جماليات

أمسيات الزويتينة

غوغول.. ونار الحطب.. وحساء أمي

  الدنيا بدايات ربيع 1986، في الزويتينة، هذا المساء كان علينا أن ننتظر عودة أخي نزار من سفره. كنت قد انتهيت للتو من إنهاء واجباتي المدرسية. في الأفق البعيد بدت الشمس كسولة نوعاً ما في ذهابها لحضن البحر، ها أنا أستعجلها، نزار سيصل بداية المساء، هكذا أعلن لنا أبي، ها هو يزرع دارنا بخطواته المتوترة منذ بداية الظهيرة، فيما لا تنفكّ أمي عن تأنيبه، وإفهامه أن لا فائدة من هذا المشي المتواتر الذي يفقدنا أعصابنا وينذر بالشؤم…! يجب أن أعترف لكم هنا أنَّ أبي لم يتوقف يوماً عن قلقه هذا، وأنَّ أمي لم تتوقف هي أيضاً عن زجره لهذا القلق غير المبرر حينما يتعلق الأمر بسفر أحد أبنائهما…

أخيراً… وصل نزار، عندما عانقته لمحت بطرف عيني رزمة من صناديق ينزلها من سيارته، أعرف الآن أنها مجموعة كتب سيضيفها إلى مجموعته التي لن تنتهي، رغم إلحاح أمي وانتقادها الدائم إلى يومنا هذا أنه بدد ثروته في شراء كتب لاتسمن عن جوع!!

في غرفتي الصغيرة المطلّة على فناء الغابة الخضراء، ها أنفرد وحيداً إلّا من وحدتي، وهذا الكتاب الجميل الذي أحضره أخي فيما أحضر، اليوم أتعّرّف إذاً على صديقنا نيكولاي غوغول،  يأخذني بعيداً إلى ريفه الأوكراني البارد، ها هو يسحرني في أجواء قصصه ” أمسيات قرب قرية ديكانكا ” ، تأسرني فجأة تلك الأمسيات وأجواء الخرافات و الأساطير في تلك الأرياف، في منتصف ليلتي فيما أعتقد أنَّ الجميع قد استسلم للنوم في بيتنا، كنت قد بدأت حواري مع هذا العجوز الذي ولد أوكرانيّاً ومات روسيّاً، لأسأله كيف يسمح أن يسرق الشيطان القمر ليمنع زواج الحدّاد من حبيبته؟ كيف أحدثت السترة الحمراء ذاك الهرج والمرج في سوق القرية؟ كيف اختبأ أعيانها في أكياس الفحم؟

كنت محاوره الوحيد تلك الليلة، اصطحبني في أجواء الكوميديا السوداء إلى قريته في ريفه البعيد أحاور قروييه البسطاء وأتلمس سحر الإنسان رغم حاجز اللغة والجغرافيا…

منتصف الليل في الزويتينة، أشعر ببرد الربيع الآن، لعل ذاك السكون وتلك البرودة الساحرة ما جذب صديقي غوغول ليأتي ضيفاً عندي، بملامحه الجّادة ومعطفه الشتوي. يخرج من جلدة الكتاب، خجولاً ومرتبكاً أعرض عليه أن نتناول عشاءنا سوياً، سنعبر صحن دارنا خلسة و سندخل إلى المطبخ لنتناول بعضاً من حساء العدس الساخن كانت أمي قد أعدته عند الظهيرة، سنخرج رغم تعبه، لأصطحبه في نزهة طويلة في شوارع و أزقة “الزويتينة “، كان الظلام يلف المكان، هادئاً ساكناً إلّا من صدى حواراتنا و ضحكنا البهيج، فيما يُصرُّ أبناء آوى على خرق عزلتنا بعواء يعلن حياة ما في تلك الغابة النائمة على أكتاف القرية…

 عند عودتنا لدارنا البارد، اقترحت على ضيفي العجوز أن نشعل نار الحطب ونتدفأ بوهجها، كنا نشرب الشاي الساخن ولم يسأم أسئلتي الكثيرة، آخر ما رأيت تلك الليلة يدي عجوز اقتربتا من النار تلتمسان دفئا ساحراً..

في الصباح التالي، عندما أيقظتني أمي باكراً للذهاب للمدرسة، كان أول ما فعلت أن شممت أطراف يدي وجسمي، خفت أن تشي رائحة الحطب بأمسيتي الهاربة من عقال الزمان، ألقيت نظرة خاطفة على بطلي شامخاً بين دفتي كتابه.

تكررت أمسياتي معه، كل يوم، ” أمسيات الزويتينة” حتى حلول الصيف، عندما اختفى فجأة بطلي العجوز مع صخب نهارات الصيف الطويلة الحارة……..

صيف 2023، عندما أراد لي القدر أن أعود في زيارة لمربى طفولتي، خطر لي جدا أن أوقظ صديقي من سباته الطويل. في نهار شديد الحرارة من آب تسللت سراً حيث تنام آلاف الكتب الحيّة والمنسية. كنت قد أعددت خطة لاستضافته وحيداً دون تكلّف، وهممت برفقته مجدداً في أزقّة القرية، الآن تبدأ رحلة بحثي عن كتابي الصغير، عن بطلي الكبير، ساعات طويلة ستمضي وأنا ألهث بين رفوف الكتب لتصفعني بعدها خيبة أمل شديدة عندما لم أجد أثراً لكتاب طفولتي العزيز، الضائع!!

 بعد غيبة سنين…هذا المساء إذا من مساءات الزويتينة، أقسمت لصديقي دائما أنَّ الجو حار لا يناسبه، أنْ لا سهرة نار ممكنة، أنَّ أمي أضحت مُسنّة لم تطأ مطبخ بيتنا منذ سنين، أنْ لا حساء ساخناً ينتظرنا، أنَّ طرقات قريتي أصبحت خاوية حزينة، أنَّ أبناء آوى هجروا غابتنا الصامدة رغم الجفاف..

 الآن، في سريري، رغم غياب الكتاب، أغمض عيني على صفحاته، أتخيلها، أتلمسها، أشمها، أضمها، آخر ما أحسست به ذاك الفجر قطرات من دمع ساخن اخترقت وجهي نزولاً هناك نحو القلب الذي ينام على صورة شيخ عبقري أبهجني طويلاً حتى آخر زفرة حب…

 اليوم، في منفاي الباريسي البعيد، كلما جاء الشتاء ونامت لياليه الباردة الماطرة على مدينتي، وعلا دخان مدافئ الحطب، وشممت تلك الرائحة الجذابة، أسرق من الزمان لحظات لأنادي صديقي العجوز، وابتسامة تعلو وجهي الذي ينظر إلى السماء..

  لا أحد يدرك سر تلك الابتسامة سوى ذلك العجوز الراقد في مكان ما في هذا الكون؟

نيكولاي غوغول (1809 – 1852)

د.حاتم سلّوم

طبيب وأديب سوري مقيم في باريس

‫3 تعليقات

  1. أسلوب شيق و تعبير سلس يبرز معاني و احاسيس دافئة و جميله .ممتعه قراءة نص يشعرك بالانتماء اليه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق