بدأت فكرة الاستيطان في فلسطين، تلوح في الأفق، بعد ظهور حركة الإصلاح الديني على يد مارتن لوثر في أوروبا، حيث بدأ أصحاب المذهب البروتستانتي
الجديد بترويج فكرة تقضي بأن اليهود ليسوا جزءاً من النسيج الحضاري الغربي، وإنما هم شعب الله المختار، وطنهم المقدس فلسطين، يجب أن يعودوا إليه. وكانت أولى المطالب لتحقيق هذه الفكرة ما قام به التاجر الدنماركي أوليغربولي عام 1695م، الذي أعد خطة لتوطين اليهود في فلسطين، وقام بتسليمها إلى ملوك أوروبا في ذلك الوقت، وفي عام 1799 م، وكان الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت أول زعيم دولة يقترح إنشاء دولة يهودية في فلسطين أثناء حملته الشهيرة على مصر وسوريا.
واشتدت حملة المطالبات للمشروع الاستيطاني اليهودي في فلسطين في القرن التاسع عشر، حيث انطلقت هذه المطالب من أوروبا، مستغلة المناخ السياسي السائد حول الأطماع الاستعمارية الأوروبية في تقسيم ممتلكات الرجل المريض (الدولة العثمانية) والتي عرفت حينئذ بالمسألة الشرقية. وقد تولى أمر هذه المطالب عدد من زعماء اليهود وغيرهم، أمثال: اللورد شاتسبوري، الذي دعا إلى حل المسالة الشرقيـة عن طريق استعمـار اليهـود لفلسطيـن، بدعم من الدول العظمى، ساعده في ذلك اللورد بالمرستون 1856- 1784م، الذي شغل عدة مناصب منها، وزير خارجية بريطانيا، ثم رئيس مجلس وزرائها، وقام بتعيين أول قنصل بريطاني في القدس عام 1838م، وتكليفه بمنح الحماية الرسمية لليهود في فلسطين، كما طلب من السفير البريطاني في القسطنطينية بالتدخل لدى السلطان العثماني للسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين.
وبعد ظهور الحركة الصهيونية كحركة سياسية عملية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، سعت هذه الحركة إلى السيطرة على الأراضي الفلسطينية، وكان من أبرز نشطائها لورنس أوليفانت 1888-1820م، الذي كان عضواً في البرلمان الإنجليزي، وعمل أيضاً في السلك الدبلوماسي الإنجليزي، اعتقد بضرورة تخليص اليهود من الحضارة الغربية بتوطينهم في فلسطين، وذلك بإدخالهم كعنصر لإنقاذ الدولة العثمانية من مشاكلها الاقتصادية، لما يتمتع به اليهود من ذكاء في الأعمال التجارية ومقدره على جمع الأموال؛ ومن أجل ذلك قام في عام 1880م بنشر كتاب بعنوان (أرض جلعاد)، اقترح فيه إنشاء مستوطنة يهودية شرقي الأردن، شمال البحر الميت، لتكون تحت السيادة العثمانية بحماية بريطانية. وكذلك شجع استعمار اليهود في فلسطين والمناطق المجاورة عن طريق إقامة مستوطنات جديدة. وبالإضافة إلى أوليفانت، حاول العديد من زعماء اليهود في القرن التاسع عشر القيام بمشاريع لتوطين اليهود في فلسطين، ومن بين هؤلاء
مونتفيوري (1784- 1885م )، الذي حاول استئجار 200 قرية في الجليل لمدة 50 عاماً مقابل 10%- 20% من إنتاجها، إلا أن هذه المحاولة فشلت أمام رفض الحاكم المصري لبلاد الشام آنذاك، ثم نجح في الحصول على موافقة السلطان العثماني بشراء عدد من قطع الأراضي بالقرب من القدس ويافا، وأسكن فيها مجموعة من العائلات اليهودية، إلا أن هذه الخطوة أخفقت أيضاً تحت تحفظ السلطات العثمانية لمشاريع الاستيطان في فلسطين. كما بذل وليم هشلر جهوداً في جمع تبرعات مادية وإرسالها إلى الجمعيات الصهيونية؛ لتشجيع الاستيطان في فلسطين تحت الحماية البريطانية.
أما المبشرون الأمريكيون، فقد ساهموا في هجرة اليهود إلي فلسطين، ففي عام 181م وقف القس جون ماكدونالد راعي الكنيسة المسيحية داعيا إلى أن اليهود يجب أن يعودوا إلى أرض صهيون. وتبعه العشرات من المبشرين الذين دعوا إلى نفس الفكرة. ففي النصف الأول من القرن التاسع قام أحد قادة البروتستانت بالهجرة إلي فلسطين وأنشأ هناك مستوطنة زراعية يهودية؛ لتدريب المهاجرين اليهود على الزراعة. وكذلك قامت السيدة كلواندا مانيور (زوجة أحد كبار التجار وهي من البروتستانت) بإرسال مجموعة من رجال الدين المسيحي للهجرة إلي فلسطين عام 1850م، وملكت مساحات شاسعة من الأراضي، وهبتها لإقامة المستوطنات اليهودية.
وهكذا ساعد البروتستانت اليهود في دخول فلسطين، وقام الإتحاد الإسرائيلي العالمي (الاليانس) الذي تأسس عام 1860م، باستئجار 2600 دونم لمدة 99 عاماً، أقيمت عليها مدرسة زراعية بدعم من البارون روتشيلد لتدريب اليهود المهاجرين على الزراعة.
وفى عام 1870م، تم تأسـيس مسـتوطنة (مكفا إسرائيل) وتعنى أمل إسرائيل في لواء القدس، التي أنشأت مدرسه كانت تهدف إلى تزويد المستوطنين اليهود بالخبرة الزراعية وتقـديم التسهيلات لهم، هذا ويعتبرها المؤرخون اليهود أول مستوطنه زراعية يهودية في فلسطين.
في عام 1878م، قامت مجموعة من اليهود بشراء 3375 دونماً من أراضى قرية ملبس، وتم تسجيلها باسم النمساوي سلومون، واستمرت المحاولات اليهودية للسيطرة على الأراضي الفلسطينية حتى عام 1881م، الذي يعتبره المؤرخ اليهودي والترلاكور بداية التاريخ الرسمي للاستيطان اليهودي في فلسطين بعد أن وصل حوالي 3000 يهودي من أوروبا الشرقية، تمكنوا من إنشاء عدد من المستوطنات في الفترة من 1882-1884م. وتوالت فيما بعد عمليات الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية بشتى الوسائل منها الشراء أو الاستئجار لمدة طويلة. وقد لعبت المؤسسات اليهودية التي أنشئت لهذا الغرض، دوراً كبيرا في هذا الشأن، ومن بينها (منظمة بيكا) التي أسسها روتشيلد، والوكالة اليهودية التي انبثقت من المؤتمر الصهيوني العالمي الأول عام 1897م، والصندوق القومي اليهودي “الكيرن كايمت” وصندوق التأسيس اليهودي”الكيرن هايسود” والشركة الإنجليزية الفلسطينية.
ولم تظهرالمستوطنات بشكل منتظم خلال القرن التاسع عشر إلا في عام 1878م، عندما تمكنت مجموعة من يهود القدس من تأسيس مستوطنة بتاح تكفا. وفي عام 1882م، تم إنشاء ثلاث مستوطنات، هي (ريشون ليتسيون وزخرون يعقوب وروش يبنا)، ثم مستوطنتي (يسود همعليه وعفرون)عام 1883م، ومستوطنة (جديرا)عام 1884م، وفي عام 1890م، أقيمت مستوطنات (رحوبوت ومشمار هيارون)، وبعد انعقاد المؤتمر الصهيوني العالمي الثاني عام 1898م، أقر قانون المنظمة الصهيونية العالمية التي أخذت على عاتقها كافة الشؤون المتعلقة بالاستيطان، بعد أن وصل عدد المستوطنات الإسرائيلية الزراعية إلى”22″ مستوطنة، سيطرت على200 ألف دونم، ارتفعت إلى 418 ألف دونم.
وساهم تشكيل المنظمة الصهيونية العالمية بزعامة هرتسل سنة 1897م، بوضع حجر الأساس للمشروع الصهيوني، حيث كان الأساس الأيديولوجي الذي
اعتمدته الحركة الصهيونية، منذ بـدء نشاطها أواخر القرن التاسع عشر مقولة “إن المشروع الصهيوني هو عودة شعب بلا أرض إلى أرض بلا شعب”.
فعملت المؤتمرات الصهيونية العالمية بدءاً من المؤتمر الأول على تنفيذ برامجها التي تمحورت حول برنامج المؤتمر الأول عام 1897م. ويدعو هذا البرنامج إلى العمل على استعمار فلسطين بواسطة العمال الزراعيين والصناعيين اليهود وفق أسس مناسبة، وتغذية وتقوية المشاعر اليهودية والوعي القومي اليهودي، واتخاذ الخطوات التمهيدية للحصول على الموافقة الضرورية لتحقيق غاية الصهيونية، فقد سعت الحركة الصهيونية خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر إلى امتلاك أكبر مساحة ممكنة من الأراضي؛ باعتبار ذلك إحدى الركائز الضرورية لإقامة دوله يهودية على أنقاض فلسطين العربية، ولقد ساعد نظام ملكية الأراضي، الذي كان سائداً في فلسطين ومناطق أخرى من الإمبراطورية العثمانية آنذاك -الصهاينة على تحقيق بعض مخططاتهم في امتلاك الأراضي الفلسطينية وتهويدها.
—————————————————
تنويه: المرجع الأصلي لهذا النص، موقع مركز المعلومات الوطني الفلسطيني.