جماليات

وحدة…!

كانت وحدتنا قبل الحرب حريّة

من سمات زمننا عزلة الإنسان. قد نشعر بالوحدة ولو كنا بين الأهل والأصحاب. ألأنهم لا يشاركوننا الأفكار؟ ألأنهم لا يرون المحجوب الذي نتوهّم أننا نراه؟ تهَب قرابة الدم الدفء، لكنها لا تروي الوجدان الظامئ دائماً إلى من يؤكد: نفهمك! ويتمنون، هم أيضاً، ما نتمناه!

هل بدأت وحدة الإنسان يوم خرجنا من الأسرة الكبيرة لنشيّد أسرنا الصغيرة؟ يوم خرجنا من الحيّ القديم الذي تلمس فيه جدران الحارة أكتافنا، وتتابع العيون فيه من وراء أخصاص النوافذ خطواتنا؟ كانت الحرية فاتنة بعيداً عن الأسرة القديمة والحيّ القديم! طرنا في فضائها الساحر! وربما كانت الدنيا أقل قسوة، ووجدنا دائماً ذراعاً تحيطنا بحنان.

أمس، قبل الحرب، كنا نتجول في سورية، من مدنها إلى جبالها. وفي بلدة كسب، أو على طريق مصياف، نتناول من الفرن فطيرة ساخنة مغموسة بالحنان. كان النسيم يسعدنا، ولا نخشى الغابة إذا فاجأنا فيها المساء. كنا نستلقي على رمل الشاطئ، وتغمرنا السماء بنجوم لا تحصى، ونظن أن مجرّات الكون كلها تحنو علينا.

كانت وحدتنا قبل الحرب حرية. كانت الاجتماعات بالأصدقاء تلفحنا بدفئها. ونجد في السهرات من يفهمنا، من يحبنا، من لا يتركنا، من لا يهجرنا. لماذا إذن تغيّر كل شيء، مع أن هذه الشوارع سالمة، والقاعات قائمة، وهناك بقية من أصدقاء؟ فقدنا كثيراً ممن ظنّنا أنهم أقرب إلينا من الأهل. رحلوا إلى الضفة الأخرى، أو هاجروا. انهارت العلاقات التي كنا نظنها خالدة. وخسرنا من نفهمهم ويفهموننا.

ها نحن نلملم من بقي، ونحتفي بما بقي! لكننا ندرك موجوعين أن أرواحنا مجروحة. وأن الأفراح التي جمعتنا، والظروف الليّنة، أحرقتها الحرب. أننا كمن يقف على أطلال زمن، حولنا مجروحون فقدوا عزيزاً، أو صديقاً، أو بيتاً، أو حلماً. فنكاد نصرخ: لا شيء لم تلمسه الحرب!

مع ذلك، لم نشعر بالعزلة عندما ضمتنا السنوات الخطرة. تماسكنا كمجموعة واحدة أمام الخطر. كانت عيوننا على جبهات النار، وفيها مصائرنا. مصائرنا فقط؟ بل علّقت شعوب أخرى علينا، نصرها وهزيمتها! كنا نستشف في آخر قارات الأرض من ينظر إلينا، فلم نشعر بالوحدة في الليالي المظلمة. سترنا دموعنا ورفعنا رؤوسنا، لأجل أنفسنا ولأجل الآخرين، أيضاً. وانتصرنا في تلك المساحة الصعبة.

فهل كنا بحاجة إلى قراراتٍ حكومية تصدّع تجمّعنا بعد سنوات قاسية؟ هل كان يلزم لكسرنا حصار آخر لا يطلق النار على الجيش مباشرة، بل على الخبز والسمن والحليب وكل ما يغذي هؤلاء الذين عاشوا اثنتي عشرة سنة من حربٍ لا مثيل لها؟ صارت قاعة المحاضرات التي تجمعنا بعيدة، لا مواصلات إليها! صار الصديق الذي نتوهم أن وجداننا يستقي من اللقاء به، بعيداً. تغيّرت علاقتنا بالمسافات الحقيقية والوجدانية. لم نعد قادرين على اجتيازها، أم صار محرماً علينا اجتيازها؟ قصّت الأجنحة التي نطير بها، وزاد ذلك من وحدتنا. فلجأنا إلى ذكرياتنا. صرنا نستلّها من غمدها، نلتمس منها الدفء، ونتجول فيها بدلاً من الجولات المأمولة في الحقيقة، تحت الشمس التي ترمي على الدنيا ضوأها. استعدنا بخيالنا الليل الساحر الذي كنا ننساب فيه في شوارع مضاءة، تحت نسيم المساء أو تحت المطر. في الواقع، يجب أن نقيس قربنا وبعدنا بأجر الطريق، بما ننفقه من البنزين، لا بالعواطف والأشواق. تغيّرت المقاييس التي تَحكم القرب والبعد، وعلاقة الناس بالناس، فالزيارة يقررها تقنين الكهرباء، وتأمين الدفء، وطبق الطعام.

ألذلك انتقلنا إلى الفضاء المفتوح، نلتقي فيه بأصدقائنا القدماء دون عبور الطرقات المعتمة، نتذكر الودّ القديم، وننفّذ زياراتنا الخيالية؟ نتوهم أيضاً، أننا وجدنا أصدقاء جدداً بدلاً من الأصدقاء المجسّدين بوجوه وقامات. نحن لهم صور واحتمالات، كما هم لنا صور واحتمالات. نلتمس التفاهم في عالم صاخب يشتعل فيه الاختلاف حتى بين الآباء والأبناء. ونتبيّن أن قرابة الفكر تكسر وحدة الإنسان. نبحث في الثنايا عن التفاهم، نخيب أحياناً وننجح أحياناً. وهكذا يمر الوقت، والوقت يعني العمر الذي يسرح في الهواء والشمس بين أحياء، على شواطئ، في حارات وغابات.

فرض علينا الزمن وعياً قاسياً. بدلاً من التفكير في اللوحات الفنية، والروايات الكبيرة انصرفنا إلى فهم أن الحرب علينا تقصد تدمير روح الإنسان. كسرَ صداقاتنا، شعورنا الرخيّ بالأمان، مساراتنا الحرّة في الطرقات بين السهول والجبال. كشف جان زيغلر* الحرب بالجوع، والتدمير الشامل بالحصار الاقتصادي؟ تلك جوانب فقط، جمعتها الحرب على الإنسان، على الوجدان. منذ رسم دالاس في القرن العشرين الحرب بالفن والجنس لتغيير عقل الإنسان، حدّد أننا الأهداف.

ماذا بقي؟ ما أكثر ما بقي! عنادنا! بصيرتنا! وإرادتنا! ألا نتسلّل حتى إلى الأدوات التي ابتكرها الغرب، ندسّ فيها خفقة القلب، ونبحث عن أعظم قرابة إنسانية: الفكر! ألا نلاحظ أن هذه القرابة اخترقت دائماً الأجيال والمدن، واجتازت الحدود والمسافات، وتجاوزت حظر “الفيزات” وعقبات السفر! نستخف ببطاقات الطائرات، والمواصلات الحقيقية! نتمرد على المخطّطين الذين يفتحون الشوارع، ويشيّدون العقارات، لكنهم لا يؤمّنون للناس الاتصال. ومع ذلك، ألا نخفي رغبة ضارية جامحة بالمجسّدات؟ بالمدن الحقيقية، بالطرقات الحقيقية، باللقاءات الحقيقية، وملامسة الأصحاب والأفراح؟

رسمت الحرب العسكرية حرماننا من الحياة، ويرسم الحصار، وغباء القرارات، والتعالي على الناس، تسميم حياة من بقي من الأحياء. نصرخ، لكننا، ويا للعناد، نقبض على أزمنة الحياة، على الزمن الماضي بالذكريات، وعلى الزمن القادم بالأحلام. بالأحلام؟ لا! بالأمل!

—————————-

  • جان زيغلر، أستاذ جامعي ومفوض الأمم المتحدة لشؤون الغذاء، مفكّر، وضع كتباً مميزة فيها ما يبين الظلم الذي يخيم على (العالم الثالث)، من كتبه: أسياد الجريمة، حكام العالم الجدد، إمبراطوريّة العار.
  • تنويه: ينشر هذا النص باتفاق مسبق مع السيدة الكاتبة، وهو منشور على صفحتها الشخصيّة.

د. ناديا خوست

روائيّة وأديبة سوريّة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق