّة (اللبنانيّة والفلسطينيّة) إعجاباً عَن بعد، وبصرف النظر عن الخلاف العقائدي، لجوانب في تجربة الحزب السوري القومي الاجتماعي. فهناك صفات عديدة تميّز بها الحزب، وتفوّق فيها على غيره من الأحزاب. ومنها:

1)  شخصيّة الزعيم. من ناحية، فإن زعامة أنطون سعادة كانت أسطورة من حيث الإفراط في «عبادة الشخصيّة»، والمقارنة بينه وبين زعامة الأحزاب الفاشيّة كانت لعبة خصوم الحزب.

لكن المقارنة ظالمة من ناحية ومحقّة في جانب منها. فمن جانب، هي محقّة لأن للزعيم سلطات واسعة في دستور الحزب ــ وإن كانت محدّدة ــ كذلك فإنه في كتاباته لا يتورّع عن التنويه بمنجزاته (في مقدّمة «نشوء الأمم» يتحدّث عن ثاني محاولة عربيّة في علم الاجتماع بعد ابن خلدون ويعرض بعض المصطلحات التي اجترحها بالعربيّة مثل «المناقبيّة» وهو في ذلك محقّ. كذلك فإنه يقول في «المحاضرات العشر» إنه أوّل من عرّف الأمّة السوريّة ــ بالطريقة التي عرّفها فيها).[7] لكن من ناحية ثانية، فإن الزعيم كان على تواصل ودود غير اعتيادي مع أعضاء الحزب وأصدقائه، وكان مُحاوراً نشيطاً حتى مع منشقّين عن الحزب. والذي قرأ عنه يُعجَب بأنَّ الرجل الذي اتُّهم بالتفرّد والفوهروريّة كان يحاور تلاميذ المدارس والجامعات بصورة لم نعهدها من زعماء أحزاب يساريّة ويمينيّة صغيرة (قارن ذلك بتجربة بعض أحزاب اليسار واليمين في لبنان حيث لجأ زعيم الحزب المُفدّى إلى اغتيال معارضيه، وببساطة شديدة). حاورَ سعادة مطوّلاً غسان تويني وفايز صايغ ويوسف الخال وغيرهم.[8] تقارن ذلك بسلطة جورج حاوي المطلقة في حزبه (لم تحدّ من سلطاته إلا مشيئة موسكو) أو محسن إبراهيم في حزبه أو أبو عدنان في حزب العمل الاشتراكي العربي ـ لبنان أو نايف حواتمه في الجبهة الديموقراطيّة. لكن هل طقوس تحيّة الزعيم تحتاج إلى إعادة نظر؟ هذه تعود للقوميّين ونظرتهم إلى تراث الحزب التنظيمي.

2)  صلابة القيادة والأعضاء. هناك مميزات خاصة لقادة الحزب وأعضائه. إن لمشهد مواجهة سعادة لحكم الإعدام دلالة كبيرة. تقارن صلابة سعادة في طريقه إلى المشنقة بتجربة ميشيل عفلق أو عزيز الحاج في السجن، أو حتى إنعام رعد في سجون المكتب الثاني.[9] وتقارن صلابة سعادة ورباطة جأشه بمشهد «شهداء لبنان» في 1916، من الذين لم تقوَ ركابهم على حملهم إلى المقصلة فجُرّوا جرّاً إليها وهم ينتحبون ويرجون جلاّديهم بالرحمة بهم، حسب شهادات شهود عيان يومها. لو أن سعادة واجه إعدامه بغير ما عُرف عنه من شجاعة وقوّة، لكانت رسالته إلى القوميّين مختلفة، ولكان ميراثه أقلّ رسوخاً. هذه الصلابة عرفتها الثورة الجزائريّة، لكنها أقل شيوعاً في التجارب الحزبيّة المشرقيّة. ابتسم أنطون سعادة بوجه جلّاديه ولم يتنازل قيد أنملة عن عقيدته. لكن سعادة في ما تركه لمناصريه من بعده نجح في تخريج مناضلين ومناضلات من طينة صلبة. أذكر في منتصف الثمانينيات كيف أن «جمعيّة خريجي الجامعات العرب الأميركيّين» في أميركا أرادوا إسماع صوت الحركة الوطنيّة لجمهور عربي وأميركي في واشنطن. وجّهوا دعوة إلى جورج حاوي[10] وعبد الله سعادة.[11] كان الفارق بين الرجليْن كبيراً جداً، وشعر الكثير من الشيوعيّين (العرب والأميركيّين) بين الحضور بغيرة إزاء شخصيّة عبد الله سعادة الاستثنائيّة (هذا الرجل الذي منح ابنه شهيداً للثورة اللبنانيّة في مطلع الحرب الأهليّة، والذي عانى ــ ولم يَلِن ــ من تعذيب سامي الخطيب الوحشي). بقدر ما بدا سعادة ثوريّاً وقويّاً وهادراً، كان أداء جورج حاوي تهريجيّاً ومسرحيّاً. ذُهل كثيرون بقدر الخفّة والهزل في تعامل حاوي مع الأسئلة الموجّهة إليه. أذكر تعليقات الشيوعيّين بيننا يومها أننا نتمنّى لو أن سعادة كان زعيمنا بدلاً من حاوي.

3)  ترك سعادة مؤسّسات حزبيّة فيما فشلت الأحزاب اليساريّة في مأسسة العمل الحزبي وترسيخه. كان كل زعيم لحزب يساري يطبع الحزب ببصماته هو، ويأخذ معه مؤسّسات الحزب (وماله في كثير من الأحيان) عندما يغادر الحزب أو عندما يموت. إن ما حدث أخيراً عندما أبطلت محكمة الحزب رئاسة أسعد حردان لولاية ثالثة (رداً على طعن مُقدَّم لها) استثنائي في تاريخ الحزبيّة اللبنانيّة.[12] هذه التجربة ليست لها سابقة، لا في أحزاب لبنان ولا في أحزاب عربيّة أخرى. لم يكتفِ أنطون سعادة بإلهام جماهير حزبه (وفي الإلهام كان مذهلاً في حياته)، لكن الإلهام الأكبر لزعماء الأحزاب هو في الإلهام بعد الممات عبر مؤسّسات الحزب. وهذا ما ميّز الحزب القومي عن الحركة الناصريّة. ليس هناك مَن ألهم الملايين كما ألهم جمال عبد الناصر في حياته، لكن إلهامه لم يستمرّ بعد مماته، لأنه لم يترك لجمهوره عقيدة ولا مؤسّسات حزبيّة تُذكَر (ما سهّل التهاون بأفكاره فيصبح الناصريّون اليوم ــ بمن فيهم أفراد في عائلته ــ مناصرين للطاغية السيسي، حليف نتنياهو). سعادة ترك الاثنيْن: العقيدة والمؤسّسات الحزبيّة.[13] وقدرة مؤسّسة حزبيّة على إبطال قرار برئاسة مَن تربّع على زعامة الحزب لفترة طويلة وبقوّة مستمدّة من تجربة مسلّحة في الحرب الأهليّة (وبعض هذه التجربة كان في المقاومة الفعّالة ضد العدوّ) يشير إلى قدرة الحزب القومي على الحركة الديناميكيّة المستمرّة وعلى التجدّد في الاستمراريّة.

4)  للحزب نموذجٌ في المبدئيّة تفتقر إليه الأحزاب اليساريّة. تجد حالات من قياديّين وأعضاء من الحزب الشيوعي اللبناني ومن منظمة العمل الشيوعي وقد تحوّلوا إلى الحريريّة وإلى اليمينيّة، وبعضهم ارتقى إلى أعلى مراحل اليمينيّة في الجنادريّة،[14] لكن القومي السوري لا يرتدّ ــ وهذه ظاهرة. قد ينزوي القومي السوري في منزله، قد يبتعد عن العمل السياسي، قد يهاجر ويترك الحزب، لكنه لا يرتدّ ولا ينضمّ إلى حركة معادية لعقيدة الحزب. اختلف قوميّون سوريّون مع أسعد حردان، لكنّ أحداً منهم لم يصبح معادياً لمشروع مقاومة إسرائيل، كما حدث في حالات من شيوعيّين تخرّجوا من الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي. هذا ما يميّز الحزب عن غيره من الأحزاب اللبنانيّة، وهذا يرجع إلى تشديد الحزب على التنشئة العقائديّة في سن مبكّرة. أخذ الحزب القومي التثقيف الحزبي على محمل الجدّ، فيما أهملته الأحزاب الشيوعيّة العربيّة. لم تكن الأحزاب الشيوعيّة اللبنانيّة تطلب من العضو التمرّس في الماركسيّة ــ اللينينيّة، وخصوصاً أن قادة هذه الأحزاب كانوا بالكاد مطلعين على التراث الماركسي أو اللينيني. التثقيف الشيوعي كان مزيجاً من نتفٍ من «ما العمل» للينين (مع حرص على استبعاد «الدولة والثورة» لما في الكتاب الأخير من نزعات فوضويّة ولما في الكتاب الأوّل من نزعات نخبويّة شيوعيّة تفترض تشريب الوعي الطبقي بالملعقة من الطليعة الشيوعيّة للطبقة العماليّة). القراءة الماركسيّة كانت نتفاً من «18 برومير»[15] ولم يكن الحديث عنها معمّقاً. كان التراث الماركسي (وبترجمات في غاية السوء عن «دار التقدّم») بعيداً عن الواقع العربي، ولم يكن هناك من تراث ماركسي محلّي كي يُدرَّس. وحدها الجبهة الشعبيّة[16] طلعت بكتيّب «الاستراتيجيّة السياسيّة والتنظيميّة» (وهي بقلم جورج حبش في مرحلة استقلاليّة الجبهة عن موسكو وفي مرحلة قربها المُبكّر من الصين). والكتيّب كان مذهلاً في ثوريّته، لكنه مأخوذ في بنائه وصيغته عن «تحليل الطبقات في المجتمع الصيني» لماو تسي تونغ[17]. لكن مضمون الكتيّب كان يصيب القارئ الشيوعي الملتزم بالحيرة نتيجة التصنيفات الاعتباطيّة للأنظمة البرجوازيّة الصغيرة، التي كانت في حالة تحالف في يوم مع الجبهة وفي حالة تضاد معها في يوم آخر. أحسن الحزب القومي، وتفوّق في الثقيف الحزبي، لأن أدبيّاته كانت محليّة مرتبطة بالواقع المحلّي وكانت تتسم بقرب من مشاكل المجتمع السوري (وحتى العربي).

5)  ومرتبطاً بالفكرة السابقة، تفوّق الحزب القومي (وهذه نتاج فكر أنطون سعادة) في تلقين العلمانيّة ممارسة ونظريّة (مع أن التعبير عن العداء لليهود كيهود تناقض مع علمانيّة الحزب الصارمة وأضفى بعداً مُستورداً من قوميّات أوروبيّة عنصريّة على عقيدة الحزب). الأحزاب الشيوعيّة العربيّة كانت جد متهاونة في التثقيف العلماني، ولهذا ارتدّ الكثير من قادتها وعناصرها نحو الطائفيّة والفكر الطائفي ونحو الدين والتديّن. هذا قلّما يحدث للقوميّين، حتى لو ابتعدوا عن الحزب لأسباب سياسيّة وتنظيميّة.

6)  أثبت الحزب مرونة عقائديّة وسياسيّة يُحسد عليها. كان الحزب في عام 1958 حزباً شوفينيّاً مرتبطاً بالحلف الرجعي الإقليمي[18] (الملك حسين)، لكن تجربة السجن القاسية (التي لا تُغفر لفؤاد شهاب الظالم) أدّت بالحزب إلى إجراء مراجعة تحوّلت فيها عقيدة الحزب السياسيّة نحو اليساريّة والتقدميّة بعد تطعيمها بشيء من الماركسيّة.[19]

7)  بالرغم من عبادة الشخصيّة[20] للزعيم التي تُؤخَذ على الحزب، فإن هذا الحزب، مقارنة بكل أحزاب الحركة الوطنيّة اللبنانيّة، كان أقرب إلى القيادة الجماعيّة على مرّ السنوات من باقي الأحزاب (وإن شابت قيادة حردان تفرّداً لم يألفه الحزب من قبل). كانت قيادة الحزب تتخذ القرارات، فيما كان جورج حاوي ومحسن إبراهيم وأبو عدنان يتفرّدون بالقرارات المصيريّة والحزبيّة، وغالباً بناءً على إيعاز من رعاة الحزب الخارجيّين.

8)  تمرّس الحزب في فرض هيبته من خلال معاقبة أعدائه على جرائمهم ضد الحزب. لم يعاقب الحزب الشهابيّة على جرائمها ضدّه (وهذا خطأ من أخطاء الحزب، لأن ذلك سهّل من استهداف الحزب من خلال أعدائه)، ولم يثأر لمجزرة حلبا، لكن الحزب عاقب رياض الصلح (وكشف مبكّراً ضلوع تحالف الرجل مع النظام الأردني وعلاقته بالصهيونيّة)، وعاقب الحزب بشير الجميّل على جرائمه الكثيرة.

9)  قد يكون الحزب (تحت قيادة أنطون سعادة) من أوّل مَن بدأ بنفخ النفير من أجل التحضير لمعركة كبيرة مع الصهيونيّة، فيما كانت القيادات العربيّة في الجامعة العربيّة (مثل رياض الصلح، الذي تعرّضت سيرته لتجميل واضح من خلال عدّة كتب استكتبها ورثته في السنوات الأخيرة) تعد الجماهير بخطة «سريّة» لدحر الصهاينة قبل إنشاء دولة إسرائيل في عام 1948. وخلافاً لأحزاب شيوعيّة وغير شيوعيّة، بقي الحزب محافظاً على موقف صلب ومبدئي ضد الصهيونيّة، وتجد أن القوميّين (والقوميّات) في المهاجر هم أكثر العرب جهراً بالدفاع عن فلسطين، وأعندهم في رفض التعاطي مع صهاينة.

لكن إذا كان الحزب يتسم بكل هذه السمات الإيجابيّة، فما هو مكمن الخلل فيه؟ لست في وضع أستطيع أن أدخل فيه إلى منظومة الحزب كي أقدّم تحليلاً تفصيليّاً، لكن يمكن من موقع المُتابع أن يلاحظ المرء أن الحزب وقع في أزمات مثله مثل معظم الأحزاب في جسم الحركة الوطنيّة اللبنانيّة. قد يكون مكمن الخلل الأوّل يتمثّل في التعاطي مع عقيدة الزعيم. يحتاج الحزب إلى مراجعة كتابات سعادة (وبعضها كان كثير الركون إلى الكتابات الأكاديميّة الغربيّة على ما تحمله من نفس استشراقي ومن منهجيّة غير علميّة بمقياس العلوم الاجتماعيّة حاليّاً) بهدف الربط بين الحديث في العلوم الاجتماعيّة التي درسها سعادة وكتب فيها وبين عقيدة الحزب. هذا لا يعني أن سعادة لم يكن ملمّاً بالأكاديميا الغربيّة. كان ملمّاً وهو أكثر اطلاعاً على تلك العلوم، وأكثر تصنيفاً بينها، مما زعم منتقدوه الذين لم يدرسوا كتاب «نشوء الأمم».[21] هذا لا يعني أن الكتاب لم يمرّ عليه الزمن في الدراسات الحديثة. لكن اختزال الكتاب بـ«شكل الجماجم» كما يُؤخذ عليه، لا ينصفه، وكان يصرّ على أن الأمة السوريّة تتضمّن أشكالاً مختلفة من أشكال الرؤوس ــ على نشاز الحديث في الموضوع من أساسه ــ وفضّل امتزاج السلالات على نقاوتها (أعطى مثل تفوّق أثينا على إسبارطة). لنأخذ مثلاً المرجع الذي اعتمد عليه (في «نشوء الأمم») وهو كتاب فريدريك هرتز «العرق والحضارة». هذا المؤلّف هو حتى تاريخه أقوى تنديد بأدب «علم الأعراق» وإبراز عبثيّة فكر كراهيّة الأعراق (والكتاب أثار ضجّة أكاديميّة لأنه حاول أن يثبت أن السود ليسوا أدنى مرتبة عقليّاً من البيض). وقد أُخذ عليه أنه لم يُعرّف العرق، لكن ذلك يعود لأنه (أي هرتز) يرى أن «ليس هناك من أعراق» (ص. 20-21) وأن «الانقسامات ليست إلا أسماء مصطنعة». وسعادة رفض فكرة «الخلوص الدموي»، وهو يرفض فكرة «الوحدة السلاليّة»، ويشير إلى «مزيج سلالي متجانس» (المحاضرة الرابعة من «المحاضرات العشر»). لكن سعادة يقع في تناقضات حول فكرة تفوّق العنصر. لكنه يعود ليتحدّث عن سلالات ثقافيّة «وسلالات منحطّة»، وفي أحكامه كان دوماً قاسياً على السكّان الأصليّين في القارة الأميركيّة من دون ذكر حضارات قديمة فيها سبقت وصول الرجل الأبيض. ويقول في المحاضرة الرابعة: «لا بدّ من الاعتراف بواقع الفوارق السلاليّة ووجود سلالات ثقافيّة وسلالات منحطّة وبمبدأ التجانس والتباين الدموي أو العرقي، وبهذا المبدأ يمكننا أن نفهم أسباب تفوّق السوريّين النفسي الذي لا يعود إلى المزيج المطلق، بل إلى نوعيّة المزيج المتجانس». هو يعترف بمزيج الدم في الأمة السوريّة، لكن ذلك لا يمنعه من الإيمان بتفوّق عناصرها. هو يسخر من «التحامل على السلالات» في أميركا، ويسخر من إيمان العرب بـ«أوهام السلالة» («نشوء الأمم»، ص. 26)، وهو ينتقد نظريّة استحالة العبقريّة والنبوغ عند الزنوج، ويرفض نظريّات نقاوة السلالة، لكنه يتحدّث عن «الفوارق السلاليّة» في «المحاضرة الرابعة» ويتحدّث عن تفوّق السلالة الكنعانيّة على سلالة شعوب أفريقيا الشماليّة. وحاجة سعادة إلى إثبات تميّز الأمّة السوريّة عن باقي العرب دفعته إلى تحقير العنصر العربي بصورة غير علميّة (يتحدّث مثلاً في «نشوء الأمم» بمبالغة عن عادة الثأر عند العرب بناءً على أشعار، مع أن الحديث عن الثأر هو ــ مثل مبدأ «العيْن بالعيْن والسنّ بالسنّ» عند الأقدمين ــ من أجل تجنّبه. أي إنه كان وسيلة للشرطة الذاتيّة في غياب سلطة الدولة (وفي هذا حجّة للنظريّة اللاسلطويّة ــ الفوضويّة).

كذلك إن سعادة في تناوله لتاريخ الإسلام نهل من الاستشراق التقليدي ولم يرجع إلى المراجع العربيّة والإسلاميّة (لم يذكر في مراجع «نشوء الأمم إلا ابن خلدون في «المقدّمة» والمسعودي في «مروج الذهب») إلا في تعميمات ابن خلدون عن طبيعة العرب وعصبيّتهم ــ وهذه التعميمات كانت دوماً المفضّلة عند المستشرقين. وطبعاً، اعتنق سعادة فكرة هنري لامنس[22] (تحدّث ماكسيم رودنسون

[23]

عن «احتقاره» للإسلام) عن تفوّق معاوية والدولة الأمويّة في التاريخ الإسلامي، إعلاءً لشأن العنصر السوري. وإذا كان سعادة يرفض القوميّة بناءً على عامل اللغة والدين، فإنه ينزع نحو التفسير المادّي عن أولويّة الرابطة الاقتصاديّة في «المتحد الراقي» (كان سعادة معجميّاً واجترح عدداً من المصطلحات مثل «المُتحد» للكلمة الألمانيّة «جيمينشافت»). لكنه يهمل عناصر التناحر الطبقي الاقتصادي في الأمّة، مُفضّلاً وحدة المصالح (المتحدة).

واللافت أن سعادة لم يكن جامداً في تعريفه للأمّة على طريقة التعريفات الستالينيّة: فقد استبق كتاب بنديكت إندرسون «المُتحدات الموهومة» (الصادر في عام 1983) عندما يتحدّث عن عناصر «موهومة من عادات وتقاليد معيّنة» (ص. 152 من «نشوء الأمم»). الموضوع يطول في بحث كتابات سعادة، لكن هناك حاجة من «عمدة الثقافة» في الحزب لتوكيل لجنة أكاديميّة حزبيّة من أجل وضع قراءة جديدة (على غرار «القراءة الجديدة» في عام 1976 لـ «المحاضرات العشر» من أجل التوفيق بين القوميّة السوريّة والعروبة)[24] للمستندات والقراءات الأكاديميّة لسعادة للأخذ في الاعتبار الدراسات الجديدة التي تجاوزت الكثير من المصادر التي اعتمدها سعادة في كتاباته. ثم هناك مشكلة قبول الحزب باتفاق الطائف.[25] كيف يمكن الحزب أن يقبل بنهائيّة الكيان اللبناني؟ وكيف يمكن الحزب في تحالفه مع النظام السوري أن يتغاضى عن النواحي القُطريّة التي طرأت على خطاب وأيديولوجيا النظام في السنوات الأخيرة، أو حتى على قوميّته العربيّة سابقاً؟ إن تعارض الحزب مع الكيانيّة اللبنانيّة كان في صلب عقيدته، لكنه تهاون في ذلك في السنوات الأخيرة، ربما كي يدخل في النظام اللبناني. كان الحزب يمثّل القوميّة المبدئيّة التي رفضت الكيانات التي ولَدها الاستعمار، وكان هذا الرفض من ميزات الحزب وعناصر جذبه. لا، وشارك الحزب في الحكومات الحريريّة التي مثّلت نقيض عقيدة الحزب (وقبل أن يتولّى وزارة العمل للتغطية على مؤامرة رفيق الحريري في ضرب الحركة العمّاليّة، وهذه تشين تاريخ الحزب). وهناك قضيّة حبيب الشرتوني، العطِر الذكر. إن الحزب القومي مشهود له ــ بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه ــ بالبطولات أو «وقفات العزّ». يحقّ للحزب أن يعتزّ بوقفات سعادة ضد الاستعمار وضد الدولة الاستقلاليّة الحديثة، ويحق له أن يزهو بشهيد الاستقلال (الحقيقي وليس المزيّف) سعيد فخر الدين. كذلك إن الحزب في محاولته الانقلابيّة تصادم مع دولة فؤاد شهاب البوليسيّة (التي لم تزدها المحاولة الانقلابيّة إلا حديديّة). وقد شارك الحزب بفعاليّة في معارك الحرب الأهليّة (من دون أن يغرق في وحول السرقات و«التشبيح» مثل بعض فصائل الحركة الوطنيّة حتى لا نتحدّث عن جرائم ميليشيات إسرائيل في المقلب الآخر)، وهو من المساهمين الأساسيّين في مقاومة العدوّ الإسرائيلي. لكن عمليّة نبيل العلم وحبيب الشرتوني قضت بالضربة القاضية على حلم إسرائيلي بصنع جمهوريّة على المقاس الصهيوني. ابتعد الحزب عن الاحتفال بحبيب الشرتوني والزهو به، وابتعد عن الاحتفال ببطولات نبيل العلم. كيف يعقل أن يسمح الحزب للدولة اللبنانيّة بالمضي في محاكمة الشرتوني، وكيف يعقل أن يغيب الحزب رسميّاً عن حملات المناصرة لحبيب الشرتوني؟ هل هي الأسباب القانونيّة؟ وكيف تكون هناك أسباب قانونيّة فيما تزهو كل ميليشيات اليمين اللبناني بجرائم حربها وبتحالفها مع إسرائيل؟ حبيب الشرتوني مثّل وقفة العزّ في أعلى مراحلها، والحزب تنصّل منه؟ يخجل الحزب من فعل البطولات؟[26]

أما علاقة الحزب بالنظام السوري، فهذه إشكاليّة أخرى. يحقّ للحزب أن يعقد تحالفات كما يشاء، ويحق له أن يسعى إلى توحيد «الأمة السوريّة» كما يراها. لكن هل تحالف الحزب مع النظام السوري أدّى إلى ذوبانه فيه؟ والأنكى، أن الحزب تحالف مع السيئ الذكر، إيلي حبيقة، فقط لأنه كان حليفاً للنظام السوري ورفيق الحريري. ما الذي يميّز الحزب عن فرع حزب البعث في لبنان؟ أذكر أن الحزب القومي أصدر كتيّباً[27] في عام 1976 ندّد فيه بـ«الغزو الشامي»، في إشارة إلى تدخّل النظام السوري ضد الحركة الوطنيّة اللبنانيّة والمقاومة الفلسطينيّة. أي كان للحزب مسافة في تحالفاته آنذاك. (لكن الحزب اقترب كثيراً جدّاً من قيادة ياسر عرفات ومن القذّافي تحت قيادة إنعام رعد. والتحالف مع القذّافي لا يمكن أن يندرج في نطاق رؤية «الأمّة السوريّة»). الأهم، أن الحزب يمرّ في أزمة، فقد عانى من انشقاشات ومن تجميد للعضويّة، كذلك إن كثيرين وكثيرات من أعضاء الحزب ابتعدوا عنه في السنوات الأخيرة. لقد عمّر الحزب القومي أكثر من غيره من الأحزاب، وهو خلافاً لمعظم الأحزاب اللبنانيّة (بمن فيها بعض الشيوعيّين) بقي في منأى عن الصراعات والغرائز الطائفيّة. لكنه أهمل حمله لواء العلمانية كما أهمل رسالة رفض الكيانيّة في رحم الأمّة السوريّة.

قد تكون هذه المقالة تطفّلاً على شؤون الحزب من خارجه، وقد يكون من حق القوميّين البحث في شؤون الحزب من دون تدخّلات من خارج الحزب. والحزب تعرّض في تاريخه لمؤامرات ومحاربات وحملات قمع قاسية في أكثر من دولة عربيّة. لكن استمراره في الوجود دليل على قوّة أورثها زعيم الحزب لأعضائه عبر مؤسّسات الحزب وعقيدته. لكن كل الأحزاب اللبنانيّة تواجه أخطاراً محدقة والكثير من الأحزاب الشيوعيّة والناصريّة اندثر وطُمر بالتراب. يستطيع الحزب الذي رفع لواء نهضة الأمّة أن ينهض بحركته مرّة أخرى، لو أنه جعل من عقيدته لُحمة جامعة لكل القوميّين (والقوميّات).


=[1]  ـ  انطوت مقالة أسعد أبو خليل على عناوين تفصيلة، متعددة فكرية وسياسية، ولكنها غير مترابطة منهجياً، متناثرة، ربما بسبب الطبيعة الصحفية للمقالة. وفي الوقت الذي يمكن فيه القول إن بعض هذه العناوين قد تمت مناقشتها في مناسبات متعددة من قبل مفكرين في الحزب، وفي أورقة مؤتمراته وتم تجاوزها، مثل موقف الحزب في العام 1958.

في الوقت نفسه جاءت العناوين الأخرى، في أغلبها، من طبيعة «لافكرية»، من مثل: عدم قيام الحزب بالأخذ بالثأر من العهد الشهابي، ومن الذين ارتكبوا مجزرة حلبا، ومن برودة الموقف الرسمي للحزب إزاء قضية حبيب الشرتوني لأسباب قانونية… وغير ذلك من عناوين آخرى آثرنا عدم الخوض فيها تفصيلياً بسبب من طبيعتها من جهة، وبسبب اختصاص بحثنا واستهدافه في التأسيس المنهجي لقاعدة حوار فكري أو فكري ـ سياسي، من جهة مقابلة، مضبوط بلغته وأسلوبه ومصطلحاته. وقد عمدنا إلى إيضاح بعض المسائل المرتبطة بهذه العناوين من خلال الهوامش التي أضفناها على مقالة أبو خليل في القسم الثاني من هذا الكتاب.

[2]  ـ منهجياً: يعتبر هنري حاماتي في مختلف كتبه وإنتاجه، ومعه وسيم زين الدين في كتابه الوحيد «مفاهيم قومية إجتماعية» متجهاً دائماً نحو تمييز الفكر القومي الاجتماعي بلغته ومنهجه ومصطلحاته فيما اتجه انعام رعد نحو إنتاج «مشتركات» فكرية، خصوصاً مع الفلسفة الماركسية، وأيضاً مع الفكر القومي العربي.

[3]  ـ  تمت ترجمة «المسألة اليهودية» لكارل ماركس إلى اللغة العربية في وقت أسبق، من ذلك الوقت الذي ترجمت فيه «المسألة اليهودية» لدويستوفسكي، وأرجّح، دون جزم، أن ترجمة حسن سامي اليوسف لنصّ الأديب الروسي والذي نشرته مجلة البناء الإسبوعية في نهاية تسعينيات القرن الماضي هي الأولى في اللغة العربية. ومن بعدها ظهرت ترجمات متعددة لها.

[4]  ـ يعتبر الفيلسوف والأديب الفرنسي جان بول سارتر رواية «مدام بوفاري» بأنها عمل فني مطلق ويقال أن فلوبير ظلّ نحوٍ من خمس سنين يكتب ويراجع ويدقق حتى أنجزها.

[5]  ـ إنَّ الهوامش والإشارات والتعليقات المرافقة لهذا النصّ، هي من وضع نزار سلّوم.

[6] ـ أسعد أبو خليل: باحث، أستاذ ومحاضر في أكثر من جامعة في الولايات المتحدة الأميركية منها جورج تاون وكاليفورنيا.

أصدر العديد من الكتب، كما يشرف ويدير مدونة: «الغربي الغاضب». ينشر مقالاً أسبوعياً في جريدة الأخبار اللبنانية.

المقال الذي ننشره هنا، مصدره جريدة الأخبار، العدد 3125، صفحة رأي، السبت 11 آذار 2017.

[7]  ـ جاء في شرح سعادة للمبدأ الأول من مبادئ الحزب الأساسية: «هل زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي هو أول من قال: سورية للسوريين؟. لست أول من قال سورية للسوريين، ولكن الجزء الثاني: السوريون أمّة تامة، هو قول قيل لأول مرة في التعاليم السورية القومية الاجتماعية. قاله زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي، وقيمة الإنتاج من الوجهة الفكرية هي في هذا الجزء الثاني من هذا المبدأ الذي يعيّن بالضبط قيمة الجزء الأول ويعطيه اتجاهه الذي لا يمكن أن يعطيه إياه أيّ تأويل. ـ من المحاضرة الثالثة من المحاضرات العشر».

من الواضح أنَّ سعادة ينفي أنه أول من قال سورية للسوريين، وبالمقابل يؤكّد أنه أول من قال: السوريون أمّة تامة. و«التأكيد» على جدّة القسم الثاني هنا، يأتي للتدليل على المعنى المميز الذي اكتسبه القسم الأول الشائع قولاً وكتابة. وعلى ذلك يأتي «التأكيد» لأسباب متعلقة ببنية المعنى وليس لأسباب شخصية يقصد منها سعادة «التنويه بمنجزاته»؟!.

[8]  ـ بدأ سعادة حواره مع غسان تويني منذ أن كان في المغترب، يتابع دراسته في الولايات المتحدة الأميركية. حيث تشارك مع فايز صايغ ويوسف الخال وغيرهم في «أفكار» اعتبرها سعادة خارج إطار الفلسفة السورية القومية الاجتماعية. وقد انتهى هذا الحوار على نحوٍ نهائي في المحاضرة الأولى التي ألقاها سعادة في الندوة الثقافية مطلع 1948 ووضع فيها شرحاً واضحاً غير قابل للتأويل لمعنى النهضة وللمفاهيم المرتبطة بها، كما ناقش «الأفكار» التي تبنّاها تويني وصايغ وغيرهما. [يمكن العودة إلى المحاضرة الأولى من المحاضرات العشر، كما يمكن مراجعة رسائل سعادة إلى غسان تويني].

[9]  ـ شكّلت مواجهة سعادة لحكم الإعدام الصادر بحقه في الثامن من تموز 1949 «تراجيديا» استثنائية غير مسبوقة وفريدة في حقل السير الذاتية للسياسيين المعاصرين والقادة وأصحاب الدعوات.

هذا سجل التاريخ وحكمه ولا دخل للرغبات والميول الفكرية في وضعه والإقرار بحدوثه.

يقارن أسعد أبو خليل موقف سعادة وصلابته واستثنائية أدائه في ذلك المشهد، بموقف ميشيل عفلق أحد مؤسسي حزب البعث العربي الاشتراكي، عندما تدبّر نفسه هارباً على إثر حركة 23 شباط 1966 في دمشق. كان غسان تويني هو أول من أجرى هذه المقارنة في افتتاحية له في جريدة النهار عام 1966 إثر شيوع نبأ هروب عفلق مذكِّراً إياه بمنحوتة سعادة العظيمة: الحياة وقفة عزّ فقط.

وإذا كانت المقارنة جائزة، على نحو ما، بين موقف سعادة وموقف عفلق، بالمقابل وبرأينا، لا نراها جائزة مع عزيز الحاج السياسي العراقي الذي كان منتمٍ إلى الحزب الشيوعي وانقلب عليه وانضوى في إطار الدولة العراقية، ثم انقلب عليها…؟!

ليس لعزيز الحاج حيثية قيادية، ولا بأي معنى، حتى يُصار إلى مقارنته بسعادة!

يبقى أنَّ الضعف الذي أظهره إنعام رعد في سجون الشهابية في ستينيات القرن الماضي، ظلَّ «نقيصة» تلاحقه رغم تبوئه لاحقاً مواقع قيادية منها رئاسة الحزب. والواقع أن المحكمة الحزبية التي انعقدت في العام 1970 أصدرت قراراً منعت بموجبه رعد من تسلّم مسؤوليات مركزية قيادية لمدة عشر سنوات.

[10]  ـ جورج حاوي(1938 ـ 2005) الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني ما بين 1979 و1993. كان وجوده ودوره بارزاً في إطار الحركة الوطنية اللبنانية، اغتيل في 21 حزيران من العام 2005 بتفجير سيارته.

[11]  ـ عبد الله سعادة (1918 ـ 2005) كان رئيساً للحزب السوري القومي الاجتماعي، أثناء المحاولة الانقلابية في العام 1961. وقد واجه بشجاعة وصلابة ظروف السجن الطويلة في الستينيات، وانتخب أكثر من مرة رئيساً للحزب كانت آخرها في العام 1978. مسيرته حافلة بالمواقف منذ أن انتمى للحزب وله مكانة بارزة في تاريخ الحزب.

[12]  ـ انعقد المؤتمر القومي العام في حزيران 2016، وانتخب المجلس القومي مجلساً أعلى، عمد مباشرة إلى إجراء تعديل دستوري يتيح للرئيس المنتهية ولايته الثانية، للترشح لولاية ثالثة، غير أنَّ المحكمة الحزبية وبناء على طعن مقدّم لها أبطلت تعديل المجلس الأعلى لحيثيات دستورية، وأبطلت بالتالي رئاسة أسعد حردان لولاية ثالثة.

الحادث برمّته، الذي جرى بين مؤسسات الحزب التنفيذية والتشريعية والقضائية في صيف العام 2016، يعتبر استثنائياً في الحياة السياسية اللبنانية وغيرها، بالمعنى الحقوقي والسياسي والثقافي فضلاً عن قدرة هذه المؤسسات على ممارسة سلوك موازٍ لهذه المعاني.

[13]  ـ سعادة نفسه يقول: إنَّ إنشاء المؤسسات ووضع التشريع هو أعظم أعمالي بعد تأسيس القضية القومية. «من خطاب سعادة في الأول من آذار 1938».

[14]  ـ الحريرية: هي الحالة التي أسسها وشيّدها رفيق الحريري ابتداءً من ثمانينيات القرن العشرين، وهي مزيج من عالم الأعمال الرأسمالي ومقتضياته السياسية، ومرتبطة عضوياً بالسياسة السعودية ومجالاتها.

ـ الجنادرية: مهرجان ثقافي سعودي يقام سنوياً منذ العام 1985، وإشارة أسعد أبو خليل هنا للتدليل على تلك المفارقة التي يرى من خلالها الشيوعي الذي يغادر حزبه مقيماً في فلك نقيض ثقافياً وفلسفياً وسياسياً؟ فيما القومي الذي يترك حزبه «ينزوي جانباً» ولا يأخذ مواقع معادية أبداً.

[15]  ـ 18 برومير: كتاب لكارل ماركس.

[16]  ـ المقصود: الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وأمينها العام جورج حبش.

[17]  ـ ماو تسي تونغ (1893 ـ 1976): زعيم الحزب الشيوعي الصيني منذ 1937 ومؤسس جمهورية الصين الشعبية منذ العام 1949 وقائدها وحتى وفاته.

[18]  ـ إنَّ وصف موقف الحزب وسياسته وبنيته في العام 1958 باعتباره [حزباً شوفينيّاً مرتبطاً بالحلف الرجعي الإقليمي (الملك حسين)] من قبل الكاتب يعود في مصدره للمرويّات الصحفية الدعائية، للأسف الشديد، أكثر مما هو عائد لمراجع موثوقة ودراسة مجرَّدة. في الحالات كلّها إن ربط «الشوفينية» بـ«حلف رجعي» لا مبرر له منهجياً، وباعتقادنا أن هذا الوصف هو من القاموس «الشيوعي ـ الناصري» الذي كان سائداً في تلك الحقبة.

كان من الأفضل أن يعود أسعد أبو خليل إلى وثيقة مرجعية من مثل خطاب رئيس الحزب آنذاك أسد الأشقر الذي ألقاه في الثاني من آذار عام 1958 ليتبيّن له وعلى نحو واضح موقف الحزب الرسمي برفضه للأحلاف الإقليمية، وفي الوقت نفسه اعتبار «الثورة الناصرية» منحرفة عن دعوتها الأولى، وتأكيده على استقلالية القضية القومية.

في كتابه إلى المحامي حميد فرنجية الذي أرسله من سجن الرمل في 10 كانون أول 1935 يقول سعادة: «.. فالحزب ليس مؤسساً على مبدأ كره الأجانب ـ chauvinisme ـ بل على مبدأ القومية الاجتماعية». ورغم هذا القول القاطع درجت عادة اتهام الحزب بالشوفينية، وهو وصف لا نرى ترادفه بالحلف الرجعي الإقليمي جائزاً من الناحية المنهجية في عبارة أبو خليل، في الحالات كلها.

[19]   ـ من المؤكّد أن الكاتب يقصد هنا الإشارة إلى مؤتمر ملكارت الذي عقده الحزب بعد الخروج من السجن في العام 1969.

بعيداً عن «الإشكالية» التي رافقت انعقاد هذا المؤتمر والخلاف حوله، وحول مكانته ودوره في تاريخ الحزب، فإن العودة إلى وثائقه تفضي إلى ملاحظة أنه اهتم بشكل رئيسي بمسألة انبثاق السلطة والاتجاه إلى اعتبار «القوميين الاجتماعيين» هم مصدر السلطات. يؤكد عبد الله سعادة في مؤتمر صحفي عقده آنذاك أن المؤتمر في جانب من مداولاته يهتم بإيضاح «يسارية الحزب». وبمعنى ما إن أكثر المغالين بأهمية هذا المؤتمر، ولعله إنعام رعد، لا يقول ولا في مرة أن المؤتمرين غيّروا في عقيدة الحزب الكلية وحوّلوها نحو يسارية تقدمية مطعمة بالماركسية!؟

من المؤكد أنَّ حقبة السبعينات شهدت ظهور نتاج فكري حزبي كان رائده إنعام رعد يرتكز أساساً إلى قراءة كتاب «نشوء الأمم» على نحو يوحي وكأن هذه القراءة ترتكز منهجياً إلى «القاموس الماركسي»، ومصطلحاته.

[20]  ـ يكرر الكاتب عبارة «العبادة الشخصيّة للزعيم» في الوقت الذي يقرّ فيه وينتبه بأنّ سعادة تفرّد عن غيره من القادة بأنه إلى جانب وضعه للعقيدة، وضع المؤسسات الدستورية.

المفارقة هنا، تبدو في أن وجود المؤسسات ورسوخها في ثقافة القومي الاجتماعي لا يستوي مع «العبادة الشخصيّة» وطقوسها؟ العبادة من حقل الفكر الديني ومتفرعاته.

المؤسسات من حقل الفكر الحقوقي ـ السياسي ـ المدني.

يمكن وصف القادة الذين لم يتركوا مؤسسات ولم يهتموا بها أساساً، ولم يحترموها في سلوكهم، بأنهم كانوا يفرضون مباشرة على أتباعهم أو يوحون لهم بـ«عبادة شخصيتهم». ينطبق هذا التوصيف على العديد من قادة الدول والأحزاب، ربما أولهم جمال عبد الناصر.

[21]  ـ يتألف كتاب «نشوء الأمم» من مقدمة وفصول سبع، ومع ذلك، وما يستلفت الانتباه، أن العديد من الكتّاب، ينتقون دائماً الفصل الثاني «السلائل البشرية» ليدخلوا من خلاله في بحث مضامين الكتاب!!

لعل فصل «السلائل البشرية» في نشوء الأمم، هو الأقلّ في عدد صفحاته من بقية الفصول، وهو فصل علمي محض، يستعرض فيه سعادة ما جاء بخصوصه في مصادر ومراجع محددة، ويتوصل إلى نتيجة قاطعة: لا سلائل بشرية صافية: في ذلك خطأ علمي وخطيئة أخلاقية في آن.

إذا كان أي كتاب، فيه نقاط جذب تشدّ القارئ أو الناقد أكثر من غيرها، فلا أدري ما هو السبب الذي لا يجعل العديد من النقّاد الانتباه إلى مسألة «القوانين» التي توصّل إليها سعادة في بحث المجتمع وبدايته وتطوّره وصولاً للدولة وأحوالها؟!

أليس في «الإثم الكنعاني» وهو الفصل الأخير من الكتاب، ما يستوجب التوقف عنده مليّاً، وتبيان الفوارق بين سعادة ومدرسة «الفكر القومي» الكلاسيكي الذي يُشكّ بقدرته العلمية على البرهان على ما توصل إليه؟!

يؤكّد أسعد أبو خليل أن اختزال الكتاب بـ«شكل الجماجم» كما يؤخذ عليه، لا ينصفه. هذا صحيح ونزيد أن التركيز على فصل «السلائل البشرية» بحثاً وتنقيباً وتأويلاً، فضلاً عن كونه محاولة لتشويه الكتاب، إنما هو في الواقع خطأ منهجي وعلمي يقلّل، بل ينسف صدقية الناقد وجدّيته.

[22]  ـ ألقى المستشرق البلجيكي اليسوعي هنري لامنس «1862 ـ 1937» محاضرة في مدينة الإسكندرية في العام 1919 بعنوان «سورية» مستعرضاً تاريخها وميزات مجتمعها مؤكداً على ضرورة الحفاظ على وحدتها. وقد نشرت هذه المحاضرة لاحقاً بعنوان: التطور التاريخي للقومية السورية.

من جهتنا سبق وأن نشرنا هذه الوثيقة في كتابنا: [المسألة السورية 1918 ـ 1920، استراتيجيات في المختبر] وقدّمنا قراءتنا لها، معتبرين أنها نموذج للاستشراق الفرنسي عموماً، حيث يصوغ لامنس فيها «الفكرة المرجعية» للاستراتيجية الفرنسية التي كانت ترى في سورية «حقاً طبيعياً» لها ومن أحقيتها التاريخية!؟

في الوقت الذي قدم لامنس فيه محاضرته كان الاحتدام الدولي على أشدّه، وكان مصير سورية حقل تجاذب بين القوى الكبرى في مؤتمر الصلح 1919 ومن ثم في سان ريمو 1920.

إنَّ «سورية الكبرى» التي يقدمها لامنس للاستراتيجية الفرنسية، هي بالأصل «سورية البيزنطية ـ الرومانية» التي يفترض أن تصبح بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية «سورية الفرنسية»؟ لكن الإنكليز الذين توسّلوا «الثورة العربية» دخلوا سورية واقتسموها مع الفرنسيين الذين انحسروا استراتيجياً عن المجال الذي أفضت إليه دراسة هنري لامنس.

برأينا، كان سعادة شجاعاً بما يكفي، ليقول بأنه استعار أو تأثر أو أخذ فكرة أو اجتهاد يعود لهنري لامنس أو لغيره، وهو فعل ذلك دوماً.

[23]  ـ «تحدّث مكسيم رودنسون عن احتقاره للإسلام». يذكر أسعد أبو خليل هذه العبارة مستنداً إلى قول «للمستشرق الفرنسي المعروف مكسيم رودنسون (1915 ـ 2004). وليس من الواضح تماماً ما إذا كان رودنسون يقصد أنطون سعادة أو هنري لامنس؟ لكن، وفي الحالتين، إن كان سعادة متأثراً ومعتنقاً لأفكار هنري لامنس، كما يقول أبو خليل، حول تاريخ الإسلام وإعلاء شأن الدولة الأموية، فيفترض أيضاً أن يكون «محتقراً» للإسلام على حد زعم رودنسون!

لا تبين أطروحة سعادة حول الدين، وفي أيّ من نصوصه المتعددة، أنه يؤسس رؤيته لقضاياه وموقفه منها على «رغبوية» مسبقة، في الوقت الذي تتكشف مقالاته في جنون الخلود / الإسلام في رسالتيه عن دقته وموضوعيته كباحث، وعن جرأته كمفكر في تحليل بنية الدعوتين المسيحية والمحمدية، ووضع كل منهما في السياق التاريخي الذي اندرجت فيه.

سعادة ينظر إلى «الإسلام المحمدي» كـ«دين» لا كدولة، ويحترمه كدين كما يحترم الأديان الأخرى.

[24]  ـ وضع إنعام رعد هذه «القراءة الجديدة» وأقرّت رسمياً من قبل المجلس الأعلى ولكن في الوقت الذي كان فيه الحزب منشقاً إلى جناحين: المجلس الأعلى والطوارئ. وفي الوقت الذي لا تتضمن الطبعات الرسمية الصادرة عن المؤسسات الحزبية هذه القراءة للمحاضرات العشر، حيث لم يصار إلى إعادة طباعتها، فإن مؤسسة إنعام رعد الفكرية أعادت طباعتها إنما كبحث مستقل في كتاب «دروس عقائدية» لإنعام رعد.

[25]  ـ اتفاق الطائف: هو التسوية التي توصلت إليها القوى والأطراف اللبنانية المتنازعة والمشتركة في الحرب الأهلية التي اندلعت في العام 1975، وكان لها عمق إقليمي ودولي. فبعد سلسلة من الاجتماعات في مدينة الطائف السعودية توصلت هذه القوى إلى «وثيقة الوفاق الوطني» في 30 أيلول 1989، التي تمّ إقرارها رسمياً في 22 تشرين أول 1989.

[26]  ـ في 14 أيلول 1982، تمكّن حبيب الشرتوني من تفجير مقر قيادة ميليشيات القوات اللبنانية، فقتل بشير الجميل فوراً. وكان قد تم انتخابه رئيساً للبنان بقوّة حضور الاحتلال الإسرائيلي. تم إلقاء القبض على الشرتوني وتم التعرّف إليه بوصفه عضواً في الحزب السوري القومي الاجتماعي وعلى ارتباط مباشر مع نبيل العلم مسؤول شعبة الأمن في الحزب. حينها نفى رئيس الحزب إنعام رعد أن تكون القيادة الحزبية على علمٍ بهذه العملية، وفي الوقت الذي يفتخر القوميون فيه بهذه العملية مع تيار المقاومة، ظلّت الإدارات الرسمية المتوالية متحفظة وذات أداء بارد تجاهها، بالرغم من صدور بيانات وأدبيات عن مسؤولين وكتّاب قوميين اجتماعيين تفتخر بعملية أسقطت «السلام الإسرائيلي» وغيّرت اتجاه الحركة التاريخية في لبنان حينها ولازال تأثيرها قائماً.

مع صدور حكم الإعدام على حبيب الشرتوني ونبيل العلم، عن القضاء اللبناني في العام 2017، جهدت الإدارة الرسمية في الحزب بمنع إنفاذ هذا القرار، واعتبار عملية الشرتوني مشمولة بقرار العفو العام الصادر بعد اتفاق الطائف.

برأينا الشخصي، عملية حبيب الشرتوني تمّت ونفّذت في «موقع إسرائيلي» بالمعنى الاستراتيجي، وهي لذلك لا تنتمي إلى عناوين الحرب الأهلية اللبنانية ومفرداتها، بل إلى الحرب الوجودية المصيرية المفتوحة مع «المشروع الإسرائيلي».

[راجع مقال نزار سلّوم في جريدة البناء اللبنانية تحت عنوان: الوقوف في وجه العار. بتاريخ 16 تشرين الثاني 2017].

[27]  ـ في العام 1976 كان الحزب منشقاً إلى جناحين، وقد صدر هذا «الكتيب ـ المنشور» عن الجناح الذي كان يرأسه إنعام رعد المنضوي في إطار الحركة الوطنية اللبنانية برئاسة كمال جنبلاط.

بعد وحدة الحزب في العام 1978، وخصوصاً بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1982، التزم الحزب الموحّد سياق التحالف مع دمشق، ورغم انشقاقه مرة أخرى في العام 1987، فإن الجناحين المنشقين كانا يلتقيان في هذا الالتزام وهذه الرؤية الاستراتيجية وإلى الآن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق