المقال

فيروز وسارتر وبونابارت!

في العام 1945، مُنح الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر وسام جوقة الشرف، ولكنه سارع إلى رفضه (باسم الحرية). لم يكن سارتر أول من يرفض هذا الوسام (الامبراطوري النابليوني)، حيث سبقه العديد من الشخصيات إلى ذلك، مثل الأديب غي دي موباسان والعالم بيير كوري الذي قال (لا أرى ضرورة لذلك)، ومن ثم لتزداد لائحة أسماء الرافضين، من مثل سيمون دو بوفوار وألبير كامو، وصولاً إلى كاتب القصص المصورة جاك تاردي الذي أجاب بأنه يريد أن يبقى (رجلاً حرّاً)، فيما رفضت الممثلة صوفي مارسو الوسام لأن أحد الأمراء السعوديين كان قد حاز عليه!

سجل الأسماء الرافضة للوسام يشي بكون هذا الرفض أمسى ظاهرة، تضعه بتاريخه وسجله ومن حاز عليه في حقل الشكوك، وربما، الاتهام !

-1-

الحديث عن حرية المثقف الفرنسي، وبالأخصِّ الفيلسوف أو الكاتب أو الفنان، يستدعي تقليدياً قياس، ليس درجة الحرية التي يحسّ بها ويعيشها، بل ملاحظة (فائض الحرية) الذي يشكل ملكيته الخاصة والمقدسة. بهذا المعنى، لا تقاس درجة الحرية عنده من مستوى علاقته بالسلطة / الدولة بعينها، بل من مستوى علاقته بأية سلطة على الاطلاق، أكانت فيزيائية واقعية كالدولة ومؤسساتها، أو كالمؤسسات المانحة للجوائز المالية، أو كانت رمزية كالأوسمة.

عادةً، ما ينظر إلى الجوائز، خصوصاً منها جائزة نوبل، بكونها سلطة تمارس نفوذاً على المبدع لتعيد تشكيل (عقله) على النحو الذي يدفعه تلقائياً إلى تلقيح إنتاجه بما يتفق مع متطلبات الحصول على الجائزة والتباهي بها. رفض الجائزة هنا، يأتي لتأكيد رفض السلطة ونفوذها، كما يأتي لتأكيد خيار الحرية والدفاع عن (فائضها) المهدد بالاختطاف!

-2-

من المؤكد أنَّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يعرف جيداً الأدب الفرنسي وتاريخه، كما يعرف تماماً لائحة الأسماء الطويلة من الأدباء والكتاب والمبدعين الذين رفضوا الجوائز التي منحت لهم. بل يعرف على الأخص أولئك الذين رفضوا وسام جوقة الشرف، وهو من الحائزين عليه، هذا الوسام الذي يمكن التقدير، مع نسبة من الخطأ، بأنه من أكثر الأوسمة رفضاً؟؟

قد يعود السبب – برأينا – إلى أنه بالأصل أوجده نابليون بونابارت في العام 1802، كي يُمنح للضباط والجنود تقديراً لتفانيهم في خدمة الجيش والأمة الفرنسية. وهو من هذا المحتوى يعتبر (وساماً عسكرياً)، ويضاف إلى ذلك كونه وساماً مفرط المنح، حيث يمكن أن يناله سنوياً عدد كبير من الفرنسيين وغير الفرنسيين! هذا الافراط في منحه يحيله إلى (علامة مدرسية) للدلالة على مستوى ما من التفوق، أكثر ما يعطيه معنى ودلالة الوسام وميزاته.

-3-

الآن…يمكن أن نتخيل كيف هي حالة سعيد عقل عندما أطلق على السيدة فيروز لقب (سفيرتنا إلى النجوم)… وقد يصل التخيّل بنا إلى الحدِّ الذي يتراءى لنا فيه أنَّ السيدة قد تم إرسالها فعلاً إلى النجوم، لتبتعد عن (شروط) هذه الأرض وتتحرر من بيئتها ونفوذها، كما لتكون (النسخة الإنسانية) التي ستتلقفها النجوم وأجرامها بحب غامر!

حياة فيروز، بمجملها، الفنية والعائلية الشخصية، كرّست هذه الصورة التي تضعها بين النجوم وعندها.

إطلالاتها تحمل ذلك السحر الخاص الذي يبشّر في النهاية، بوجود طريق للخروج من كوابيس هذه الكرة اليابسة!

-4-

مساء 31 آب 2020، ظهرت صورة تجمع السيدة فيروز مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

رمزياً، يتقدم التساؤل التالي في مواجهة المشهد: ترى، هل السيدة هي من هبطت على الأرض لملاقاة الرئيس، أم الرئيس هو من سافر نحو النجوم لملاقاة السيدة؟

ثمة عدم يقين وارتياب، في أي جواب يمكن أن يأتي على هذا التساؤل؟ حيث تتشابك معطيات المشهد، التي تشير واقعياً إلى أن ماكرون هو من سافر نحو النجوم وساكنتها، فيما الوسام المعلّق حول عنق السيدة يؤكد أنها عادت لتسكن بيننا وتستسلم لـ (شروط) هذه الأرض ونفوذها؟

-5-

منذ العام 1802، تأسست كتيبةٌ لـ (الممنوحين) وسام جوقة الشرف، في الجيش الامبراطوري النابليوني. كثيرون لبّوا الدعوة فطوّق الوسام أعناقهم. قليلون تمردوا باسم الحرية وخوفاً من السلطة الرمزية للوسام.

شخصياً، كنت أتمنى أن أرى السيدة فيروز إلى جانب جان بول سارتر، لويس أراغون، سيمون دو بوفوار، ألبير كامو، غي دو موباسان، جاك بريل، صوفي مارسو، وماري وبيير كوري، وجاك تاردي… وغيرهم من كتيبة المتمردين، على أن أراها إلى جانب زين العابدين بن علي، ميشال سليمان، رفعت الأسد وطائفة من أمراء النفط!!

-6-

متى ستقلع السيدة، مجدداً، نحو النجوم؟

‫8 تعليقات

  1. مقال قيِّم هادئ ورصين وغني بالمعلومات! شكراً. وأجل، أؤيد رأيك وتمنياتك بأنه كان من الأفضل لو أنها رفضت الميدالية، وليس واضحاً عندي مَن شرّف مَن هذا اللقاء. سلامي القومي.

  2. أريد بداية أن أسجل اعجابي وتأثري بمقالة الأستاذ نزار سلوم وأظنها من أفضل ما قرأته حول المسألة الفيروزية، لكن لدي تعقيبا على ما كتب:
    يستند “فائض الحرية” هنا إلى “فائض الوعي بالحرية”. وإن يكن الأول هو الوردة فالثاني هو جذرها الذي لا تتفتح من دونه، فيما يدل فعل رفض الوسام على “فائض فعل الحرية” وهو الشوكة التي تصد عن الوردة يداً تسعى لقطفها، ولا فرق هنا في أقله من حيث رمزية الفعل بين يد تقصد القطف وأخرى تعلق وساما لا ينطوي على براءة القصد، إضافة إلى رصيد لا بأس به من الإبتذال. هل كانت فيروز سفيرتنا إلى النجوم؟ أريد هنا أن أختلف مع سعيد عقل ربما في أمر لا أظن أحداً اختلف معه فيه قبلي: فيروز لم تكن سفيرتنا إلى النجوم، لأننا ومعنا سعيد عقل، بكل ما نحيط به ويحيط بنا من رثاثة وضعة لا نصلح لإرسال سفيرة لنا إلى النجوم. لقد كانت فيروز سفيرة النجوم إلينا: قدمت إلينا من الأعالي، من قيم وتصورات أخلاقية مثالية جذابة، راقت لكل فرد منا، في كل الطبقات والطوائف والملل وأحببنا أن نرى أنفسنا منتمين إليها، ولهذا أحببناها جميعاً وسكنت في ضمائرنا وقلوبنا. كانت فيروز هي الحب والنقاء والروح وحتى الوطن التي نصبو اليها كلها ولا نحصل منها الا على مزق وأشلاء نتسلى بفيروز عنها ونستبدل السعي اليها بصوت فيروز. وفيروز لم تكن صوتا خارقا فقط، بل كانت كائنا كلي القدرة، يسمو بنا عاليا فوق وحول حياتنا، ويقدم لنا سماء لا نقوى على بلوغها بأجنحة مهيضة، ووطنا جميلاً نستعيض به عن كل هذه الخرائب التي نهتف باسمها وننشد باسمها وتصادر أعمارنا باسمها.
    لم يكن ممكنا أن ترفض فيروز تكريم “ابتذال” فاز بتكريمها له، بعد أن سعى اليها في هيئة نبي كاذب،ورسول للعناية والخلاص لبلدها المرمي في المحرقة. الرفض “فائض فعل الحرية” مشروط ب “فائض الحرية” ذاتها و”فائض الوعي بها” ولا أظن من مكونات الشرط الوجودي لسفيرة النجوم الينا.
    هل خانتنا السماء وخذلتنا رسولتها الينا. لا خيانة بلا عهد ولا خذلان بلا وعد. والسماء لم تضرب لنا عهدا خارج أوهامنا، وفيروز لم تعدنا بشيء خارج الأغنية.
    كان هذا قفا السؤال، وإذا استدار بوجهه إلينا فهو: هل خذلنا السماء نحن؟ هل صارت السماء خفيضة لأجلنا؟ أو في الأقل بسببنا؟
    لا أدري. وإن بت أشعر بعدها أن سماءنا صارت حقاً خفيضة.
    وليد الهليس

    1. الأستاذ وليد الهلّيس المحترم
      لا يسعني إلاََّ أن أعتبر مداخلتك وثيقة مرفقة بـ( الاستثناء الفيروزي) السماوي كما يحلو لك أن تراه، معاكساً تلك الشطحات اللبنانوية التي أصلاً لم تتمكن من استيعاب هذا الانزال العلوي.
      يشرفني حضورك بمضمونه العميق ولطافته ورقيّه، وآمل أن تتكرم دائماً بمشاركتنا على هذه المنصة التي تزداد تلاوينها إشراقاً بألوانك
      مع خالص التقدير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق