جماليات

هوى الصحراء

كتب باحث سوفييتي: “ليس البدوي ابن الصحراء، بل أبوها”. وعرض أطياف الخضرة التي كانت تلوّن الصحاري. ألا تشهد المدن المكتشفة تحت الرمال على صدق بحثه؟ لم تبدأ الحضارة هنا بجمع الثمار، بل بالزراعة. تؤكد ذلك الجرار، ومعاصر الزيت، والرقُم التي ذكرت أنواع المآكل التي عرفها السوريون القدماء.

من حظنا أننا ولدنا في لحظة كان الناس فيها يقدسون الماء، ويعاقبون على رمي الوسخ في الأنهار، ويعزّلونها في مواسم، ويختارون لنزهتهم البساتين. ذقنا الفرح بالسيران في الغوطة. وتأملنا بافتتان سواقي الماء، ثم عرفنا أنها كالشرايين الصغيرة، من نظام يوزع الماء. فرأينا البستاني في الغوطة “يحوّل” الساقية إلى أرضه في وقتٍ عيّن له، ولمسنا “العدّان”. وأفرحتنا شجرة المسك التي زرعها الجد قرب الباب، وشجرة الكينا التي عششت فيها العصافير. عرفنا عذوبة صوت الماء في نافورة أرض الدار. وتعلمنا في المدرسة أن هارون الرشيد كان يعبر الطريق بين بغداد والرقة في الظلال، فاحترمنا الأشجار.

كيفما تلفتنا في ذكرياتنا نجد أشجاراً وعرائش، ومياهاً. لذلك نتساءل متى بدأ التصحر، وساد هوى رجل الصحراء الذي يريد أن يرى المدى مكشوفاً ليستعد لمواجهة الغزاة؟ لعل ذلك بدأ بمخطط شرير، لكن لا قيمة للمخططات إذا لم تحملها رؤية عامة. ألم تصبح سايكس – بيكو ثقافة؟ مَن غَير السوريين لا يزال يؤمن بوحدة بلاد الشام؟

إذن، كانت نقطة البداية “النظرية” رؤية تريد أن تصبح دمشق مدينة دون بساتين، دون سواقٍ وأنهار. لأننا لسنا أصحاب تخطيط المدن، بل المستعمر الغربي! لذلك يجب أن نلغي مدينتنا وننفذ فوقها المخطط الشطرنجي والشوارع العريضة. ولابد أن ذلك تضمّن أيضاً رغبة خفية بأن تصبح مدينة الشرق العريقة دون ذاكرتها، مثل أية مستوطنة صهيونية جديدة.

هكذا لم يعد محمد الماغوط يملأ “كاسكيته” بثمار الجوز التي يجمعها من الأرض في طريقه إلى مقهى أبي شفيق في الربوة. واختفت من تلك المنطقة الكثيفة الخضرة في مدخل دمشق، بساتين النيربين المشهورة، وبساتين المالكي، والحواكير، وتصحر ما كان مرجة الحشيش ومعرض دمشق الدولي ذي النوافير. وغاب تداخل البساتين في المدينة، فطارت بساتين كفر سوسة وبساتين المزة وبساتين الصالحية الممتدة حتى قاسيون.

غيّر ذلك المخطط الشرير المناخ، وأباح هذه الموجة القاسية من الحرارة، ونحن دون دثار البساتين ورحمة الحارات ورطوبة الأنهار وخيمة العرائش، مكشوفين للشمس. نتنافس على ظل شجرة في الشارع، ولا يخطر لنا كأجدادنا أن نزرع شجرة. ويلهو تلاميذنا في الطريق إلى المدرسة بقصف الغرسات.

مع ذلك، لا نشعر بالخطر. ويبدو هوى الصحراء أخلاقاً عامة.

أسوق تجربتي التي تشبه تجارب كثيرة أخرى. يوم اشترى جاري بيته كان عمر شجرات الصنوبر التي زرعتها في حديقتي عقوداً. مع ذلك، ألحّ: يجب قطعها لأن إبر الصنوبر توسخ حديقته! وقطع في السر شجرة منها. لم يبال بالظل وجمال مظلة من الخضرة، بل بإبر الصنوبر!

بعد زمن نصب جار جديد سياجاً معدنياً ارتفاعه مترين فوق الحائط بيني وبينه. فغطيته بالمتسلقات. أصبح أخضر يتزيّن في الربيع بأزهاره الصفراء. كبرت ابنتاي مع الأشجار وأصبحت حديقتي حديقتنا. أضافت إليها إحداهما نبتة زهرة القدر التي أصبحت عملاقة، ونصبت فوقها خيمة لتحميها. وأنقذت بمظلة من الدالية شجيرة الغاردينيا. وابتكرت عريشة من زهر المجنونة الملون. لكن ها أنا أمام النغمة نفسها: يجب أن أقلع تلك المتسلقات “القبيحة” لأن ورقها اليابس وسخ!

لا يعرف أصحاب الهوى الصحراوي أن الطبيعة تؤدّب من لا يحترم ميزانها. وما أقل ما تطلبه! مقابل ما تهبه من خضرة، وأوكسجين، يجب أن نتحمل أوراقها الجافة. أليست الشجرة اليوم كالمظلة الحنون تحمينا من سطوة الشمس؟ أليست العرائش التي كانت تدثر سطوح البيوت العربية بديل الخيمة؟ لا تزال الخميسة في الحارات تشهد على حكمة من يشعر بأنها كالمظلات الملونة.

ذات يوم كانت حديقتي صحراء. زرعتها كمن يردّ على تجريد دمشق من بساتينها وأشجارها. واكتشفت خلال ذلك، ما يمكن أن يعيش من الأشجار، وما أصبح يعاني من قسوة المناخ. مع ذلك، كأني الآن يجب أن أودعها!

أمس تأملت المتسلقات التي غطت بالخضرة سياجاً يرتفع أكثر من ثلاثة أمتار، وشكرتها! تأملت المتسلقات التي غطت جدار البناء الأجرد بخيوط من الخضرة، وشكرتها! شكرت الياسمينة التي تعطر الليل، وشجيرات البرتقال، والنارنج، والكباد! وشعرت ببهجة من جرى خارج السياق، وبأسى من لا يستطيع أن يورث حب ما زرعه. ولا أن يدفع الكارثة القادمة: سنعاني من جهنم في حياتنا.

——————————————-

تنويه: ننشر هذا المقال باتفاق خاص مع السيدة المؤلفة، وهو منشور على صفحتها الخاصة.

د. ناديا خوست

أديبة وروائيّة سوريّة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق