جماليات

المسرح حياة تستبق الحياة

رسالة اليوم العربي للمسرح

( اختارت الهيئة العربيّة للمسرح السّيدة نضال الأشقر لقراءة “رسالة اليوم العربي للمسرح” هذا العام. وهذا نصّ الرسالة الذي وضعته السيّدة نضال وألقته في بغداد يوم العاشر من كانون ثاني 2024.)

رسالة اليوم العربي للمسرح

 إنه زمنُ التحولاتِ والحصاراتِ وحروبِ التصفيةِ والإلغاءِ والصعاب، وكياناتُنا مشلَّعةٌ مخلّعةٌ مترنّحة.

وسطَ هذا كلِه، وسطَ هذه الفوضى العارمة، وسطَ كلِ هذا الدمار، وسطَ هذا القتلِ والفساد، ومعَ كلِ ما يجري من حولِنا من تدميرٍ متعمَّدٍ لمدنِنا التاريخيةِ الرائعة، ولإنساننا وتدميرِ أرضِنا وبحرِنا وساحلِنا ومدارسِنا وتاريخِنا وثقافتِنا وذاكرتِنا، وسطَ هذا كلِه نقاومُ ونستمر.

قبل الحربِ الأهليةِ في لبنان، كانت بيروتُ مسرحاً كبيراً لأحلامِ النُخبةِ منَ اللبنانيينَ والعرب، وكانت عاصمةَ الخيالِ والمغامرةِ والحرية، وفي تلكَ الأجواءِ الرائعةِ خُضنا تجربةَ محترَفِ بيروتَ للمسرح، التي كانت نواةً ثقافيةً وفنيةً دينامية، رُحنا من خلالِها نبحثُ بحثاً نابضاً بالحياة، عن شكلٍ جديدٍ ومضمونٍ جديدٍ للمسرح، عن مسرحٍ حديثٍ يُشبِهُنا، يحملُ هواجسَنا وأمنياتِنا، وحوْلَنا تجّمعَ فنانونَ  ورسامون،  شعراءُ وكتّابٌ وصِحافيون، رأَوا في تجربتِنا محاولةً لا للتفتيشِ عن ذاتٍ مسرحيةٍ أصيلةٍ فحسب، بل عن ذاتٍ إنسانيةٍ تريد أن تُولَد، ساهمنا مع زملائِنا الآخرين في المسرحِ اللبنانيِ وفي الحياةِ الأدبيةِ والثقافيةِ اللبنانية، في خلقِ تلكَ الرعشةِ الجميلة، التي جعلت بيروتَ الستينيّاتِ والسبعينيّاتِ صفحةً ذهبيةً فريدةً وخالدة، في كتابِ تاريخِ المنطقة.

ولا مرةً قبلَ ذلك وخلالَه واليومَ فهمتُ المسرحَ إلا حياةً تستبقُ الحياة.

إن اﻹبداعَ وفرحَ اﻹبداعِ ونظرةَ اﻹبداعِ الى الحياةِ والفنِ والكون، وانطلاقةَ اﻹبداعِ منَ الفكرِ النّيرِ المنفتحِ الحّر، هو الحدثُ الأهمُّ الذي غيّرَ مجرى حياتي نحوَ حياةٍ أفضلَ ونحوَ حريةٍ واعية.

واﻹبداعُ لا ينطبقُ فقط على الفنون، بل أيضاً على السياسةِ وتحريرِ السياسةِ من العاديِّ ومنَ المسلَّماتِ والتقاليدِ العفنة.

والمبدعُ هو المحّرضُ ألرؤيويُ الذي يحركُ المستنقعات، ويحّركُ المسلَّماتِ القائمةَ ويخربطُ السكون. وهو الذي يَخرج من الثابتِ الى الأفقِ الوسيعِ البناء.

هذه الوثبةُ هي التي تُخرِجُنا من العاديِّ إلى عالَمِ الحلُمِ المجّنح، وإلى استمراريةِ الحياةِ المنتجةِ المغامرة.

كيف لنا نحن المبدعونَ أن نشاهدَ المجازرَ والأطفالَ والقتلى، والعائلاتِ المدمَّرةَ والبيوتَ التي سُطِّحَت على الأرضِ في فِلَسطينَ والعراقَ ولبنانَ وسوريا وليبيا والسودان، وأَلّا نعّبرَ بأعمالٍ مسرحية، وعلى مدى قرنٍ كامل، عمّا كنا شهوداً عليه.

ألسنا نحنُ مؤرخين من نوعٍ آخر؟

السنا نحن مشاهدين ومسجِّلين للحاضر؟

السنا نحن ناقلي التراجيديا الإنسانيةَ على المسرح، كي تصلَ الى قلوبِ الناسِ وعقولِهم؟

ألسنا نحن مَن ينتزعُ الأقنعةَ عن كلِّ وجهٍ مزيف، وعن كلِّ قضيةٍ فاسدة؟

اليوم نحنُ في العراق، في بلادِ ما بينَ النهرين، حيث كانت بابلُ وسومرُ وأكاد، وكانت نصوصُ الاحتفالاتِ والصلواتِ والأعياد، وكأنها مسرحٌ كبير. وكان جلقامش وإنكيدو، وكان ايضاً النصُّ الحواريُّ الأولُ الذي وصلنا، وهو النصُّ البابلي: “السيدُ والعبد”.

 ثم كان الإغريق حيث انطلقَ المسرحُ وانطلقت معهُ الديمقراطية، أو حيثُ كانتِ الديمقراطيةُ وانطلقَ منها المسرح.

ولم يتوقف هذا الفنُّ الجماعيُّ الإنسانيُّ إلى يومِنا هذا، بكل حللهِ التي تتماشى مع مختلفِ بلدانِ العالم.

وكان الإغريق وكان المسرحُ بين أثينا وسبارتا، حيثُ انتعشَ المسرحُ الإغريقيُ في أثينا الديمقراطية، وحيثُ ماتَ في سبارتا الأوتوقراطيةِ العسكرية.

ولا عجبَ أن يكونَ المسرحيُّ الكبيرُ برتولد بريشت قد اضطُرَّ الى الهجرةِ من المانيا النازية السبارتية، أما فاتسلاف هافل، الشاعرُ الكاتبُ المسرحيُّ الكبير، فلقد كان في السجنِ عندما كانت تشكوسلوفاكيا، أي سبارتا، تحتَ النفوذِ العسكري، فأصبحَ بعدما تحررت بلادُهُ رئيسَ جمهوريةِ تشكوسلوفاكيا / أثينا، وهكذا، عبرَ العصور، يزدهرُ المسرحُ في المجتمعاتِ المنفتحة، وينحسرُ في المجتمعاتِ المنغلقة.

لقد كانت وظيفةُ المسرحِ أيامَ الإغريقِ تحريضيةً سياسيةً بامتياز، حيثُ تتمظهرُ فيها الديمقراطية، وحيثُ يُسمَعُ الرأيُ الحرّ، وحيث تَجلّى الحوارُ أفقياً، لمخاطبةِ الآخرَ والمجتمعَ ككل، وعَمودياً لمخاطبةِ الآلهةِ والمصير. وتلك الفترةُ قد تكونُ الوحيدةَ التي كان فيها المسرحُ من صميمِ النظامِ سياسياً ووجوديا. وبقيتْ أثينا، المتعددةُ المدارسِ الفكرية، عصيةً على الرأيِ الواحدِ الأوحد، حتى في أولِ أيامِ المسيحية، حينَ استمعَ الناسُ الى تبشيرِ مار بولسَ الرسولِ طويلاً، وناقشوه مطولاً؛ حتى أن بولسَ الرسول، قال في إحدى رسائلِه: “إنهم أنهكوني فتركتُ المدينة”.

الرائعُ في المسرحِ الإغريقي، مسرحِ أسخيليوس ويوريبيديس وأريستوفان وسوفوكليس، أنَّ المسرحَ كانَ تحريضيّاً وسياسيّاً بامتياز، حيثُ تبارى كبارُ الأدمغةِ الأكاديميةِ والسياسية، أمام جمهورٍ غفير. فمن هذا اﻹطارِ كانتِ الساحةُ الأساس، منصةً سياسيةً ووجوديةً في آن. ثم جاء أرستوفان ولم يترددْ بإدخالِ الهزليةِ الى مقاربتِهِ النقديةِ اللاذعة.

هل من الممكنِ في مجتمعاتِنا اليوم، أن ينموَ الفنُّ المسرحيّ، وأن يُعمَّم في متحداتِنا التي لا تتحملُ في أكثر الأحيانِ تعبيراً حراً تغيرياً كالمسرح؟ هل يمكنُ مثلاً في مجتمعِنا أن تكونَ هناكَ شخصيةٌ كسوفوكلس: شاعرٌ وحكواتي، مفكرٌ ومسؤولٌ سياسيّ، وهو كان منخرطاً أيضاً في الحياةِ العامةِ كوزيرٍ خبيرٍ استراتيجي، وفي نفسِ الوقت كان قد كتبَ مئةً وثلاثاً وعشرينَ مسرحية، وكان يصبو الى التغييرِ من خلالها؟

لكي يلعبَ المسرحُ دوراً ديمقراطياً فعالاً، يجب أن تكونَ هناك ورشةُ عملٍ كبيرةٌ وخطةٌ تنهض بالبلاد، وتُحولُها الى خليةِ نحل، حيث يعملُ فيها المثقفون والفنانون والطلابُ والأساتذة، يداً بيدٍ للنهوضِ بمجتمعاتِهم وبيئتِهم، الى عالمٍ منَ البحثِ والدرسِ والتمحيصِ والتعبيرِ الحرّ، وصولاً إلى المسرح. لذلك يجبُ أن تكونَ هناك العشراتُ منَ المراكزِ الثقافيةِ والمسارحِ والمكتباتِ العامة، كي يُصبحَ المسرحُ أداةً فعليةً وفاعلةً في مجتمعاتِنا.

أما اليوم، فإن مدينةَ بيروتَ مثلاً تشهدُ إقفالَ مسارحِها واحداً تلوَ الآخر، وتُشيحُ الحكومةُ الطرفَ ولا تساعدُها، لأنها لا تعتبرُ أهميتَها في بناءِ المجتمعِ والشبابِ خاصة، وهذا يدُلُّ على جهلٍ وتراجعٍ أكبرَ لدى الدولةِ والمسؤولينَ في فهمِ هذا الفن.

 أما أنا، فما الذي شدّني الى ذلكَ الضوء؟ الى تلكَ البقعةِ الصغيرةِ الساحرة، التي تُجسِّدُ ما نُريد، وما نريدُ أن نقول، وما نودُ أن نُوصلَهُ الى الآخر أبعد وأبعد، أكثر وأكثر؟!

 لعّل ما شدني هو بالذاتِ تقهقرُ الديمقراطيةِ في عالمِنا، والبحثُ عن أداةٍ للتحريضِ الى الحوار، وعن واحةٍ للتفاعلِ مع الآخر، إذ رغمَ القمعِ الصريحِ أو الخبيثِ في مجتمعاتِنا، فقد وجد المسرحُ اللبنانيُ دائماً طرقاً ومحاولاتٍ جديةً لإيجادِ لغةٍ مسرحيةٍ فعالة، والولوجِ بتجربتِه الى العالَمِ الفسيح. ولكنه لم يستطعْ أن يُصبحَ جزءاً فعالاً من التغيير، لعلةٍ في نظامِه السياسيِ وتكوينه. أما بالنسبةِ إلى العالمِ العربيِ عامة، فقد عرَفَ أيضاً ومضاتٍ مهمةً في هذا الفن، حيث كان للمسرحيينَ عامةً ما يكفي من الحنكة، كي يلتفوا على الممنوعاتِ والرقابة، وإن هذا لا يكفي لتعزيزِ دورِ المسرحِ كأداةٍ للتعبيرِ الحّرِ والديمقراطية.

إذ انَّ المسرحَ هو مَن يُعيد الإنسانَ الى روحه وجذورِه ووجدانِه، ويربِطُهُ ربطاً سحرياً بأرضِهِ ولغتِهِ وتاريخِهِ ومستقبلِه، وهو في تكوينهِ يرفضُ كلَّ ما يفرّق، ويجمعُ تحت سقفٍ واحدٍ، جمهوراً متعددَ الانتماءات، ويحرّضُ على الحوارِ المثمرِ وعلى الفعلِ والتفاعل.

“لكنَّ الحوارَ كما نريدهُ ونبتغيهِ لا يستقيمُ فعلياً بدونِ تعميمِ الديمقراطية، واحترامِ التعددية، وكبحِ النوازعِ العدوانيةِ عندَ الأفرادِ والأممِ على السواء” كما قال سعد الله ونوس؛ وتحريرِ الرجلِ والمرأةِ من كلِّ الموروثاتِ وكلِّ العاداتِ الآسنة، التي نجرُّها عبرَ السنين.

 وهو فضاءٌ للمقاومةِ الثقافية، وللبقاءِ منصةً إبداعيةً فكريةً وفلسفيةً وفنية.

نحن بحاجةٍ الى هذه المساحةِ اﻹبداعيةِ الحرّة، والانفتاحِ على الآخر، والتواصلِ فيما بيننا، وقبولِ الآخرَ واحترامِ الاختلاف، فما هي الديمقراطيةُ إن لم تكن كلَّ ذلك؟

ضمن هذه الرؤيةِ يسكنُ هوسُ المبدعينَ الخلاقينَ وتوقُهُم الى المعرفة، وهنا تكمنُ قوتُهم في الانتقالِ بخفةٍ بين الزوايا المضيئةِ والزوايا المعتمة، وفي نقضِ الثابتِ والهامد، وفي الهدمِ المخلّص، ﻓﺈذا تخلّى المبدعونَ عن كلِّ ما يَدينُ ويكشفُ ويصدمُ ويفضحُ ويثير، إذا تخلَّوْا عن إدانةِ الظلمِ وتعريةِ القهرِ ودعمِ العدالة، فإنهم يتخلَّوْن عن سلاحِهِمِ الأمضى، وهو اللَّعِبُ بالنار.

انطلاقاً من هذه المسؤولية، وانطلاقاً من ذلك المسرحِ الفريدِ الذي نتوقُ اليه: عالَم ليس فيه حروبٌ حقيقية، ولا يُراقُ دمٌ حقيقي، ولا سيوفَ ولا رماحَ إلا من خشب، ولا قنابلَ إلا من دخانٍ لكنها تفعلُ في النفوس والخيال، وهي أمضَى منَ السيفِ القاطع، وأعمقُ من الجرحِ وأبعدُ من الواقع، عالَمٍ يعتلي فيه الفقيرُ العرشَ فيصبحُ حاكماً في ثانيةٍ واحدة، ويسقطُ الطاغيةُ في ثانيةٍ أيضاً، ويقومُ الشعبُ بثورة، ويصلُ الى مبتغاهُ بلحظةِ تجلٍ مسرحي.

هذا الأبداعُ وهذه الحريةُ هي الخطيرةُ والجميلةُ في عالمِنا المسرحي.

فما هي الديمقراطيةُ إن لم تكنْ كلَّ ذلك، وما هي حقوقُ الإنسانِ التي نمارسُها في المسرح؟ حريةُ التعبير، حريةُ المعتقد، حريةُ الحركةِ والخيالِ والكلمة، حريةُ الاجتماعِ والمجاهرة، كلُّ ذلكَ يُطَّبقُ في المسرح.

أما خارجَ المسرح، فهناكَ أنظمةٌ متهاويةٌ كاذبةٌ بائسة، تلوي معَ أيةِ ريح، وليست لها قواعدُ ولا جسورٌ ولا بناءٌ صلبٌ ولا مستقبلٌ أكيد.

وفي الخارجِ أيضاً ديمقراطيةٌ تتجزأ، وتتقسَّمُ الى قياسات، وكلُّ قياسٍ ينقسمُ إلى أجزاء. أما في الداخل، فعالمٌ من الإبداعِ والتناسقِ، كلٌ يقومُ بعملِهِ واختصاصِه، حريةٌ تامةٌ في التعبيرِ والتطبيق، الفنانُ الصحيحُ في المكانِ الصحيح. عالمٌ منظَّمٌ، مفتوحٌ، إنسانيٌ بجسدِه وعقلِه وخيالِه.

أعتقدُ أنَّ الفنَّ الجماعيَّ الذي يربِطُ قضايا الناس، ينعشُ الديمقراطيةَ ويذكرُنا بحقوقِنا.

هذه المزايا تربِطُنا بعضَنا ببعض، وتُخففُ من آلامِنا وشعورِنا بالوَحدةِ والانعزال، وتُشعِرُنا أننا نتشاركُ في بناءِ المجتمعِ ككل.

هكذا فهمتُ المسرحَ منذ بدأتُ العمل، وهكذا أُواصلُهُ في مسرحِ المدينة، الذي أسعى بالتعاونِ معَ جميعِ الخيّرينَ والخلاّقين، أن يكونَ نواةً جديدةً لأحلامٍ ومحاولاتٍ جديدة، نسعى في إطارِها إلى إيجادِ لغةٍ تطلقُنا الى عالمٍ أردنا أن نغيّرَهُ فلم ننجح، ولكننا سنظلُّ نحاولُ تغييرَه. ولن ندعَهُم يقضونَ على أحلامِنا، وسنقاومُ الجهلَ والرقابةَ والتسلط، سعياً إلى العدلِ بينَ الناس، والحياةِ المدنيةِ الكريمة.

تلك البقعةُ من الضوء، التي يدخلُ اليها الناس، ليفتحوا حلمَهُم وخيالَهُم ورؤاهُم، ذلك الوطنُ ضمنَ كلِّ وطن، تلك الحريةُ فوقَ جميعِ القيود، ذلك الجمالُ رغمَ كلِّ بشاعة، هكذا نريدُ مسرحَنا أن يكون.

وإذا قيل: لا شيءَ في المسرحِ حقيقيٌ ما دامَ هو هذا الحلم، نُجيب، لذلك هو الحقيقة! ولعلَّها الحقيقةُ الوحيدة.

نضال الأشقر

بغداد 2024

نضال الأشقر

مؤسسة ومديرة مسرح بيروت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق