العالم الآن

لبنان وتونس

قرطاج الجديدة وبيروت القديمة!

في ليلة 26 من تموز2021، ومع إعلان الرئيس التونسي قيس سعيّد عن حزمة إجراءات تم بموجبها تجميد سلطة البرلمان ورفع الحصانة عن النواب وإعفاء رئيس الوزراء وتولي رئيس الجمهورية مسؤولية ومهام السلطة التنفيذية… في هذه الليلة ومع هذه (الانتفاضة الرئاسيّة)، يعود المشهد اللبناني بحمولاته الاستثنائية ليتوضّع على شريط (الفرجة) السياسي إلى جانب المشهد التونسي في استدعاء منهجي مباشر لمقاربته، ربما لأن قصر قرطاج الرئاسي التونسي الذي منه تم إعلان عهد (الجمهوريّة الثالثة – الجديدة) يحيل، رمزيّاً إلى شريط التاريخ الذي ابتدأ مع السفن الفينيقية التي أبحرت من ميناء صور في القرن التاسع قبل الميلاد، كما يحيل إلى تركيب صورة مزدوجة وبوجهين تشكّل مادة المقاربة والمقارنة، صورة يُرى فيها قصر قرطاج وهو يرتدي الفصل 80 من الدستور التونسي، الفصل الذي يُنسج ابتداءّ من قطبته الرداء الجديد للجمهوريّة، فيما قصر بعبدا يواصل ارتداءه (الميثاق والتعايش ودستور الطائف) كأسمال باليّة مناسبة للتسّول والتسكع بعد أن ثبت إصابته بالإدمان على الإقامة في هذا الرداء الملتصق بجسده كقدر… والأدق كـ (لعنة)؟

الصورة المُفترضة المزدوجة، يمكن استكمال تركيبها بالتساؤل التخيّلي فيما إن كان إعلان قصر قرطاج نفسه، ومن دون أي تعديل، صادراً كإعلان من قصر بعبدا وفي موعد مؤجل… لعلّه الرابع من آب، التاريخ الذي تم فيه (تفجير لبنان الكبير) بمناسبة مئويته…؟

وهذا التساؤل لا يعود تركيبه إلى لعبة ذهنيّة مجرّدة تستند إلى اعتبار مضمون إعلان قرطاج عابراً لدساتير أغلب الدول – إلاّ لبنان المُحتَجز في (الميثاقيّة) المانعة لوجود الدولة بمعناها ومضمونها ومؤسساتها – هذا التساؤل يعود في الواقع إلى ملاحظة قرائن متشابهة ما بين المشهدين اللبناني والتونسي. قرائن توحي بالتطابق في مشاهدة أوليّة ولكنه سرعان ما يتبدد مع امتلاء النظر بمكونات وألوان الصورة ذات الوجهين المتجاورين على شريط (الفرجة) المتحرك على مدار الوقت.

خلال عقدٍ مضى، ابتليت تونس بداء عدم الاستقرار السياسي، وبالرغم من هيمنة حركة النهضة على المشهد، إلاَّ أنها لم تتمكن من (اجتثاث) الشخصيّة المدنيّة وملامحها المميزة للدولة التونسيّة، حيث شكّل موقع رئاسة الجمهورية الخط الدفاعي عن هذه الشخصية مع الرئيس الباجي قائد السبسي (2014 – 2019) الذي تمكن من إنجاز تسويّة مع النهضة، ومن ثم مع الرئيس قيس سعيّد الذي ثار عليها.

لا تكفي عبارة (عدم الاستقرار السياسي) لتكون السبب المباشر الذي يقرّب المشهد التونسي من اللبناني، وبرأينا يبدو هذا السبب واضحاً دون لبس، وبالدرجة الأولى، في المكون السياسي الرئيسي للمشهد وعقيدته وسلوكه. من المؤكد أنّه حركة النهضة، المدرجة في الاستراتيجية الدولية لحركة الاخوان المسلمين التي اعتمدت كـ (بديل) جاهز للحلول محلّ الأنظمة التي عصف بها (الربيع العربي).

في المشهد التونسي، نحن أمام حزب يسيطر على مجلس النواب ويقيم علاقات مع الخارج كما يريد، يمتلك مؤسسات إعلامية وثقافية ومالية مستقلة عن الدولة، معطل لقرار السلطات التنفيذية، يحمي نفسه ونوابه بقانون الحصانة النيابية، ومسؤول على نحو مباشر عن الشلل الحكومي والعطالة السياسيّة إلى مختلف العناوين التي يمكن إدراجها تحت عنوان الأزمة المفتوحة والتي تبدأ من التدهور الاقتصادي والمالي لتصل إلى الثقافي مع مُناخ سائد من الفساد الذي يكاد يجهز على الدولة ومعناها وحضورها.

كان من الصعوبة على حركة النهضة أن تكون عضوياً من نسيج (ثورة الياسمين)، بل بحضورها المحمّل على قاطرة استراتيجية لا تونسيّة، ستكون على الدوام مُختطِفة للياسمين وخانقة رائحته وملوثة لونه.

في المشهد اللبناني من الصورة، ماذا نرى قياساً إلى ما نراه في المشهد التونسي؟

الوصف المجرد يضع أمامنا مفردات تنتمي لقاموس الدولة: رئاسة جمهوريّة، مجلس نواب، رئاسة مجلس الوزراء. لكن هذا الوصف يحمل في مضمونه تزييفاً وتضليلاً لواقع يحيل إلى عكسه، أي إلى: اللا دولة. بلى، كتونس يوجد مجلس نواب مُعطّل للقرارات، ومجلس وزراء متعثّر وغير قائم أصلاً، ويوجد رئيس جمهوريّة لكنه دون صلاحيّات موازية لصلاحيات الرئيس التونسي. غير أنَّ اللا دولة في لبنان لا يقف وراء حالتها مكوّن وحيد كحركة النهضة في تونس، بل منظومة متكاملة مشكّلة من مختلف (الكائنات السيّاسيّة) التي تسمي نفسها أحزاباً وتيارات وحركات بالتكافل مع المرجعيات والسلطات الدينية الطائفية والمذهبية، وكلّ واحدة منها (السياسية والدينية) ليست في الواقع سوى (وتد) مشدود إلى خيمة استراتيجيّة خارجية.

في تونس، يمكن للدولة أن تثور على نفسها وتحاصر حركة النهضة وتقلّم أظافرها، إلى الوقت الذي يمكن فيه أن تجدد الجمهورية نفسها.

في لبنان، الحلّ التونسي مستحيل، فخداع التشابه يسقط بسرعة ليكشف عن منظومة يجب إسقاطها كي تتأسس الجمهورية اللبنانيّة.

عندما غادرت أليسار ميناء صور، أخذت معها كنوز المدينة وذهبها، وألقى بحّارتها أكياساً من الرمل قبالة الشاطئ ليوهموا (بجماليون – أخ أليسار) بأنها مليئة بالذهب. من حينها يبحث بجماليون في أكياس الرمل دون جدوى، فيما بنت أليسار (قرْتْ حَدَشْتْ) الاسم الذي يعني بالفينيقيّة المدينة الجديدة: قرطاج.

أمن أجل ذلك تتمكن المدينة الجديدة من تجديد نفسها، فيما أمّها لا تزال تبحث في أكياس الرمل عن ذهب ضائع؟

لن يجد لبنان ذَهَبَه وكنوزه، إلاَّ مع إسقاط منظومته برمتها، حينها يمكن تعديل الصورة المزدوجة التي يمكن فيها رؤية: قرطاج الجديدة مع بيروت الجديدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق