العالم الآن

سلام إبراهيم: هندسةٌ كيسنجريّة.

انهيار المراكز الحضاريّة وصعود الهوامش الصحراويّة.

لم أنتهِ بعد من كتاب مارتن إنديك، الصادر قبل أسبوع بعنوان (الحريّف: هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط)

قائمة ألقاب ومهام السيّد إنديك طويلة، وأبرزها أنه شغل مناصب مختلفة وثيقة الصلة بالشرق الأوسط: عمل سفيراً لأميركا في إسرائيل، ومبعوثاً للسلام، ومستشاراً من عيار كبير في إدارات أميركية، إضافة إلى العمل في مراكز أبحاث مختلفة.

ولعل في هذه القائمة ما يكفي للقول إنه يعرف حق المعرفة ما الذي يتكلّم عنه: معرفة شخصية بكيسنجر، خبرة شخصية “بعملية السلام في الشرق الأوسط”، ومؤهلات في سلّم البيروقراطية تمكّنه من الوصول إلى معلومات، ووثائق، لا تتوفر على نطاق واسع، إضافة إلى مؤهلات بحثية وكتابية. وخلاصة هذا كله ضرورة التعامل مع ما يرد في كتابه من أفكار بقدر كبير من الاهتمام.

غلاف كتاب مارتن انديك

أما كيسنجر فليس غنياً عن التعريف وحسب، ومهندس السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، بل وفوق هذا، هو أحد مصادر المشورة والإلهام لجاريد كوشنر، زوج ابنه ترامب، وأحد أهم أركان بيته الأبيض، وصنّاع السياسة في عهده، ومع هذا وذاك مهندس (سلام إبراهيم).

لذا، واستناداً إلى ما تقدّم، لا يكتسب ما يرد في كتاب إنديك أهمية استثنائية في معرض التفكير في تاريخ مضى، بل التفكير في تاريخ يتشكّل الآن، وفي حقيقة أن بين ما مضى، وما يحدث الآن وهنا أكثر من خيط رفيع وغليظ.

وما استوقفني في كتاب إنديك، حتى الآن:

في دبلوماسية الشرق الأوسط، وفي الدبلوماسية بشكل عام، انطلق كيسنجر من فرضية أن السلام هو المشكلة، لا الحرب، لذا يمكن الوصول إلى تسويات، وإلى نظام إقليمي يضمنها، ولكن دون السعي إلى تحقيق السلام، لأن في غيابه ما يحرّض مختلف اللاعبين على البحث عنه، هذا أولاً.

وانطلق ثانياً من فرضية أن “التسوية” في الشرق الأوسط، التي كان عنوانها مفاوضات مصرية ـ إسرائيلية أفضت إلى “اتفاقية سلام”، وإلى انسحاب إسرائيل من سيناء، ينبغي أن تكون جزءاً من مشروع لهندسة النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، بما يضمن ديمومة “التسوية” من ناحية، وتفوّق إسرائيل في ناحية ثانية.

أما تصرّفاته، وسلوكه، وقناعاته السياسية، ثالثاً، فقد تأثرت إلى حد بعيد بتجربته التكوينية الأولى كصبي يهودي هرب مع أبويه من الجحيم النازي، وفقد عدداً كبيراً من أفراد عائلته في الهولوكوست.

لذا، تعاطف مع إسرائيل بوصفه واحداً من “القبيلة”، ولم يرَ في هذا التعاطف ما يتناقض مع مصالح أميركا في الشرق الأوسط، أو فلسفته السياسية، وقد انتابته، دائماً، هواجس بشأن قدرة إسرائيل على البقاء وسط بحر من الأعداء.

تعقيبي على ما تقدّم: كُتب الكثير عن مفاوضات واتفاقات كامب ديفيد، التي أخرجت مصر من ميدان الصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي. ولكن تقصي ملامح النظام الإقليمي الكيسنجري في الشرق الأوسط، لم يعد هماً من هموم “العاملين في الحقل الثقافي”، على مدار العقدين الماضيين، كما أن السياسة نفسها فقدت مركزيتها في قائمة اهتمام ومشاغل جيلين من العرب بعد كامب ديفيد.

لذا، يبدو كل ما حدث على مدار العقود الأربعة الماضية سلسلة غير مترابطة من الأحداث المأساوية، وغير المفهومة.

أختصرُ هذا كله، عادة، في تعبير انهيار المراكز الحضرية والحضارية الشامية، والمصرية، والعراقية، وفي شمال أفريقيا، مقابل صعود الهوامش الصحراوية.

 وأعتقد أن ما يندرج في قائمة الأحداث المأساوية يصبح قابلاً للفهم مع فرضية الهندسة الكيسنجرية للنظام الإقليمي الشرق أوسطي، بما فيها عدم الرغبة الأميركية (وبالتالي، الإسرائيلية) في تحقيق السلام، وخلق توازنات، أو إعطاب توازنات، تضمن ترجيح الكفة لصالح إسرائيل.

أعرفُ المرافعات المضادة والقائلة إنَّ انهيار الحواضر نجم عن عوامل داخلية خاصة في الجمهوريات الراديكالية، وفي لبنان الطائفي.

تنطوي هذه المرافعة على قدر من الحقيقة، ولكنها مُضللة، وتنتمي إلى منطق مرافعات من نوع أن الفقر والغنى ينجمان عن حسن الحظ، وخيارات ومؤهلات شخصية واستثنائية، وظروف مواتية. وهذا على صحته في حالات فردية غير صحيح إجمالاً.

فكما من المستحيل فهم الفقر والغنى دون فهم لعلاقات القوّة في المجتمع الطبقي، من المستحيل، أيضاً، فهم انهيار الحواضر مع استبعاد مشروع الهندسة الكيسنجرية للنظام الإقليمي، بما يضمن ديمومة حالة الحرب الدائمة، واللا استقرار، والحروب الأهلية الساخنة والباردة (سمها ما شئت)، وتفوّق إسرائيل.

يستدعي تفسير هذا كله الكثير من الاستطراد، والشواهد، وهذا ما أحاول التعبير عنه من وقت إلى آخر. ولكن يكفي في معالجة اليوم القول إنَّ فقدان السياسة لمركزيتها لدى جيلين من العرب، وطردها من هموم “العاملين في الحقل الثقافي” (الجوائز، المهرجانات، المعارض، تمويل الإنتاج الثقافي والفني، بدعة عواصم الثقافة العربية، الاستيلاء والهيمنة على وسائل الإعلام، تدمير سوق النشر والكتاب، وتمويه الفرق بين الحقلين السياسي والديني) كلها وثيقة الصلة بالشق الأيديولوجي لصعود الهوامش الصحراوية على جثث حواضر بركت كالأبقار الذبيحة في دمها.

والمهم في الموضوع: لن نفهم شيئاً مما يحدث ما لم نرَ في “سلام إبراهيم” محاولة جديدة، بعد إخفاقات وتطوّرات ومفاجآت المحاولة الأولى، لهندسة النظام الإقليمي، لا بما يضمن تفوّق إسرائيل وحسب، ولكن بما يضمن مشاركتها في مشروع الهندسة، وممارسة دور الضامن للنظام الإقليمي، أيضاً.

وأسوأ ما في الأمر أن في ممارسة دور الشريك الصغير، تحت الطاولة وفوقها، ما يسوّغ للهوامش المبالغة في تقدير قوتها الذاتية، وممارسة الغطرسة، والتنمّر، بعد عقود طويلة من التقيّة. نشرة أخبار واحدة تكفي. قلّبوا أبصاركم، وتأملوا…!!

——————————————————-

مصدر النص: صدر هذا النص في جريدة الأيام الفلسطينيّة في 2 تشرين ثاني 2021، بعنوان: قلّبوا أبصاركم، وتأملوا…! وننشره في سيرجيل، باتفاق خاص مع الكاتب، ولكن بعنوان مختلف.

——————————————————

اقرأ في فضاء الموضوع نفسه: كلنا ابراهيميّون! – نزار سلّوم

 حسن خضر

ناقد من فلسطين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق