المقال

منطق الصحراء

في تصحير سورية!

-1-

في منطق الصحراء، تتسارع معاني الضياع والسراب والخواء، وتتزاحم مع شبيهاتها فوق الرمال (المُجمَّرة / الرمضاء)، التي تكاد تكون (بضاعة جهنم) أو هي كذلك بالفعل. في هذا المنطق، لا يبدو وجود الواحة مع (نبعها الوحيد) واضحاً وحاضراً في مستوى درجة حضور الرمال المتماوجة والكثيفة والمترامية التي لا يتيح وجودها الطاغي المجال للتفكير بوجود تلك الواحة مع (نبعها)!

ينطوي المشهد هنا، على سرِّ منطق الصحراء وخداعه ومُكره، والذي يتكّشف عن الكيفية التي يحفظ فيها ذاته، بالإنجاز المتواصل لفعل التصحير، باعتباره الضرورة المصيرية لوجود الصحراء واستمرارها.

يرتسم منطق الصحراء، مع انكشاف سرِّه، في التساؤل التالي:

مَنْ يُنتج مَنْ، النبع وواحته أم الرمال؟

-2-

وفق منطقها، تبدو الصحراء كـ (مجموعة ممالك) محكومة بـ (ملوك – واحات)، لا تسلّم عرشها إلى أن تذبل شجرتها ويجف نبعها. وفي حين يكون التصحّر فعل الصحراء الذاتي الذي يكفل لها إنتاج نفسها دائماً، بتجاوزها لحدودها وتدمير ما هو (غيرها) – في الصحراء الطبيعية: (غيرها) هو الشجر والسهول الخصبة والعمران –

فإنَّ هذا الفعل يؤدي في النهاية إلى توسيّع الأراضي التابعة لـ (الملك – الواحة)، عبر قضائه على ما يمكن أن يهمّش وجودها. فلا أهمية لـ (نبع) هزيل أمام أنهر عظيمة دفّاقة؟

هكذا يكشف منطق الصحراء عن نفسه بوضوح تام، باعتباره تلك الحركة الدؤوبة للرمال، المسخّرة لخدمة وجود (النبع الوحيد)، والذي لا يمنح الرمال أية خدمة موازية، إلاَّ بكون وجوده يتسبب لها بمرور القوافل العابرة فوق رأسها التي تغور تحت الأقدام أو تتمكن من الهرب منها بمساعدة رياح غامضة، في بعض الأحيان تسمى: الخماسين؟

-3-

منطق الصحراء، هو نفسه ما يحاول الاطباق على سورية، عبر التاريخ وإلى الآن.

وفق الرؤية الجغرافية – الطبيعية، هاجمت الصحراء سورية من جوفها، واشتبكت في معركة وجود مع قوى الخصب على امتداد قوسٍ موازٍ لـ (هلالها)، وكان لا بدَّ لهذا القوس الذي هو ساحة المعركة، من تقديم تنازلات أمام الرمال الهائجة أحالته إلى (بادية)، ووفق التعبير الجيوسياسي، تمت تسميته بـ (سورية المجوّفة) أو (سورية الفارغة)، التي تبدأ من جنوب غرب الفرات وتصل – سياسياً – في بعض الأحيان حتى جنوب فلسطين.

على مدى التاريخ السوري، وخصوصاً مع سقوط المشروع التدمري مع نهاية القرن الثالث الميلادي، بدت السهول السورية الخصبة، وليمة مغرية أمام فعل التصحّر الذي آزرته على نحوٍ دائم تحولات الجغرافيا السياسية السورية. وعلى ذلك خضعت سورية لسلطة منطق الصحراء المحكوم بتلازم شرطَي وجود رمال وواحة مع (نبع) وحيد.

منطق الصحراء، بهذا المعنى، هو المُنتج لـ (الواحد) غير القابل للتعدد ولا حتى للتشابه، وتعبّر عنه تلك (المملكة/الدولة) الخاوية مع معاني الضياع والسراب والخداع بـ (نبعها) الوحيد والفريد!

-4-

التصحير الحديث لسورية، أنجز نفسه بعمليات متكاملة ومتوالية، بنسف التاريخ السوري، في جسده العملاق الواصل إلى ستة ألاف عام، وفرض معركة اليرموك كرحم ولادة، بحمولات دينية – ثقافية – لغوية – إتنية (وهي الحمولات التي ستشكل بنية الخطاب القومي العربي)، وتعود في أصلها إلى الصحراء العربية العجيبة!

تجتمع هذه الحمولات في سبيل تأكيد (النبع الوحيد) وتكريسه كـ (مستبد) في بنية الأنظمة السياسية، ولكنه الضروري والحتمي، غير القابل للاستبدال ولا للتعدد…! على أنَّ الرمال تتحرك، في مناسبات غير مفهومة، وعلى نحوٍ كارثي فوضوي، وتتجه بقوة إعصارٍ نحو الواحة /العرش/كرسي الحكم، بقصد الوصول إلى (النبع/الوحيد/المستبد) في محاولة لالتهامه وإنجاز الوصول إلى معناها المطلق، وكسر وجود أحد شروط منطقها، لتستولد نفسها كصحراء برمال ورمال ورمال وحسب.

سورية الآن، من البختياري شرقاً إلى المتوسط غرباً، ومن طوروس شمالاً إلى قوس الصحراء جنوباً، في مواجهة حاسمة مع منطق الصحراء، فإما تنجز حريتها من سلطته، أو تستسلم له نهائياً مع تمكّنه من إسقاط (عقلها)، فلا يُرى بعد ذلك إلاَّ تلك القوافل التي تواصل زحفها فوق الرمال الميتة وفي وسطها نبع أعزل لا يتمكن من إرواء نفسه!

-5-

هامش: هل ثمة تواطؤ ما بين منطق الصحراء والحرائق التي تلتهم جبال سورية!

تعليق واحد

  1. تناولت التصحر كظاهرة سياسية. لم تر التصحير فقط في لحظته الراهنة، بل تقصيتها حتى مملكة تدمر وماقبلها. لذلك يبدو لي أن الدفاع عن شجر الزيتون، وعن الغابات السورية، مسألة حضارية وسياسية. في السياق الهمجي العقاري فقدت دمشق غوطتها التاريخية الممتدة، ولامست البادية. لذلك يبدو لي أن الأحزاب السياسية يجب أن تثبت بين مبادئها ضرورة إعادة النظر في التاريخ الذي يدرس في مدارسنا، والدفاع عن الهوية المعمارية، والثقافة البيئية؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق