في العشرين من كانون ثاني 2021، بدت الولايات المتحدة الأميركية، مُنَصّفة بين مشهدين متباعدين. الأول هو ذلك الذي بدا فيه دونالد ترامب مغادراً الطائرة الرئاسيّة التي أقلّته إلى ولاية فلوريدا ولآخر مرة، في لقطة لا توحي أبداً بالاستسلام، بل بالانسحاب التكتيكي نحو مواقع دفاعيّة ومحصّنة، ريثما يُصار إلى تهيئة العوامل الممكنة لاستئناف المواجهة مع (الأعداء: من الحزب الديمقراطي، والخصوم: من الحزب الجمهوري) سويّة. والثاني هو ذلك الذي كانت تدور فصوله على مِنَصّة تم تعميرها أمام مبنى الكابيتول، من أجل إجراء مراسم تنصيب جو بايدن رئيساً، في أجواء مشبعة بالروح التقليدية الأميركية ولكن مع نفحة من تقاليد امبراطورية رومانية.
تُغري (الشَخصَنة)، التي يُرى من خلالها (مُنتصر) و(مهزوم)، بمتابعة ذلك النزال الثنائي، الذي يجري على الحلبة، والذي في نهايته سيُرى فيه المهزوم، وإن كان في كامل لياقته، مستسلماً لقرار الحَكم برفع يد خصمه كـ (منتصر)، وإن كان منهكاً من تعب القتال! و(الشخصَنة)، أسلوب أميركي أثير، بل هي إحدى التعبيرات عن (روح أميركا) التي تبحث دائماً عن (بطلها) لتتّحد به وتمنحه تاريخها، فيما يمنحها هو قدرتها على تجديد نفسها.
على أنَّ، هزيمة دونالد ترامب، لم تتأكد على نحوٍ نهائي من مِنَصّة الكابيتول، ولا قبلاً من النتائج الرسميّة للانتخابات، بل تأكدت على نحوٍ لا يرقى إليه أدنى شكّ، في التاسع من كانون ثاني، ومن على مِنَصّة أحد عمالقة تكنولوجيا التواصل: تويتر، الذي صدّر بياناً، اتخذ سياق وأسلوب قرارات المحاكم، بيّن فيه الأسباب الموجبة والحيثيات التي دعته لاتخاذ قرار بإغلاق حساب الرئيس الأميركي، دون أي إيحاء بإمكانيّة التراجع عن القرار أو تعديله، فبعد (المراجعة الدقيقة للتغريدات الحديثة من حساب رونالد ترامب، والسياق المحيط بها، وتحديداً كيفيّة تلقّيها وتفسيرها في – تويتر – وخارجه، قمنا بتعليق الحساب نهائياً بسبب خطر حدوث مزيد من التحريض على العنف)، ثم يتابع البيان تحليله لتغريدات ترامب، معتبراً أنها في النهاية تشجع على العنف، ومن الممكن أن تنذر بحدوث أمور خطيرة، ولذلك (وبعد تقييم اللغة المستخدمة في هذه التغريدات، ضد سياسة تمجيد العنف الخاصة بنا، قررنا أن هذه التغريدات تنتهك سياسة تمجيد العنف، ويجب تعليق مستخدم رونالد ترامب، من الخدمة فوراً ونهائياً).
ينطوي إقصاء الرئيس الأميركي المقيم في البيت الأبيض بـ (صلاحيات كاملة)، بما فيها تلك التي تخوّله إعلان الحرب، فيما المحفظة النوويّة لا تزال بحوزته، ينطوي إبعاده عن (التواجد) على متن مِنَصّة تكنولوجية مثل تويتر، وأيضاً فيسبوك وأنستغرام، على معاني جديدة وغير مسبوقة، تؤسس بطريقة حضورها الطاغي لما سيكون عليه (العالم الجديد) الآتي الذي يصار إلى صياغته، وسط (فوضى خلاّقة) يتسبب فيها فيروس كورونا. ورغم العلاقات السيئة التي كانت بين ترامب ورؤساء أوروبة، إلاّ أن ردود الأفعال التي ظهرت من المستشارية الألمانيّة والرئاسة الفرنسيّة جاءت معبّرة عن (القلق من سلطة مِنَصّات التواصل الاجتماعي)، فيما اعتبر المفوض الأوروبي تييري برايتون أنَّ قرار تويتر كشف عن (هشاشة أنظمتنا الديمقراطيّة، والتهديد الذي يمكن أن تمثّله شركات تكنولوجيا، لا تخضع لرقابة كافية…)، فيما أشار ترامب إلى أن القانون الأميركي يخوّل تويتر اتخاذ هذا القرار.
في أحد أوجهه الشديدة التعبير عن سلطة توتير ومداها، يمكن النظر إلى قرار (طرد) رئيس الولايات المتحدة الأميركية، من (عالم التواصل ومِنَصّته) باعتباره موازٍ لحكم الإعدام في (العالم القديم) وواقعه. ذلك أنَّ ترامب كان يتواجد على المِنَصّة التكنولوجيّة مع مريديه ومواطنيه الذين يعدّون بما لا يقل عن 80 مليون (مواطن). وهذه الكتلة السكانية هي مملكة ترامب في فضاء العالم السبراني، إليها يتوجّه وبها يستقوي في معاركه. اللغة هي السلاح الذي يمتلكه الجميع فوق هذه المِنَصّة، لكن اللغة هنا تأخذ قدرتها وسلطتها من مريديها والمأخوذين بـ (ناطقها) وكاتبها وما يختاره من مفرداتها وعباراتها ورموزها.
مع قرار تويتر، تم تشريد هؤلاء الملايين في فضاء العالم الافتراضي، بنفي (إعدام) قائدهم، عبر إقفال حسابه / فمه وإسكاته، فبدوا في حالة تيه وضياع، لم يتمكنوا من القيام بأي ردّ فعل على قرار توتير، فـ (الثورة) على متن المنصّات الالكترونية لا وجود لها والأسلحة التي اشتروها من مخازن السلاح ستبقى تنتظر معارك الواقع، بعيداً عن (أكوان التكنولوجيا).
من المؤكد، أنَّ القراءة التقليدية المعتادة نظرت إلى تنصّيب جو بايدن رئيساً، باعتباره أحد أشكال استعادة العولمة لريادتها، في الطريق لاستعادة مواقعها والعمل على توسيعها، غير أنَّ ممارسة تويتر لسلطته على هذا النحو الطاغي الذي يكاد يكون مطلقاً، والذي يعبّر عن ضيق (العالم الافتراضي) بـ (العالم الواقعي)، يشير إلى أن الذي وضع يده على الكتاب المقدس ليقسم اليمين هو بالتأكيد جو بايدن رئيس الولايات المتحدة الأميركية، غير أن الذي رفع يده منتصراً لم يكن سوى السلطان التكنولوجي الحاكم هذا العالم الذي نحن فيه وذلك القادم الذي تتم صياغته؟
رائع
خالص الاحترام
لا شك أن لهذه اللقطة دلالاتها الخطيرة: الافتراضي يرسم للواقعي حدوده ويلزمه بها. وهذا يحدث على مستوى رئيس الدولة الأقوى فوق سطح هذا الكوكب. لقد مر الأمر بنوع من الترحيب الباطني والظاهري المتواطئ وربما المبرر أيضاً لأسباب معروفة. لكن ماذا لو كان الأمر معكوساً وجاء موقف الافتراضي مناصراً لقوى تهدد القيم الحديثة للحضارة التي رضيت بها البشرية أو معظمها وتتمتع بها الأطراف المحظوظة من الجغرافيا الأرضية فيما بقيت الأطراف الأقل حظاً تحلم بها وتصبو اليها، ماذا ستكون النتيجة عندها؟ إن قوة قدرت على تكميم فم رئيس الولايات المتحدة دون خشية من أحد، لن تكون عاجزة عن فعل ذلك مستقبلا مع أي كان وتحت ذرائع لن يتعذر خلقها.
المسألة، كما تقول، في غاية الخطورة. هنالك مؤشرات متعددة عن تعاظم هذا النوع من السلطات مقابل تدهور سلطات تقليدية. الخطورة أننا جميعنا سنخضع لقوة هذا السلطات واستراتيجياتها.
أرجو أن تتابع مقالي خلال الأسابيع القادمة ربما سيبين جوانب إضافية.