العالم الآن

نهاية العولمة السعيدة ؟

افتتح العام 2020 مسيرته بوباءٍ كارثي، قالباً الحياة اليومية للكائن البشري رأساً على عقب على امتداد جغرافيا هذا الكوكب، مهدداً مسيرته الصحية، الاجتماعية، الاقتصادية، والنفسية، مُنتجاً مُناخاً من الخوف والذعر والانكفاء والضياع والحذر، محاصراً دورة الحياة اليومية العادية، مسبباً خسائر هائلة وموت مئات آلاف الضحايا.

هل يُنذر وقوع هذا الوباء الكارثي، واستمراره منتشراً، بقرب موت ( العالم  المُعولم ) الذي احتفينا بجدته وحداثته، وعشناه ونراه الآن يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة؟

مما لا شك فيه، أن العديد من علماء الاجتماع والاقتصاد والصحة، وأيضاً من رجال السياسة، أبدى ريبة من سيطرة العولمة، وما يمكن أن تسببه من انهيار اقتصاديات أمم معينة، وانعدام الأمن الصحي والنفسي الغذائي وانتشار الأوبئة، عندما أوجبت فتح الحدود، بل محوها، بما فيها ( الحدود الصحية ) التي لا يستقيم وجودها مع آليات العولمة ومقتضياتها وعالمها الجديد.

ولطالما كان هذا الخوف المبرر- برأيي –عرضة لسخرية معظم طبقة النخبة في العالم الغربي عموماً، وأغلب وسائل إعلامه تبنت حتمية العولمة وعدم القدرة على إيقاف مسيرتها المتسقة مع المسار الطبيعي للتاريخ.

الحجر المفروض علينا منذ آذار الماضي، هو في أحد معانيه، إعلان عن نهاية ( العولمة السعيدة ) ومعها ( العالم الجديد ) والعودة بالقوة نحو ( عالمنا القديم ).

مع سقوط جدار برلين شتاء العام 1989، تم التبشير بدخول عالم جديد، ودشّن السياسيون الغربيون دخولاً افتراضياً في العالم ( الحديث – الأخلاقي ) الذي سيسوده السلم والسلام؟ هذا العالم المُبتَكر، الذي كان ليخلصنا، على حد افتراضهم وأمنياتهم لو شئتم، من الحدود بين الأمم والشعوب، من السيادة الوطنية، التي لا يستقيم وجودها مع عالم ( غير سياسي ) و ( غير تاريخي )، خالٍ من الحروب والأديان والايدولوجيات، وبالمقابل سيسود منطق ( السوق ) كعامل منظم يكاد يكون وحيداً للحركة الإنسانية، بما أنه سيحوّل ( المواطنين ) إلى مجموعة ( مستهلكين ) في سوق عالمية موحدة ولا محدودة.

تفترض هذه المتغيرات، تغييراً في مصطلحاتنا: سنتكلم عن الإدارة والتحكيم بدلاً من الحكومات، سنتكلم عن التنظيم بدلاً من القانون، سنتكلم عن الفضاءات بدلاً من الحدود، سنتكلم عن التجمعات المدنية بدلاً من الشعوب.

اليوم، ربما، مع حلول هذا الضيف الثقيل ( فيروس كورونا ) إلى جانبنا في هذا العالم، يبدو أن التغييرات التي فرضتها العولمة ومنها هذه المصطلحات المستندة إلى مرجعيات إيديولوجية، في طريقها إلى الاندثار، فليس علينا سوى مراقبة وتحليل دور المنظمات الأممية في النزاعات الدولية، وتقييم أدائها في إدارة ومواجهة هذا الظرف الاستثنائي نتيجة هذا الوباء وما سببه من دمار اقتصادي واجتماعي، وموت وضياع وشعور بالعجز، لنتأكد تماماً من عودة عدة مسلمات كان يفترض أنها دفنت تحت أنقاض جدار برلين 1989؟

عاد مصطلح ( الحدود ) كعنوان بارز في سياسات حماية المواطن وأمنه الاجتماعي والصحي أيضاً، كما عاد مصطلح ( السيادة ) ليعبّر عن قدرة الأمم والدول على اتخاذ قرارات سريعة، خاصة وذاتية في إطار مصلحتها دون النظر إلى المنعكسات الدولية كثيراً، وعلى ذلك، عاد مصطلح ( محلي ) ليحيل حقول الاقتصاد والاجتماع والصحة مجدداً إلى إدارة الدولة التي تتحكم بقدرتها على النحو الذي يمكنها من ابتكار وسائل استمرارها وتجاوزها للأزمات.

عندما قررت مختلف حكومات العالم وجوب ( الحجر الصحي )، لم تطلب من الناس التحصّن في أماكن العمل والعبادة والجامعات والمدارس، بل طلبت منهم العودة إلى بيوتهم، إلى عائلاتهم وبذلك عادت ( العائلة ) مجدداً، بعد أن شرّدتها الحداثة ردحاً من الزمن.

الدرس الذي تعلمته الدول، وخصوصاً الأوروبية منها، أن تسليم أمنها الصحي والغذائي والاقتصادي عموماً، ومعظم مؤسسات وإدارة حياتها، إلى الآخرين – بداعي العولمة – هو ضرب من الجنون!

تحيلنا أزمة وباء كورونا، التي تخيّم على العالم، رغم أن تداعياتها وطروف نشأتها وانتشارها لاتزال غامضة وموضع تساؤلات كثيرة، تحيلنا إلى التفكير ملياً بحياتنا التي عشناها وأساليبها، بالعولمة وما قدمته لنا وبجدواها وأزماتها البنيوية التي ربما، فتحت الطريق لنا مجدداً للعودة إلى (عالمنا القديم ) الذي يبدو كحلٍ وحيد لخلاص الإنسان وأمنه واستقراره وتقدمه.

د. حاتم سلّوم

طبيب وأديب سوري مقيم في باريس

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق