المقال

الصندوق

أو: احتجاز الفراغ

-1-

دأب البشر منذ بدء مسيرتهم الانسانيّة، على (صَنْدَقَةِ) الفراغ اللانهائي، باقتطاع ما أمكنهم منه واحتجاز قطعه وما سلبوه منه وحصارها وراء عوازل، كي يحتجزوا أنفسهم وأغراضهم وكلّ (مجسّماتهم) التي سيدعونها بـ (الحضارة).

-2-

ست قطع خشبيّة، يتم تشكيلها متضامنة متكاتفة لتتمكن من احتباس (فراغ) داخلها. إحدى هذه القطع ستكون الباب الموصل إلى هذا الفراغ، الذي يشكّل (الكيان المجرد) القابل للامتلاء بـ (مجسّمات وأشكال غير محدودة)، قد تكون كنوزاً من ذهب وياقوت ومرمر، وقد تكون خفايا وأسرار من التاريخ، لتصل أن تكون جثّة إنسان قضى عمره وها هو موضّب في صندوق مغلق ليغادر نحو عالم أخر!

-3-

للصندوق سلالات كبرى تقيم وتتناسل عائلات لا تكاد تُحصى، في عالم السياسة والاقتصاد والمال والدين والترفيه… وصولاً إلى ذلك (الصندوق الأسود) المتخفي في جسد الطائرات، الذي بالرغم من لونه البرتقالي أو الأصفر، يدعى بالأسود ليأخذ معناه من لون الكارثة التي يوثّق سيرتها وفصولها.

وبحكم ولادتها وتبعيتها السلاليّة، ستكتسب الصناديق أسماء شهرة تُعرف بها، على أنّها لن تأخذ مكانة متساوية في عالم الإنسان، فإن كان هذا العالم يقوم على مبدأ احتجاز الفراغ في صناديق هي ما تشكّله، إلاَّ أن صناديق بعينها تتفوق بشهرتها وسيرتها وإن تفاوتت في قوتها وسلطانها.

-4-

لن تجد العروسة، في يوم زفافها، ما تأخذ فيه حليّها وزينتها وثيابها، وتخرج بصحبته من دار أهلها إلى بيت الزوجيّة، سوى ذلك الصندوق المزركش بالألوان.

صندوق العروسة هو (عالمها الخاص) الذي سيقيم معها في بيتها الجديد.

-5-

قبل أن تكون السينما صندوقاً عملاقاً يدخله الناس ليشاهدوا شريطاً متحركاً على شاشة كبيرة، كانت صندوقاً صغيراً متجوّلاً على عربة أو دابة الحكواتي. هو صندوق الفرجة أو الدنيا أو العجائب، ويُصار إلى تعديل اسمه قليلاً ليطلق عليه: صندوق العجب، متناغماً لفظاً مع تتمة النداء: للحكواتي أبو رجب، الذي يقدم بِصِوَرِهِ شخصيات عنترة وأبو زيد الهلالي وعبلة…….

لم تترك هوليود، ومن بعدها (مولّدات المعلومات العملاقة)، لا لأبي رجب ولا لأي حكواتي آخر صندوقه. وصلت في طغيانها إلى صناديق البشر / بيوتهم، وإلى صندوق نومهم عبر شاشة / صندوق ألكتروني أمسى امتداداً لأيديهم!

-6-

سيكون صندوق الانتخابات، من أكثر الأنواع تناسلاً سلاليّاً متنوعاً، فهو ينتشر في مختلف الأمكنة والمجتمعات، القويّة والضعيفة، الكبيرة والصغيرة. لفعله صفات جامعة تكاد تكون (حُسنى)!

منها مثلاً: وهّاب ورزّاق ومُعزّ ومُذل ورافع وعادل ومُحيي ومُميت ومُنتقم ورحيم…

صندوق الانتخابات، رحمٌ لإنجاب (مخلوقات) بصفات معنويّة خاصة، أشهرها المخلوقات السياسيّة، ولكنه يمكن أن يكون في مناسبة لاحقة مدفناً لهذه المخلوقات نفسها.

في معناه، تأسس في بابل عندما قررت آلهتها الأخذ بمبدأ الاختيار لمن يكون رئيسها. وفي أثينا أصبح (أصواتاً) مختلفة ولكنّ أقليتها تُقرّ لأكثريتها بخيارها.

رحلته الطويلة في تاريخ الانسانيّة، لم تتمكن من إنتاجه كـ (نموذج) جامع لا يمكن الاختلاف حول معناه ووظيفته وجدواه. هو (مُقَدس) في بلاد (الديمقراطيات) ومكروه في بلاد (الاستبداد: الملكيّة والأميريّة والجمهوريّة).

من عجائبه، أنه قد يكون مُعتمداً في البلاد الاسكندنافيّة أو في فرنسا أو كندا أو بريطانيا، في انتخابات رئاسيّة أو برلمانيّة… وفي الوقت نفسه مُعتمداً في غرف العصابات السوداء وأزقتها لانتخاب رئيسها وزعيمها!

يتشاوف صندوق الانتخابات الغربي على ما عداه من صناديق أخرى في العالم، حتى ولو كانت موجودة في بلاد عملاقة وعظمى كالصين وروسيا، فكيف إن كانت، مثلاً، في مصر وسورية والسودان؟ فيما العديد من الدول، لا تشعر بهذا التشاوف الغربي لأنّها لم تتعرف بعد على الانتخابات، وإن كانت تعيش في صندوق مغلق!

هو ليس بريئاً إلى حد التخيّلات حوله، بل كثيراً ما يتم اللعب به.

خبرة الدول الغربيّة تجعل اللعب محصوراً خارجه بـ (القدرة على التأثير على الرأي العام) وتحويل اتجاهاته من جهة إلى أخرى، فيما هذه الخبرة مفقودة في الدول الأخرى التي يمكن أن يلجأ بعضها إلى استبدال صندوق بأخر، وهذا الاستبدال ضروري منعاً من اندلاع الحرب الأهلية، إلاَّ أنّ هذا الاستبدال نفسه قد يكون سبباً في اندلاعها!

لم يتحمّل الجنرال ديغول ما خرج من صندوق الانتخابات في العام 1969، حول الإصلاحات التي اقترحها على الشعب الفرنسي، فاستقال خارجاً من الاليزيه نحو بلدته كولوميي لودي زيغليز، ليقضي وقته مع زوجته مفضّلاً مشاركتها لعب الورق على الرضوخ لسلطة الصندوق غير المتناسبة مع كبريائه.

في المقلب الغربي من الأطلسي، سيتعرّض صندوق الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة في العام 2000، إلى إهانة تاريخيّة غير مسبوقة في البلاد التي تُعتبر (الأعرق ديمقراطيّة) في العصور الحديثة. حيث لم يتمكن الصندوق من تقرير من هو الفائز، أل غور الديمقراطي أو جورج بوش الجمهوري؟ الاتهامات متعددة: صندوق مبعثرة أصواته هنا، وصندوق أُلغيت أصواته هناك لكونها تعود إلى (سود) محكومين قضائياً بجنايات تبطل حقهم بالانتخابات…؟

وإزاء عجز الصندوق عن القيام بدوره، قررت المحكمة العليا في واشنطن بعد خمسة أسابيع على إجراء الانتخابات، النيابة عن الصندوق وإعلان فوز الجمهوري جورج بوش بأصوات المجمّع الانتخابي رغم تفوّق أل غور بعدد الأصوات الوطنيّة.

انتقم الديمقراطيّون من الجمهوريين في العام 2020، حيث أعلن فوز جو بايدن على دونالد ترامب في عملية تحيط بها الشبهات من كل صوب؟

البرنامج الاستراتيجي الذي نُفّذ مع جورج بوش حينها، وذلك الذي يُنفّذ مع بايدن الآن يفسّر لماذا في بعض الأحيان تتدخل الاستراتيجيا لتصفع صندوق الانتخابات وتهينه وتخرس أصواته!

منذ ولادته كفكرة، ومن ثم تجسّده عن طريق (صَندَقَته)، إن تمّ تشريفه وتقديسه، أو صفعه وإهانته وتجاهل وجوده، سيبقى صندوق الانتخابات بالمؤمنين به والكافرين، بالواثقين فيه والخائفين منه… سيبقى بفعله و (صفاته الحُسنى) حاجة ملازمة للاجتماع البشري.

-7-

صندوق الشكاوى، يمكن أن يبقى فارغاً أبداً… لضيقه عن استقبال حجم (القهر)، الذي ليس له صندوق سوى الصدر الكظيم.

القهر ينفجر انفجاراً، ولا يُحشى بصندوق.

-8-

صندوق النقد الدولي، يقيم سعيداً في واشنطن منذ ولادته مع نهاية الحرب العالميّة الثانيّة. يُردد اسمه على مدار الساعة في المراكز الاستراتيجيّة والأروقة السياسيّة والمؤتمرات الصحفيّة. أذرعه أخطبوطيّة طويلة تطوق عنق الكرة الأرضيّة. بارد الطباع وساديٌّ، يتقدم نحو (ضحيته) ويحاصرها ويضيّق الخناق عليها ولا يمل من انتظارها إلى أن تقع مرميّة مستسلمة لـ (وعوده – شروطه – سلطته).

بعد توليه وزارة الدفاع الأميركية لمدة سبعة أعوام، دمّر في خلالها فيتنام على نحوٍ منهجي، انتقل روبرت مكنمارا لإدارة صندوق النقد الدولي من العام 1968 وحتى العام 1981. لعل مكنمارا نفسه أعاد هَندسة الصندوق ليتولى حسب تعبير الاقتصادي الأميركي الشهير جون بيركنز الذي لقّب نفسه بـ (القاتل الاقتصادي)، عمليات (الاغتيال الاقتصادي للأمم)؟

-9-

صندوق الشهداء، سيفتح بابه لأولئك الذين كلّما أخذوا منه (فلساً) واحداً، يشعرون بأنهم يأكلون دماء آبائهم…!!

صندوق نبيل… لكنه كاوٍ حارقٍ للفؤاد… آلامه لا تطاق.

-10-

التابوت!!

بلى، التابوت صندوق الإنسان عندما يصبح جثّة. هو صندوق التوبة، أي العودة. العودة إلى التراب أو التلاشي في الفراغ، خارج الصندوق؟

(تابوت العهد) التوراتي، الذي ترد الإشارة إليه في القرآن: [إنْ آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربّكم وبقيّة مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة. الآية 248 – سورة البقرة].

(تابوت العهد) مُلغّزٌ بالأسرار المحيطة بولادته ومسيرته ومكان إقامته؟

الرواية الوظيفية تتوصل في سردها إلى أن (تابوت العهد) المُفتقد والغائب، لا تحمله الملائكة، كما يسرد القرآن، بل هو في (قدس الأقداس) الذي لا يفارق هيكل سليمان.

وماذا لو أخلصنا للتاريخ وذكّرنا أنَّ (قدس الأقداس) ليست سوى بابل / بيت الاله، استعار لقبها كَتَبَةُ اليهود الذين دوّنوا التوراة، في حقبة السبي، في القرن السادس قبل الميلاد؟

إلى الآن لم يتمكن التاريخ من تصحيح السرديّات المزيفة، ولا يبدو أنه سيتمكن قريباً،

فـ (ألواح الله) التي تقيم في (تابوت العهد)، تكاد تكون بين أيدينا، بل لعلنا نُلحق بها النجاسة من وقع أقدامنا فوق ساحات المسجد الأقصى، الذي تحت أساساته تماماً، حسب السرد الوظيفي، يوجد هيكل سليمان؟

ذروة السرد تضع اللاهوت هنا أمام حتميّة الانفجار الكبير… الاشتعال غير القابل للخمود والتوقف.

(تابوت العهد)، بـ (ألواحه) احتجازٌ لـ (الألوهة) واحتكارها وتخصيصها.

على أنَّ (العهد) يخضع لمعنى (التابوت) المحكوم بالعودة، لكن العودة إلى أين؟

هو لغم في قلب اللاهوت، انفجاره يعيد سيادة الفراغ المطلقة.

-11-

القبيلة، الطائفة، المذهب… صناديق معبأة بالبشر. والبشر سلعة موسومة بعلامة مميزة وبتاريخ إنتاج.

انتهاء الصلاحية بأمر صاحب الصندوق.

-12-

الرؤية الدينيّة (تُصَندق) ما بعد الحياة / الحياة الأخرى، بمكانين / صندوقين: الجنّة وجهنم.

-13-

جداران سميكان يُصندقان العقل، فكرٌ مقيمٌ لا يستقبل ولا يرسل أية إشارة، وخوفٌ يحتجزه.

-14-

فلسفيّاً، الصَندقَة تحرّش مستمر بـ (اللا محدود / اللانهائي) بالتعدي الدائم على الفراغ.

من حين لآخر، يعيد اللانهائي ترتيب سرمديته، لينتفض الفراغ ويثور مدمّراً مجسّمات البشر / حضارتهم / صناديقهم، تدميراً تاماً.

التدمير النهائي المطلق، لم يحدث إلى الآن؟

تعليق واحد

  1. هل نستطيع اعتبار “طماشات البغال” نوعا من الصناديق تنائية الوجوه، وهل يوما ما ستتحول صناديق الاقتراع سداسية الوجوه إلى وجه وحيد مسطح، عندما يصبح الاقتراع عبر الفضاء الاكتروني عبر شاشة إلكترونية قد لا تتجاوز حجم الكف القابض عليها. فيتسطح كل شيء حتى الانتخابات نفسها.
    اليوم في المانيا نوع جديد من التوابيت وهو عبارة عن قارورة صغيرة تضم بضع من رماد جثة، تنقل مع اثاث البيت كأي قارورة نبيذ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق