المقال

قمصان الدم / مصانع الحقد

لو دُفن عثمان مع (قميصه)...؟

-1-

ليس من المعروف مَن نقل قميص عثمان بن عفّان، وكيف تيسّر له ذلك، من دارته حيث قتل طعناً، إلى الشام، حيث استلمه معاوية ورفعه بيرقاً مُلهماً، بوجه الخليفة عليّ؟ ومن حينها لم يُرد أو يتمكن أحد من إنزاله، فخرج عن ملكية معاوية الحصريّة، ليعم شائعاً ويسود طاغياً، عابراً للزمان فوق كل الأمكنة التي لا تزال عطشى لزخات الحقد الأسود.

واقعياًّ، وفق السرد التاريخي المتداول، قميص عثمان هو ذلك القميص الذي كان يلبسه عثمان، عندما قُتل، ليمتصّ الدماء المسفوحة، ليصبح قميصاً من دم. ثم جاء مَن سارع إلى نزع القميص عن الجسد القتيل، ليحفظه ويصونه ويوصله إلى معاوية الأموي في الشام، الذي احتفى به وهو يقارع عليّ مخالفاً الاجماع على مبايعته خليفة للمسلمين.

رمزيّاً، سيكون القميص هو (السلطة) التي (سيرتديها) من يتآلف جسده مع رائحة الدم، ومن يتمكّن من مراكمته باستمرار. سيكون من شأن التصاق القميص بالجسد (دمويّاً) استحالة امكانيّة نزعه إلاَّ (دمويّاً). بهذا المعنى، لصقاً ونزعاً، ستتكفل الدماء المسفوحة بـ (تأبّيد) قميص عثمان، ليتكفّل القميص، بلونه ورائحته، بإنتاج (الحقد الأعمى) اللازم دائماً لأنصار (اللصق) ومن ثم لأنصار (النزع)، في عملية تبادلية دائرية مغلقة!

-2-

خلال مسيرته، لن يبقى قميص عثمان، وحيداً (نخبويّاً)، من مقام الخلافة والعروش والرئاسات، بل سيُستنسخ ليتكيّف مع مختلف الحالات والنزاعات والصراعات. سيبدو، بهذا المعنى، لباساً موحّداً شائعاً، لمقاسات الجسد الفردي والاجتماعي، الطائفي والمذهبي والديني، الحزبي والوطني والعالمي. فلكل جسد قميصه، ولكل حالة ساريتها التي ترفعه، كلما ارتطم القوم بحبٍ عابر، وتاهوا عن (حقدهم).

في أية جماعة دينيّة أو سياسيّة يوجد (عثمان مقتول طعناً)، ولكل جماعة قميصُ دمها، وفيه تكمن عصبيتها / حقدها الذي دونه ستتهالك ضعيفة تحت نسيمات التسامح!

-3-

ثمّة قمصان دمٍ وهميّة أو مزيَّفة، يتم رفعها لنقصٍ في منسوب الحقد ولعطب أصاب حضور قميص الدم في الذاكرة الجمعية. تأتي مناسبة موت شخص ما، ليتم إغراق قميصه بالدم وإن كان لا يوجد أي أثر لمرور نصل خنجر أو لرأس رصاصة في جسده، لكن الإدمان الجمعي يصدّق أنَّ هذا الكفن الأبيض المرفوع على سارية هو أحمرٌ… أحمر برائحة دمٍ تصل حتى قميص عثمان!

-4-

كان عبد الرحمن الداخل، يخوض الفرات مع أخيه الوليد هرباً من العباسيين، الذين نادوه من الضفة ليعود مع وعده بالأمان. لم يصدّق وعدهم، فيما الوليد الفتيّ تعب من السباحة وصدّق وقفل عائداً. التفاتةً خاطفة من عبد الرحمن خلفاً كانت كافية ليرى الوليد مضرّجاً بدمائه. فكان عليه أن يأخذ معه في رحلته العجيبة إلى الأندلس، رمزياً، قميص الوليد المدمّى برماح بني العبّاس!

-5-

يُروى عن الصوفي الكبير البغدادي معروف الكرخي، أنّه وهو على فراش المرض، قيل له: أوصِ، فقال: إذا متُّ فتصدقوا بقميصي هذا، فإني أحب أن أخرج من الدنيا عرياناً كما دخلتها عرياناً. قميص الصوفي لا يُنزع ولا يُلصق حتى لو طعن لابسهُ. هو قميص من نور لا يغري مصانع الحقد.

-6-

لو يتجرأ رافعو قمصان الدم، ويتجهوا في رحلة التاريخ نحو الأسطورة السوريّة، ليفتحوا فصل أدونيس (دموزي) وعشتار، ليروا كيف يسيل دم الإله ويتفتح شقائق نحمان – القائم من الموت بالسريانية – أو (شقائق نعمان)،المعلنة عن قدوم الربيع، باب دورة الخصب المتجددة. لو يتجرأون، لربما تركوا قميص عثمان على جسده ليدفن معه!

-7-

عندما سقطت الأندلس 1492، وجد الأسبان في قرطبة ذلك القميص المدمّى الذي حفظه عبد الرحمن الداخل في ذاكرته، لم يترددوا لحظة واحدة إذ حولوه إلى ذلك الرداء الذي يستخدمه المصارع لإثارة الثور.

سنتكتشف أن الثور المهتاج يثور، لا بسبب اللون الأحمر، بل بسبب إصابته بعمى الألوان ولذلك يتمكن المصارع منه ويتلذذ بقتله وكأنه يقيم وليمة.

الجماعة التي تهتاج من قمصان الدم، شأنها كالثور الاسباني، مصابة بعمى الألوان الذي يجعلها وليمة للحقد الأسود و (المصارع) الذي يتلذذ بقتلها: رويداً… رويداً… دون توقف.

‫3 تعليقات

  1. عزيزي نزار:
    لقد وضعت سن قلمك العارف على وحش رمزي ينام ويصحو للخراب، كرة ملتهبة تدحرج الدمار من عصر لعصر، مضرمة نيرانها في البلاد والناس كأنهم حقول من القش تنتطر حريقها المسجل في اللوح المحفوظ.
    لو دفن عثمان مع قميصه، لو دفنا مع عثمان وقميصه عادة أعراس الدم الذي أغرقنا ولو رفعنا رؤوسنا خارج التوابيت والأضرحة لكان لنا كون آخر، أكثر سعادة، ربما، ولكانت قلوبنا أقل شجنا وأغنياتنا أقل حزناً ولكان حاضرنا حافلا بغير هذه الوطأة الرهيبة. لكن ألم يكن علينا أولاً أن نواري التراب هذا “الهراء العتيق الذي ما زال يعتبر حكمة كما قال نيتشه العظيم على لسان زرادشت؟ “أي إخوتي قال زرادشت: ليس إلى الخلف ينبغي على نبالتكم أن تنظر…وطن أبنائكم ينبغي أن تحبوا…عبر أبنائكم ينبغي أن تكفروا عن كونكم أبناء لآبائكم: هكذا ينبغي أن تخلصوا كل ماضٍ!”
    لكننا لم نفعل. آباؤنا لم يفعلوا. لهذا كان علينا أن نكفر عن كوننا أبناءهم عبر أبنائنا، وإلا بقي هذا “الهراء العتيق” حكمة دموية تغرقنا وتغرق أبناءنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق