يتقدم المشهد الابوكاليبتي (المشبع بالبحث المهووس عن الضحايا)، الغبار ودخان ونيران شرق المتوسط، تلك اليوميات المثيرة لرجب طيب أردوغان، الذي يترك الآثار العميقة لتقدمه في وسط هذا اللهيب المحيط بالمنطقة، حيث يمكن اقتفائها بسهوله بالغة. ليس ثمة حاجة للتنبؤ لمعرفه ماهي خطوته القادمة، لأن تضاريس سلوكه السياسي وطموحه أصبحا يملآن المشهد المتوسطي.
في قلب هذه اليوميات، يمكن ملاحظه انتهاء الجمهورية الأتاتوركية، الجمهورية الأولى التي لن يعقبها جمهوريه ثانية، لأن عملية اقتفاء آثار أردوغان في يومياته تقود إلى خلاصة واحدة. إنَّ الرجل يسعى لأن يكون ملكاً…؟ يشبه في ذلك نابوليون بونابرت في استيلائه على السلطة في الجمهورية الفرنسية الوليدة التي كان يسيطر عليها ماكسميليان روبسبير، الجمهورية الحائرة بين فلاسفتها اليعاقبة ومنفييها الملكيين الموزعين على أنحاء القارة الأوروبية، وتأسيسه لإمبراطورية عاشت ما يقرب من المدة نفسها التي عاشتها امبراطوريه الرايخ الثالث الألماني، ثلاثة عشر عاماً، ربما أقل من عمر جيل واحد. لن يكون مفاجئاً إن تحولت استانبول إلى عاصمة جديده لما يمكن ان يكون التضاريس الأولى الناتئة لإمبراطورية هي قيد التشكل في رمزيتها الفجة لملامسة ما كان فعلاً امبراطورية في الماضي، وفي رمزيتها الجديدة تتجه لإزاحة رمزية أنقره الأتاتوركية، الرمز المؤسس الأول لجمهورية 1923 التركية.
في قلب هذا الحدث، هذه اليوميات المتحفزة لأردوغان، تكمن تلك الإرادة الدفينة في إعادة بناء تركيا مجالها الحيوي lebensraum ،في مقاربة فظة لرؤية وتعريف الفيلسوف الالماني فريدريك راتزل في القرن التاسع عاشر لها، والتي استولى ادولف هتلر على نصّها وأسس عقيدته على مضمونها في كتابه كفاحي mein kampf .والذي نسي الغرب أن يقرأه، حتى اجتاحت ألمانيا بولندا ودخل جيشها وارسو.
في يوميات أردوغان المرئية، تشغلها وتشكلها هاجسان، هي التي ترسم تلك الاستطالات الفوضوية ظاهرياً والمتسقة بين بعضها تحت السطح. أولاهما هو الاستيلاء على كل تلك الرمزية والتي تمثلها الجزيرة العربية ووريثتها السياسية الدولة السعودية، في قدسيتها الدينية التي تمنحها إلى جانب ثروتها النفطية، منصة القيادة في العالم الإسلامي، ونقل هذه المنصة إلى استنبول التي (سُلبت مكانتها ورمزيتها) بصراع الخلافات المقدسة، وجاء تأسيس الجمهورية التركية ليضع الرمزية الدينية خارج إطار الدولة، وكأنه يقدمها كهدية للسعوديين. حان الوقت لاستعادة ما تم سلبه من استنبول!
وثاني تلك الهواجس، هو بناء تلك الامبراطورية بالقطعة: شبراً وراء شبر، واستعاده تلك الحدود الموهومة لما كان دولة امبراطورية في الماضي، بضم مباشر أو ضم بالتبعية، وكلاهما ينجزان وهم وحلم استعادة الإمبراطورية.
في أسفل تلك اليوميات بسطر واحد، نفهم كل أسباب هذا التوتر. في البحر المتوسط، في البحث التركي الحثيث عن منابع الطاقة أو السيطرة عليها في جغرافيا بعيدة. من يعرف يوميات الحرب العالمية الثانية يعرف مأزق الحرب الذي عاشته آلة الحرب الالمانية واليابانية ،وهو افتقادهما لمصادر النفط الشريان الاول لتغذية آلتهما الحربية، مما دفع المانيا إلى ارتكابها حماقة اجتياح الاتحاد السوفييتي للسيطرة على منابع النفط في جنوبه، ودفع اليابان للدخول في حرب مباشرة مع الولايات المتحدة الأميركية، في بحثها عن مصادر نفطيه في شرق الباسيفيكي، وخشيتها من أسبقية الولايات المتحدة في السيطرة عليها.
أردوغان يريد أن يحرر آلته العسكرية من زنزانة الخنادق وضغط الدول المنتجة والمسيطرة على مصادر الطاقة والغاز والنفط، التي تستطيع خنقه وقطع شريان حياته، عبر استيلائه على حقول النفط والغاز ليحرر نفسه من تبعية الإلتحاق بالمنتج.
يلي ذلك بسطر واحد فقط في يوميات اردوغان، ذلك التشابه المذهل لـ (تكتيكات) أردوغان مع أسلوب أدولف هتلر في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، والتي تم تشييدها عبر وزير خارجيته فون ريبينتروب في إلحاق كل الجاليات الألمانية او المنحدرة من أصول ألمانية، إلحاقها في تجمعات ومؤسسات موالية وملحقة بسياسات مرتبطة بألمانيا النازية وتلعب دورها في مساعده المانيا في إضعاف وضعضعة السلطة في البلدان التي توجد فيها هذه الجاليات تمهيداً لاحتلالها أو العمل على الاستيلاء عليها، كما حدث في تشيكوسلوفاكيا والنرويج والنمسا وهولندا واوكرانيا وبولونيا. مقاربة أردوغان الحرفية واقتفاء كتاب السلوك النازي قبل الحرب يبدو مطابقاً وحرفاً حرفاً، في إعادة تهيئة هؤلاء المنحدرين من أصول تركية والمبعثرين في دول الشتات، في المنطقة الممتدة من قلب آسيا والصين إلى ليبيا، للإتكاء عليهم كتمهيد مدفعي في دول مولدهم للانقضاض عليها والسيطرة على قرارها وضمها للمجال الحيوي التركي المنسوخ عن النازي!
وربما هذا التكتيك، هو الذي يدفعه الى بناء مستعمرات جديدة بالمعني الحرفي للكلمة في قلب ليبيا وشمال سوريا والعراق، مكونة من مهاجرين ملحقين بالجيش الانكشاري الذي يبنى أمام أعين العالم من مرتزقة تم منحهم جنسية دولة الارتزاق ليشكلوا الطليعة المؤسسة لمواقع قدم تمهد للتوسع التركي القادم.
في يوميات أردوغان، في السطر الأول من الباب الأول من الفصل الأول، أنه يتقدم بينما أعداؤه في حيرة التردد. هو يبادر بينما أعداؤه يتذمرون. هو لا يبالي بينما أعداؤه يتحفظون. هو صاحب حلم يقود الخائفين الى أشدّ كوابيسهم وكوابيسه قتامةً.
حان الوقت لإيقافه؟
من يتجرأ يربح.
توصيف دقيق لأحلام ومطامع الإمبراطور العثماني.
كما تفضلتم ، هو يمشي والآخرون متفرجون.