انطلاقاً من قناعتي بوجوب أن يقوم أحدنا: ( نحن الحمصيون )، بدراسة جدية ورزينة والبحث في شأن هذه الشائعةِ الملتصقةِ بأهلِ حمصَ، وما يمكن أن يكونَ سبباً حقيقياً في تحديد يومِ الأربعاء الذي يقال إن (الجدبة) تتجلى فيه بقوة ووضوح.
إن كانت هذه مشكلتنا، ولو على سبيل الافتراض، فمن الأفضل أن نتناولها ونبحث في طياتها بأنفسنا…
اتبعتُ في بحثي طريقة بسيطة وجدتها مجدية في هذا المجال، حيث بدأت التنقيب في كتب التاريخ متراجعاً بالتدريج إلى الوراء، ودوّنت بالتسلسل كل ما قيل فينا وما له علاقة بما يسمى ( بالجدبة ) ! وكنت كلما أجد نصاً أو تعليقاً لمؤرخ يشير فيه إلى لوثة في عقول الحمصيين أذهب إلى ما هو أقدم، حتى أصلإلى الجذر العميق الذي انطلقت منه هذه التهمة، فلا بدَّ أن يكون وراء هذا الدخان الكثيف ناراً مخبأة في مكان ما بين صفحات التاريخ ؟ فلا يعقل أن يتفق المؤرخون على شأن شائع ، كما في حالتنا التي نبحث فيها، بدون أساس أو شيء شهدوه او لمسوه في سلوك أهل حمص؟
ثم هل هناك فعلاً بلادةٌ في تفكير الحمصيين، يستطيع أن يلاحظها كل رحّال أو زائر مر بها وعاشر أهلها …؟ وإذا كان هناك فعلاً أي شيء من هذا القبيل فما هو السبب يا ترى …؟ هل هو الهواء العاصف شبه الدائم في حمص الذي يشعر المرء بعد التعرّض له مدة طويلة بالدوخة أو الروجة إذا صح التعبير؟ أم هو نوع التربة المميزة في حمص التي تنفر منها العقارب ؟ (وبهذه المناسبة لماذا تنفر العقارب من تربة حمص ؟ سؤال مهم، ربما تقدم الاجابة عليه فائدة للناس جميعاً ؟ واليهود أيضاً لا وجود لهم في حمص، وهذه ميزة إضافية لهذه البلدة الشهيرة فقد نفر اليهود من حمص، ولم يذكر التاريخ يوماً أن يهودياً استطاع أن يكمل حياته هنا في حمص، إلاّ متستراً!وهذا أيضاً يجب أن يلقى اهتمام الباحثين … ) لا بدَّ من الدراسة والتقصي، ولا بدَّ أن يكون هناك جواب . فأنا مقتنع بأن حمص يقطنها شعب طيب الخلق، كريم النفس، عطوف وحسن المعشر، لا تظهر على أغنيائه أو من وصل إلى سدة الحكم من أبنائه مظاهر الكبرياء، مهما علت مراتبهم أو ازدادت أموالهم … والحمصيون هم أكثر الناس محبة للدراويش والفقراء، ويحترمون ويحسنون بسخاء وبدون ملل إلى من هم على ( باب الله ) كما نقول في العامية، وما أكثرهم في حمص. أليست حمص مشهورة بأنها بلد الدراويش والمبروكين، بل إن اسمها عند عامة الحمصيين ( بلد خطيّ )، وكلمة خطيّ تستخدم لاستدرار الشفقة والعطف على شخص ما مسكين أو مقهور، ولكن تعبير ( بلد خطيّ ) يدل بكل تأكيد بأن مشاعر العطف والشفقة على محتاجيها هي القاسم المشترك بين أبناء هذه البلدة . وكثيراً ما يواسي الحمصي نفسه بعد إحسانه المُبَالغ فيه فيقول ( يا لله ألسنا من بلد خطيّ ) ؟ وفي هذا تأكيد لانتمائة وحمصيته …
وحتى يكون بحثنا هذا مشّوقاً، رأيت أن أشارككم المسار الذي سلكته فيه … فأعود وأذكر بما قيل فينا من قبل المؤرخين، منطلقاً من وقتنا الحاضر، متدرجاً معكم إلى الماضي، علني في هذا أستطيع إقناعكم بالنتيجة التي توصلت إليها .
في الوقت الحاضر، لا أرى داعياً لإضاعة الوقت في جرد ما يقال فينا ففي هذا استحالة، إذ في كل يوم نسمع عدداً لا يحصى من النكات التي تشير إلى الجدبة الحمصية ، منها الجارح ومنها الظريف ومنها ما قد يكون قد حصل فعلاٌ في مكان آخر، وهناك إثبات على ذلك ، لكن نسبة الحدث إلى حمص أو أحد الحمصيين ، يساعد الراوي في جعل الابتسامة ترتسم على أفواه المستمعين بصورة مسبقة أي قبل إتمام الرواية. وعندما يبدأ الراوي بنسبة قصته إلى الحمصيين، فإنه يشير في هذا بأن ما سيقوله نكتة أو طرفة … وكذلك فإن هذه النسبة تحدد أيضاً نوع الجواب إذا كان السؤال أحجية أو حزورة بايخة ؟
ماذا تقول المصادر التاريخية في أهل حمص؟
( سأتجاوز، ما مرّ من هذا القرن، والقرن العشرين بكامله ) . ولنبدأ معاً من منتصف القرن التاسع عشر، وتحديداً من تاريخ قدوم القائد المصري إبراهيم باشا إلى حمص ( تموز 1832 ) فنجد الدكتور ميخائيل مشاقة الدمشقي الذي رافق إبراهيم باشا في حملته علينا، يقول في حمص وأهلها:
( مدينة حمص، جيدة التربة ، معتدلة الهواء ، متسعة الأرجاء ، تحيط بها قرى كثيرة ولكن أكثرها خراب نظراً لاعتداء عرب البادية عليها . وأهالي حمص نحو عشرين ألف نسمة ثلثهم نصارى والباقي من المسلمين. ولم أر فيها نصرانياً غير مولع بالسكر. وكثيرون منهم يكتبون خطاً جميلاً. وقد خرج منها أفراد مشهورون بالعقل والذكاء كون حال عامتهم تغلب عليهم السذاجة. وقد حكي لي قصص كثيرة عن سذاجتهم لا يسعني بسطها إذ قد يكون مبالغاً فيها. إنما أذكر ما شاهدته بعيني. وهو أنه في اليوم الثاني من دخولنا حمص عُرض للأمير إبراهيم باشا أن ناحية بابا عمرو فيها قتلى وجرحى من أولاد البلد يراد الكشف عنهم. فسألني الباشا للتحقيق في الأمر، فوجدتهم ثمانية رجال، أربعة منهم قتلى وأربعة منهم جرحى، فسألت الجرحى عما أصابهم ؟ فقالوا إننا أتينا هنا للفرجة على مكان العسكر، فوجدنا كرة محشوة وفتيلها ظاهر ، فأردنا أن نرى كيف تصعد وتهبط ، فأشعلنا الفتيل ، ووقفنا حولها ننتظر صعودها ، ولا نعلم ما أعاقها من الصعود ثم انفجرت عندما اقتربنا منها وأصابنا ما تراه …! فأذنت بدفن الموتى وعالجت المرضى ورجعت . ثم عرضت واقعة الحال لإبراهيم باشا فقال : اكتبها عندك لكي يقف منها المعلم بطرس كرامة على درجة ذكاء أهل بلده … وفي ما بعد كنت أتكلم مع عبود البحري بك ( وهو حمصي أيضاً مثل بطرس كرامة .. منزله أصبح كنيسة الكاثوليك الحالية ) فسألني عما رأيته في حمص فمدحت هواءها وماءها ، فقال : ما قولك في أهاليها ؟ قلت : إني وجدت لهم دعوى على سعادتك وعلى المعلم بطرس كرامة ، فقال مستغرباً : وما هي ؟ قلت : إنكما سلبتماهم نصيبهم من العقل والذكاء فقال: وكيف ذلك ؟ فقصصت عليه قصة الكرة مما جعله يستلقي على ظهره من الضحك . (نشرتها المقتطف المصرية سنة 30 ص 808 وأخذها منير الخوري عيسى الأسعد ج 2 ص 387).
وحتى لا نطيل لنذهب مباشرة إلى القرن الرابع عشر.(500 سنة دفعة واحدة ) فنجد المؤرخ شيخ الربوة (نسبة إلى قرية قرب دمشق ) وهو شمس الدين الدمشقي الذي كتب حوالي 1300 م في كتابه (نخبة الدهر في عجائب البر والبحر).. قال: حمص مدينة قديمة .. ماؤها وهواؤها صحيح . ومن حسن بناء حمص أنه لا يوجد فيها دار إلا وتحتها مغارة أو مغارتان وماء ينبع للشرب. وهي مدينة فوق مدينة. وأهل مدينة حمص يوصف عامتهم بقلة العقل ويحكى عن سوقتهم حكايات تشبه الخرافات . (أخذها منير الخوري عيسى ج 2 ص 261 عن جولة أثرية لوصفي ذكريا ص 347).
إذاً الشائعة في ذلك الزمان كانت مستفحلة أيضاً، ويجب أن نتوغل إلى أبعد من ذلك حتى نصل إلى الجذر، فوقفت عند ياقوت الحموي (ت – 1229 م) الذي أورد في كتابه معجم البلدان ما يلي : ومن عجيب ما تأملته من أمر حمص فساد هوائها وتربتها اللذين يفسدان العقل حتى يضرب بحماقتهم المثل … ! ويكمل: إن أشد الناس على علي رضي الله عنه بصفين مع معاوية كان أهل حمص وأكثرهم تحريضاً عليه وجداً في حربه، فلما انقضت تلك الحروب ومضى ذلك الزمان صاروا من غلاة الشيعة … (فقلت لنفسي إنه حموي ويتحامل علينا وهذا واضح)
فذهبت إلى ما قبله بعدة عقود … إلى ابن جبير وهو محمد ابن أحمد (1145 – 1217) الرحالة الأندلسي الذي ولد في بلنسية وتوفي في الإسكندرية وقد أتى إلى الشرق بقصد الحج للتكفير عن شربه الخمر قسراً عندما أجبره ( أبو سعيد بن عبد المؤمن ) صاحب غرناطة الذي دعاه مرة لشرب الخمر بحضرته فامتعض من ذلك، فلما رآه يمتعض أقسم الحاكم أن يشرب ابن جبير منه قسراً سبع مرات بدل المرة، فلما فعل ملأت له الكأس بعدها بالذهب سبع مرات ، فاستعمل هذا المال لرحلته هذه التي زار خلالها حمص وكتب ما كتب عن أهلها.
يتكلم ابن جبير عن حمص فيقول: (وأما داخلها فما شئت بادية شعثاء خلقة الأرجاء ملفقة البناء، لا إشراق فيها ولا رونق لأسواقها ، كاسدة لها بنفاقها . وما ظنك ببلد حصن الأكراد منه على أميال يسيرة وهو معقل العدو (كانت أيام الصليبيين) . فهو منه تتراءى ناره، ويحرق إذ يطير شراره ، ويتعهد إذا شاء كل يوم مناره . وسألنا أحد الأشياخ بهذه البلدة هل فيها مارستان على رسم مدن هذه الجهات ( مشفى مجانين ) فقال : وقد أنكر ذلك ( حمص كلها مارستان ) وكفاك شهادة أهلها فيها . …فقلت لنفسي هو من أهل السنة وأهل حمص في تلك الفترة من الشيعة ومن المؤكد أنه يتحامل علينا لهذا السبب …
إذاً يجب الذهاب إلى أبعد من ذلك … فعدت مئتي عام إلى الوراء فوصلت إلى أبي عبدالله المقدسي الذي توفي 990 م أي منذ أكثر من ألف عام تقريباً. يقول في كتابه أحسن التقاسيم (ص 156 ) : حمص ليس في الشام أكبر منها ، وفيها قلعة متعالية عن البلد ترى من الخارج . أكثر شربهم من ماء المطر ولهم أيضاً نهر. ولما فتحها المسلمون عمدوا إلى الكنيسة فجعلوا نصفها جامعاً عنده بالسوق قبة على رأسها شبه رجل من نحاس واقف على سمكة تديرها الأرياح الأربع . وفيه أقاويل لا تصح، والبلد شديد الاختلال متداع إلى الخراب، والقوم حمقى.. والأسعار بها رخيصة
فقلت لنفسي إذا لنرجع مباشرة إلى فترة الفتح العربي الإسلامي، هل كان هناك أيضاً ما يقال علينا في حينه أم لا ؟ فوجدت وصف الشام عند المسعودي ج 2 ص 61 ( وهو أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي .. توفي في 346 ه.. ) ، وقد أورد ما سيأتي على لسان أحد الحكماء الذي كان قد أرسل إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وصفاً للشام كان قد طلبه منه ، وقد يكون ذلك قبل زيارته الشهيرة إلى القدس : أي أنه حدث هذا بين أعوام (634 – 643 م ) ( أما الشام فسحب وآكام وريح وغمام وغدق وركام، ترطب الأجسام وتبلد الأحلام وتصفي الألوان، لا سيما أرض حمص فإنها تحسن الجسم وتصفي اللون وتبلد الفهم وتنزع غوره وتجفي الطبع وتذهب بماء القريحة وتنضب العقول . . . والشام يا أمير المؤمنين وإن كانت على ما وصفت لك فهي مسرح خصب ووابل سكب كثرت أشجاره واطردت أنهاره وغمرت أعشاره .. وبه منازل الأنبياء والقدس المجتبى وفيه حلَّ أشرف خلق الله تعالى الصالحين والمتعبدين … وجباله مساكن المجتهدين والمنفردين … )
إذاً صار مؤكداً أن الشائعة كانت موجودة عند دخول الإسلام العرب إلى حمص ، أي قبل أكثر من 1420 عاماً بدلالة ما قاله هذا ( الحكيم ) كما أورد المسعودي ، وأصبح لا بد لنا من الغوص إلى أبعد من هذا التاريخ ..إلى ما قبل التاريخ العربي، أي إلى حمص السريانية والبيزنطية … ولكن قبل ذلك أريد أن أتوقف هنا قليلاً، فقد وجدت أن الجدبة الحمصية العريقة ارتبطت بيوم الأربعاء في هذه الفترة ،،،وللبرهان على ذلك لا بد لنا من تقديم بسيط نسلط فيه الضوء على حالة البلاد في تلك الفترة ، وحالة حمص والأوضاع بشكل عام ، لتتشكل معنا صورة يمكننا أن نحصل من خلالها على بعض النتائج المفيدة .
عين الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب معاوية بن أبي سفيان قائداً عاماً وحاكماً لسوريا أي بلاد الشام بعد أن مات أخوه يزيد وأبو عبيدة في الطاعون (طاعون عمواس). فحكم معاوية بلاد الشام بأجناده الأربعة … وهي كما كانت سابقاً في التقسيم الإداري البيزنطي: جند دمشق، وجند حمص ، وجند الأردن ، وجند فلسطين، ( قنسرين سلخت عن حمص في عهد يزيد بن معاوية وجعلت جنداً ). لقد حكمها كقائد عسكري قبل أن يصبح الخليفة الأموي الأول.
اتبع الوالي معاوية وهو كما عرف عنه أحد دهاة العرب الخمسة ( وهم: المغيرة بن شعبة وزياد بن أبيه والحجاج بن يوسف وعمرو بن العاص ومعاوية). سياسة مرنة مع رعيته الجديدة الذين كانوا إلى حينه على دين النصرانية، وقد اختار زوجة له مسيحية يعقوبية اسمها ميسون بنت بحدل، وهي عربية من عرب الجنوب ، واحتفظ أيضاً ببعض كبار الكتاب والموظفين في ديوانه مثل منصور بن سرجون الذي جعله مديراً لمالية الدولة ( كان منصور بن سرجون أحد المفاوضين الذين انتدبتهم دمشق لمفاوضة المسلمين العرب عندما كانت محاصرة قبل الفتح .. ) ، ولم يوفر جهداً (والكلام عن معاوية) في سبيل إخفاء الحد الفاصل بين المسيحية والإسلام . ونتيجة لهذه السياسة التي اتبعها معاوية كان المسيحيون في سوريا يعتبرون الدين الجديد مذهباً توحيدياً آخر من المذاهب التي كانت منتشرة آنذاك وهو لا يتناقض مع دينهم… وما زالت المدونات عن المناظرات التي كانت تحصل في تلك الفترة بين المسيحيين والمسلمين (وبحضرة الخليفة في بعض الأحيان ) شاهداً على هذه الأجواء المريحة، وقد شارك في بعض هذه المناظرات القديس يوحنا الدمشقي الشهير حفيد منصور بن سرجون المذكور سابقاً.
إذا هذه هي الأجواء في سوريا وبلاد الشام في تلك الفترة، وكل الشواهد تشير إلى أن السوريين بمذاهبهم ونحلهم كانوا يكنون لحاكمهم الجديد معاوية كل المحبة والاحترام والإخلاص.
معركة صفين وبوم الأربعاء الحمصي
أعاد معاوية تشكيل الجيش من جديد على طريقة عصرية وطعمه بعناصر سورية من مسلمين جدد لم يعرفوا عن الإسلام شيئاً وما أكثر ما قاله المؤرخون الأوائل عن هؤلاء المسلمين الجدد وجهلهم في ما يتعلق بدينهم الجديد ومعلوماتهم المغلوطة عن الصحابة وجهلهم بالخلافات الحاصلة على الخلافة وغيرها من الأمور، لكن معاوية حقق بواسطة هذا الجيش (غير العقائدي) عدة انتصارات كبيرة على البيزنطيين في البحر والبر. لقد أعده على الوفاء له وطاعته طاعة عمياء فقد كان يتوقع وينتظر يوم الحسم الذي أتى فعلاً في 26 تموز سنة 657 م. إنه يوم صفين حيث اجتمع في سهل صفين جنوب الرقة الجيشان ( العراقي ) بقيادة الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه من جهة ( والسوري) بقيادة الوالي معاوية وأتباعه من جهة أخرى، وكان اليوم الأول من صفر وصادف أن كان يوم أربعاء… وفي أول يوم قام به الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بالمناورة الحربية كان أيضاً يوم أربعاء (المسعودي ج 2 ص 391 )
وقد أفادنا عما حصل في هذا اليوم المسعودي وابن حزم ( ص 326 و327 ) حين كتبوا في هذا الشأن أن علياً جمع همذان ( وهم قبيلة عربية من مناصريه ) وقال: أنتم درعي ورمحي وما نصرتم إلا الله ولا أحببتم غيره . فأجابه سعيد بن قيس: أحببنا الله وأنت وقاتلنا معك من ليس مثلك ، فارم بنا حيث شئت . فقال الإمام علي إذ ذاك:
ولو كنت بواباً على باب جنةٍ لقلت لهمذانَ ادخلي بسلام
ثم قال لحامل لواء همذان: اكفني أهل حمص فإني لم ألق من أحد ما لقيت منهم ( يقصد في يوم الأربعاء )، فتقدم أهل همذان وشدوا شدة واحدة على أهل حمص وضربوهم ضرباً شديداً متداركاً بالسيوف وعُمُدِ الحديد حتى اضطروهم إلى اللواذ بقبة معاوية.
إذا ففي يوم الأربعاء استبسل الجيش الحمصي إلى حد الجنون فاضطر الإمام علي أن يقول اكفني أهل حمص ومن منا لم يقرأ عن شدة بأسه وبسالته في القتال ؟
ولكن هذا لا يكفي فيما يتعلق بالأربعاء فهناك إشارة أخرى أوضح وأهم .. إذ عندما أتى عامل معاوية عمرو بن العاص إلى حمص، بقصد تسيير الجنود إلى صفين مستحثاً أهلها إلى الإسراع إلى ساحة المعركة في صفين وصادف ذلك أن كان يوم أربعاء . قال أحد الحمصيين باسم الجميع بقصد تأجيل المسير يوماً أو يومين (بإذن الله ننطلق معكم على بركة الله بعد صلاة الجمعة فنحن نحب هذه الصلاة وليس لنا رغبة في أن تفوتنا ) فأجابهم عمرو فوراً وهو أحد الدهاة الخمسة أيضاً : نقيمها لكم اليوم الأربعاء بدلاً من الجمعة … فأين الضرر في ذلك ؟ . فوافق الحمصيون بل واستحسنوا الأمر وأقاموا صلاة الجمعة في الأربعاء . فقيل عندها عن الحمصيين بأنهم يعيدون في يوم الأربعاء.
إن هذا الحدث وغيره من التصرفات الغريبة التي صدرت عن أهل حمص وهم الجند الرئيسيون في صفين قد جعل معاوية يرسل مرة للإمام علي كرم الله وجهه بعد أن هدأت المعارك واستقر كلٌ على ما كسب فقال للمراسل : ( أبلغ علياً أني أقاتله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل ( في إشارة أنهم من غير العرب ) وقد بلغ من أمرهم في طاعتهم له أنه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم الأربعاء ( في إشارة إلى الحمصيين ) وأعاروه رؤوسهم عند القتال وحملوه بها … وأكمل بما لا يصح قوله في هذا المقام وهو وارد لمن يشاء في المسعودي ج3 ص 42 . لقد زادت هذه الرسالة التي اشتهرت كثيراً فيما بعد من شهرة ما فعله الحمصيون وسمع بما حدث بواسطتها من لم يسمع به من قبل ولبست حمص تهمة الأربعاء وثبتت عليهم.
يتضح جلياً، وفق ما سبق، أنَّ ما قاله المؤرخون عن حمص من حيث أن أهلها فيهم ما يشبه اللوثة في عقلهم يعود إلى ما قبل الإسلام. ففي يوم فتح حمص وصف أهلها بتبلد العقل. أما الأربعاء فقد علقت بالحمصيين في يوم صفين أو في يوم المسير إليها. إذ صلوا فيها صلاة الجمعة وصادف أن قاتلوا بضراوة بدون عقل وتعقل يوم الأربعاء وسمع برسالة معاوية كل أصم، فصح القول فينا : أن عيدنا الأربعاء والوقفة يوم الثلاثاء.
ما سبق كان ربطاً متيناً للجدبة بالاربعاء … فماذا عن الجدبة نفسها؟
عندما نكمل طريقنا التاريخي إلى حمص المسيحية – البيزنطية – السريانية قبل الإسلام، ونواصل البحث عن جذور قصة الجدبة، وعندما نصل إلى عام 550 م تقريباً، نجد أنه قدم إلى حمص راهب في الخمسين من عمره وأخذ يأتي بأمور غريبة مضحكة، جعلت الناس تشفق عليه وترثي لضعف عقله وتنسب ما تراه فيه من طرق العبادة والتصرفات الغريبة إلى نقص مداركه، فكان يطوف في الأزقة ، ويرتاد الشوارع وهو يركض ويرقص ويصيح ويقهقه حتى ثبت للجميع أن هذا الراهب شارد العقل، مأخوذاً بخيالات غريبة ، مجذوب الروح .. هذا الراهب أصبح فيما بعد القديس سمعان المُتبَاله، أو الجاهل، أو المجذوب في العامية ، أو الدرويش ( مع بعض التعديل في اللغة العربية / الإسلامية لاحقاً. ) إنه المؤسس الأول لطريقة تعبّد غريبة جداً عن منطقنا اليوم ألا وهي نكران الذات عن طريق التباله، وهي إحدى طرق العبادة الغريبة جداً التي شاعت في سوريا في تلك الفترة مثل العمودية وغيرها ، فكما كان العموديون يلجأون إلى الأعمدة والغرف العالية للانقطاع إلى التعبد وقهر الجسد ، كذلك المتبالهون من بعد سمعان هذا اتبعوا ( طريقة التباله )، فكانوا يصطنعون البله ويتحملون الإهانات فيذلون أنفسهم ليقضوا على كل (كبرياء) فيها ، فالكبرياء في نظرهم هي الطريق إلى النار (إن العموديون ليسوا أقل غرابة في طريقة عبادتهم ) .
ماذا عن هذا القديس؟ ما يهمنا من سيرته المدونة بالتفصيل في كتب سير القديسين في كل الكنائس … وباختصار …. هو رهّاوي ( من الرها ) المولد توفي في 570 م أو 588 م … ؟ كان قد قصد القدس حاجاً لحضور عيد رفع الصليب هناك، ( وتعفير وجهه بتراب الأراضي المقدسة الطاهرة ). تنّسك وترهّب في البراري الاردنية 29 سنة، ثم ( ألهم الله قديسنا سمعان ) أن يعود إلى حياة الضوضاء، فجاء إلى مدينة حمص الجميلة الكبيرة الكثيرة الخيرات والشرور والبركات معاً …. هكذا ورد في سيرة القديسين [السنكسار] في الصفحة المتعلقة ب 21 تموز ) .
ولما أتى حمص كان قد تكمّل في القداسة والعلوم الروحية، فخاف على ضياع كل ما اكتسبه بشق النفس في حياة االتنسّك، من فضيلة التواضع (خاف أن يكون محترماً ) ، فتظاهر بالبله وأخذ يتصرف كما أسلفنا ( كأهبل ) مأخوذ العقل .
وكان هذا القديس محبوباً لخفة روحه، وقد قدم الكثير من المعجزات فشفى المرضى وساعد الناس وتنبأ بأمور حصلت فعلاً.
المهم أنه تم اكتشاف أمر بَلَهِهِ الزائف بعد مماته، فبنوا له ضريحاً في ظاهر المدينة صار مزاراً ومحجاً للمؤمنين، وقد لاقت تجربة التزهد هذه عن طريق ادعاء البله رواجاً في تلك الفترة ، وتوسع انتشارها حتى اصبحت عالمية، وصلت إلى قلب أوروبا وإلى روسيا فيما بعد، فنشأ فيها نساك معروفون باسم (المجانين لأجل المسيح) (بقيت هذه الطريقة في العبادة حية هناك إلى 1916).
مما لا شك فيه، أن أهل حمص كانوا من أكثر المعجبين به والمروجين لطريقته، يحدثون الزوار القادمين من أطراف العالم عن مآثر هذا القديس، ويجيبون عن أسئلتهم، فهم من عايشوه وتبركوا ببركاته واستفادوا من نعمه، ولا بد أنهم أيضاً قد دعوا وشجعوا على الاقتداء به ، ولا شك أنه كان بينهم من بدأ بنفسه فتدروش وتزهد ثم تَهَابل .. .. فعندما انتشرت طريقة العبادة هذه، كان للحمصيين الفخر أن يكون مؤسس هذه المدرسة قد اختار مدينتهم لتنطلق دعوته منها ولتحتفظ تربتها برفاته . لقد أصبحت حمص بفعل هذا القديس عاصمة التباله الروحية كما هي حال بعض المدن التي يتخرج فيها عظيمٌ فتصبح محط أنظار مريديه. (كما فيينا بالموسيقى وقم عند أئمة الشيعة) .
وما زال أهل حمص حتى اليوم يكنون للدراويش والمبروكين معزة ومحبة مميزة، إنها ( بلد خطيّ ) …والحمصي الأصيل يربي أولاده على احترام الدراويش وعدم العبث معهم والاستهزاء بهم ويضّمن في هذا الاحترام قليلاً من الخوف أيضاً .
يمكنني القول، إنه قبل قدوم هذا القديس سمعان إلى حمص لم أجد ما يشير إلى اتهام أهل حمص باللوثة في عقولهم ، أو بالحمق ، أو بالخروج عن المألوف وما شابه من الاتهامات التي ما زلنا نسمعها إلى يومنا هذا ، لكن من الواضح أن ما وجدته عن القديس سمعان الحمصي ، مؤسس مدرسة التباله في العالم ليس بقليل …
أين دفن هذا القديس وأين مقامه ؟
لقد ورد في أغلب كتب التاريخ العربي، أن الخليفة عمر بن عبد العزيز اختار أن يدفن في دير القديس سمعان في حمص ( الطبري … المسعودي، ياقوت الحموي … وغيرهم )، ولكن أحداً منهم لم يحدد أي سمعان .. هل كان عمودياً أم متبالهاً … ؟؟ قال الفرزدق :
أقول لمَّا نعى الناعـون لي عمراً لقد نعيتم قَوَامَ الحق والديــنِ
قد غَيَّبَ الرَّامِسون اليوم إذ رَمَسوا بِدير سمعان قِسطاسَ المَوازِينِ
والمعروف أن الخليفة عمر، كان قد تزهَّد في آخر أيامه، واعتكف في الدير وكره الحكم وشؤونه، واشترى من ( الديراني: أي صاحب الدير مساحة قبر لمدة سنة وطلب منه أن يدفن فيها )، وما زال الباحثون حتى اليوم يبحثون في أمر مكان هذا الدير، ولكن لم يكن في ذهنهم غير القديس سمعان العمودي الأكثر شهرةً فيوسعون حدود حمص لتضم إدلب ومعرة النعمان حتى تنطبق الجغرافيا على التاريخ فتصح رواية المؤرخين وتشمل حدود حمص قلعة ودير سمعان العمودي؟ أو يذكرون ديراً مندثراً على اسم القديس سمعان إلى الشرق من حمص، أو ديراً بالقرب من دمشق لسمعان العجائبي . ..! ولم يفطن أحد منهم حتى الآن أن هناك قديساً آخر اسمه سمعان وديره المندثر في حمص ؟
إن مكان إقامة هذا القديس وهو كما الوصف، في ظاهر المدينة بجوار السور بحيث يمكنه أن يذهب لينام فيه كل يوم كما هو واضح من سيرته . ومن الثابت أنه بُني له مقاماً هاماً في مكان سكنه حيث دفن، ذلك بسبب منزلته الخاصة عند أهالي المدينة . وأنَّ هذا المقام يجب أن يكون قريباً جداً من سور حمص القديم .
انه باختصار مكان مقام عمر بن عبد العزيز في جب الجندلي، مقابل باب الدريب، وقد قدمت دراسية وافية في هذا الشأن في مؤتمر تاريخ حمص في جامعة البعث وقدمت البراهين على صحة هذا القول، فأرجو أن يلقى موضوع مكان هذا الدير اهتمام الباحثين في هذا المجال، فيتوصلوا إلى ما يفيدنا نحن أهل حمص جميعاً معرفياً وتصحيحاً تاريخياً وسياحياً ودينياً واقتصادياً، فيكون لدينا هذا الموقع الذي نفخر به كمسيحيين أو كمسلمين، في حمص وعموم سورية إذ نرى الخليفة مسجّى إلى جانب القديس سمعان المتبله.
أود ختاماً، أن أعود وأشدد: هذه هي حمص ونحن سكانها الحمصيون الأصليون المقتنعون بحمصيتنا … نفتخر بما نُتهم به مهما كان أصله وسببه، نفتخر بما نحن عليه الآن، وبما كنا عليه في الماضي، وبما قدمناه لمحيطنا ومجتمعنا. نفتخر برتبتنا وترتيبنا بين المدن السورية من حيث نسبة المتعلمين والمثقفين فينا، ونفتخر بطبعنا السمح الذي جعل مدينتنا قبلة لكل من يطلب العيش بسلام، فنحتضن الغريب ممن ضاقت به حدود وطنه فأراد العيش بيننا، فيصبح كصاحب الدار يقول عندما يستغرب شيئاً (حاجي عاد )، أو عندما يفقد شيئاً غالياً على قلبه يقول ( حبالتاي )، وتنمو فيه روح المحبة فيقول لمن كانوا أضعف منه ( خطيّ ) ومن ثم وبعد فترة يكون له الشرف أن يصبح حمصياً، فيعبّر بمقولاته ولهجته عن حمصيته، ويرضى بكل سرور، أن تلتصق به تهمة الجدبة ويرحب بالتهمة ويفخر بها طالما هو في هذا يحافظ على نسبته إلى حمص والحمصيين .
مما تقدم وحتى إشعار آخر تحدده معلومة جديدة تظهرها كتب التاريخ، أعتقد إن أساس الجدبة أو التباله في هذه المدينة يعود إلى هذا القديس الرهاوي، الذي طبع المدينة بطباعه الغريبة واستمر فعله 1500 سنة. وربما سيستمر 1500 سنة أخرى. أما ديره أو مقامه فقد اختفى عن الأنظار، ربما انسجاماً مع أفكار سمعان هذا الداعية لنكران الذات فعندما مر به الشاعر أبو فراس بن أبي الفرج البزاعي ورآه خراباً غمه ذلك فقال :
يا دير سمعان قل لي أين سمعان وأين بانوك خبرني متى بانوا ؟
أجابني بلسان الحــــال إنَّهم ( كانوا ) ويكفيك قولي إنهم كانوا
معجم البلدان ج 2 ص 517
وفعلاً يكفينا اليوم أن نقول أنهم … كانوا … وبإمكاننا أن نتمم قول الشاعر فنقول: إن الذين ماتوا ودفنوا هنا … ( كانوا ) … لكن بوجودنا هنا وبما أورثونا إياه (استمروا … و مازالوا … )