المقال

انتصارٌ مهددٌ بالهزيمة…!

درسُ التاريخ الأول والأهم للجيش القوي الذي يخرج منتصراً من حرب خاضها وانتهت عملياتها العسكرية تماماً، أنَّ هذا الانتصار لم يُنجز بعد ولم يكتمل. فبالرغم من هزيمة العدو وسحق قوّاته وتقهقره بعيداً ووراءً، وبالرغم من انتصارك وتقدمك ورفع علمك فوق أرض المعركة، إلاّ أنَّ انتصارك لا زال ناقصاً وهزيمة عدوك لا زالت غير مؤكدة…!

انتهت معارك الحرب العالمية الأولى في العام 1918، بنصرٍ عسكري جليٍّ للحلفاء، غير أنَّ هذا النصر لم يُكرّس على نحوٍ تام كنتيجة وحيدة لهذه الحرب، إلاّ مع انعقاد مؤتمر فرساي – باريس 1919، الذي وضع النظام الدولي – السياسي، والذي مكّن الحلفاء من إتمام انتصارهم وحمايته. وعندما تصدّع هذا النظام في الثلاثينيات، اندلعت معارك الحرب العالمية الثانية، والتي أسفرت مرة جديدة عن نصرٍ عسكري ساحق للحلفاء والاتحاد السوفيتي، والذي احتاج إلى مؤتمر يالطا (شباط 1945)، وإلى مؤتمر بوتسدام (تموز 1945)، لإنتاج النظام الدولي – السياسي، القادر على حمايته، وتكريسه كانتصار نهائي، مع تكريس الهزيمة النهائية لألمانيا.

يمكن استكمال قراءة الأمثلة المؤكدة لهذا الدرس، في سجل التاريخ، من الثورة الأميركية المنتصرة عسكرياً 1776، والمحمية بالنظام السياسي الفيدرالي 1789، إلى الثورة الفرنسية 1789 المحمية بالنظام السياسي للجمهورية وقوانينها، إلى الثورة البلشفية في العام 1917 والمحمية بالنظام الشيوعي وفلسفته السياسية.

تفضي القراءة في هذا الدرس، إلى خلاصة واضحة لا لبس يكتنف معناها: الانتصار يحتاج إلى نظام حماية. الانتصار بذاته ليس تاماً، ولكي يأخذ معناه النهائي، يجب الاستفادة من مِنصته العالية لإنتاج الآليات القادرة على ترسيخه وحمايته. يمكن تحقيل هذه الآليات تحت عناوين النظام السياسي ودستور الدولة والقوانين التي يمكن أن تنتج مناخاً صالحاً لشيوع القيم الأخلاقية، والشعور القومي ومعاني الوحدة المجتمعية، ومختلف المفردات المنضوية في إطار ثقافة الانسان/ المجتمع.

الانتصار، هو المناسبة التاريخية، التي لا تتكرر بسهولة، لتصفية أمراضٍ سياسية واجتماعية وأخلاقية وثقافية، لا يمكن دونه، مقاربتها ومواجهتها ومعالجتها.

انتصرت المقاومة في لبنان، واستطاعت حماية انتصارها من (عدوها / إسرائيل)، بمعادلة ردعٍ استراتيجي، محكم ودقيق وفعّال، لكنها – للمفارقة – تفتقد وجود نظام حماية لانتصارها في لبنان! هي تتخلى عن فلسفتها كي تحافظ على (هدنة اجتماعية)، في وطنها، وهذه الهدنة تستنزف مخزونها وقوتها وجانباً من صدقية خطابها، ولهذا انتصارها، بهذا المعنى، ليس تاماً.

الجيش السوري، خاض ولا يزال معارك كبرى ومصيرية، منذ أقل من عقد، ضد أقوى تنظيمات إرهابية موجودة في العالم منذ بداية حركات الإرهاب في التاريخ المعاصر. تنظيمات تقاتل تحت قيادة دول إقليمية وعالمية. وقد حقق الجيش في هذه المعارك انتصارات، بحساب التاريخ، ستُقرأ بكونها العامل الحاسم، وربما الوحيد، الذي مكّن سورية من أن تبقى بلداً موحداً بدولة مركزية لديها الفرصة الذهبية لتجديد آليات عملها وقوانينها ومشاريعها ومختلف أنظمتها.

من المؤكد أنَّ هذا النصر لن يكون تاماً، إن لم تتم حمايته سياسياً واجتماعياً وثقافياً وأخلاقياً…، وفق نظام حماية قوي ومحكم. ذلك لأن الإبقاء على نُظُمٍ ثبت أن من ثقوبها الواسعة، اختُرقت سورية وتم تلغيم مجتمعها، سيضع هذا النصر، على نحوٍ مأساوي، في العراء دون حماية، ما يسمح بإعادة استنساخ البيئة المنتجة والمؤازرة لكل العوامل التي مكّنت التنظيمات الإرهابية وفكرها من الاستيطان سعيدة في تلافيف المجتمع والعقول التي لا تزال مختطفة الوعي والرؤية.

بوضوحٍ تام:

الفاسد: لا يحمي الانتصار، وإن تبرع بمالٍ مسروق لجمعيات خيرية!

الوصولي: لا يحمي الانتصار، وإن أبدى استعداداً لجمع القمامة مجاناً!

المنافق: لا يحمي الانتصار، وإن صدق في وصف نفسه!

الطائفي: لا يحمي الانتصار، وإن بُح صوته من خطبة التعايش!

المذهبي: لا يحمي الانتصار، وإن لعن الفتنة ومسببها ألف مرة!

المهرّب: لا يحمي الانتصار، وإن هرّب أدوية مفقودة بسبب قانون قيصر!

المرتزق: لا يحمي الانتصار، وإن حمل البندقية معك!

العميل: لا يحمي الانتصار، وإن قضى عمره في تلاوة فعل الندامة وطلب الاستغفار!

بوضوح تام، مرة ثانية:

هؤلاء هم من الثقوب السوداء في غلاف النظم السياسية والاجتماعية والدينية والأخلاقية التي منها اختُرقت سورية، والتي وقفت في الجهة المقابلة لجهة الجيش.

الانتصار يفرض أن يكون هؤلاء جميعهم مع آخرين من صنفهم في الجهة المهزومة…. حتماً.

فمن الذي ينتشل الجثث المهزومة من أرض المعارك ويستسقيها من دم الانتصارات، لتعود إلى مرابضها وكمائنها وبراقعها: مشروع إرهاب وفتنة ودمار وخراب؟

بوضوحٍ تام مرة ثالثة:

الانتصار مهدد بالهزيمة، طالما أن نظام الحماية يعاني عطباً بنيوياً في فعاليته ومستوى جاهزيته.

لنلتفت إلى التاريخ مرة أخيرة… هنيبعل…بلى، هنيبعل، أعظم نابغة حربي على مر العصور، الذي لا تزال خططه تدرّس في الاكاديميات العسكرية، والذي انتصر على جيش روما في معارك عظيمة… هنيبعل وقف طويلاً على أبواب روما ولم يتمكن من هزيمتها، بل روما من هزمته ودمرت قرطاجة ووضعت حداً لحياتها في التاريخ.

السبب الجوهري في حصول هذه النتيجة، يعود إلى نظام حماية الانتصار القرطاجي المعطوب والمثقوب… مجلس الشيوخ في قرطاجة الميّال إلى التجارة وأعمالها وأسواقها وأخلاقها، لم يكن متوافقاً مع رؤية القائد الفذِّ، خذله وتركه وحيداً ليهزم في معركة زاما 202 ق.م…. وطوال السنوات العشرين اللاحقة لم يتمكن هنيبعل من استعادة مشروعه، فمات منتحراً بسمِّ الشرف العظيم.

أبطالنا استشهدوا في ساحات المعارك بشرف القتال، فصنعوا شرفنا…

من يريدنا أن ننتحر بسمَّ الشرف العظيم؟

‫2 تعليقات

  1. دروس هامة من تجارب تاريخية وتحمل إضاءات وإضافات لكل من يستمتع بقراءة التاريخ وعِبرِهِ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق