كشفت الحرب الروسية الأوكرانية المباشرة، ومن خلفها الحرب الباردة الجديدة، مدى تزييف الوعي الذي اتبعته الولايات الأميركية وحلفاءها من الدول الغربية، ما أفرز خلطاً في المشاهد يصعب فرزها لفحصها وتحليلها، وهدف هذا الخلط المتعمّد تضليل وتزييف الوعي الذي أعشى الكثير من العقول عن رؤية حقيقة ما يجري على الأرض.
فالرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” أحكم اللعبة السياسية مع أوروبا وأميركا من خلال هذه الحرب. فروسيا تبدو أقوى من الاثنتين اقتصادياً ولوجستياً وغذائياً وفي موارد الطاقة، ما يجعلها في وضع أكثر أماناً. وبات بوتين يتحرك بأريحية كاملة على الأرض ولا يحاصره الوقت بينما المعسكر المقابل لا يملك شيئاً من هذه المكاسب والميزات، وما هي إلاّ أشهر ويحل فصل الشتاء وتصبح كل أوروبا ومعها أميركا مهددة ومحاصرة بنقص الغذاء والطاقة.
لقد بات مؤكداً أن استمرار الحرب يضر بالولايات المتحدة وحلفائها أكثر مما يضر بروسيا، فكلما طال أمدها دفعت واشنطن ومعها حلفاءها ثمناً أكبر. فاقتصاد اميركا يسير نحو الركود بسبب التضخم وعملتها عرضة للانهيار بسبب طباعة الدولار المستمرة بلا غطاء، وموارد الطاقة في أزمة كبيرة بالرغم من محاولات الحلول الترقيعية، كما ان الرأي العام في حالة انقسام خطير يهدد تماسك الولايات الأميركية.
منذ بدأت شرارة المعركة الأولى في الحرب الروسية – الأوكرانية كانت كل المؤشرات تدل بوضوحٍ على أن روسيا ستنتصر بشكل كاملٍ وغير مشكوكٍ فيه. وأكد الصحفي مايكل بريندان دويرتي، في مقال بصحيفة “ناشيونال ريفيو” الأميركية (29/6/2022)، إلى أن “انتصار روسيا في أوكرانيا سيكون ثاني أكبر هزيمة للولايات المتحدة في غضون عامين بعد الانسحاب الأميركي “المهين” من أفغانستان”. وأوضح أن “محاولات واشنطن فرض تكاليف إضافية على موسكو أثناء الأعمال القتالية في أوكرانيا، ستجعل انتصار الجانب الروسي أكبر، في حال فشل القوات المسلحة الأوكرانية في تحقيق انسحاب استراتيجي حاسم وهُزمت قواتها في دونباس”، لافتاً إلى أن بوتين (سيتمكن من إعلان فوزه ليس فقط على القوميين في أوكرانيا، ولكن أيضاً على القوى الغربية).
وكما يبدو فكل مقومات القوة بلا استثناء تميل للجانب الروسي لا الأوكراني، ولكن في الحرب الباردة لم ترد أميركا وبريطانيا والدول الأوروبية أن تقرّ بهذه الحقيقة فبدت حربهم مع بوتين ذات أبعاد وأهداف مختلفة ومركّبة، فهي حرب بمجموعة حروب:
الحرب النفسية
حيث نشرت صحيفة “ذي تلغراف” البريطانية تقريراً حول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تناول الأساليب التي اعتمدها للفوز في الحرب النفسية خلال الأزمة الأوكرانية. أخذ بوتين بنصيحة لينين للثوار بأن الفوز في الحرب النفسية يبدأ ببث التطمينات من جهة، والتحضير لخطوة تصعيدية في الوقت نفسه، الأمر الذي يربك العدو ويجعله في حال من عدم التوازن.
وبرع بوتين في استخدام هذه الحيلة النفسية منذ ضم شبه جزيرة القرم في ربيع 2014، عندما بادر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى بث أولى التطمينات بعيد قيام الانقلاب (الغربي) في أوكرانيا، وأكدّ حينها أنّ روسيا لن تتدخل في الشؤون الأوكرانية الداخلية. ولكن بعد 3 أيام احتلت القوات الروسية جزيرة القرم وأضافت “ذي تلغراف” أنّ بوتين سارع للتخفيف من حدّة التوتر بعد خطوته هذه فأجرى اتصالاً بالرئيس الأميركي باراك أوباما، وبعث وزير خارجيته للقاء نظيره الأميركي، فسارع أوباما إلى طمأنة المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل بأنّ روسيا ستسحب جنودها من على الحدود الأوكرانية، لكن بوتين لم يسحب قواته. وهكذا ارتفعت حدة التوتر مجدداً مثلما رغب بوتين، وصارت القوى الغربية في حال توتر بانتظار خطوته المقبلة. لذا فإنّ بوتين هو الرابح في الحرب النفسية، أياً كانت النكسات الصغيرة التي قد يمنى بها هنا وهناك.
الحرب السياسية
بات الإقرار بانتصار بوتين يأتي من أميركا وبريطانيا وبعض الدول الأوروبية، وإن على استحياء وخجل لأن المدة قصيرة بين مزاعم هزيمة بوتين في أوكرانيا وبين الحقائق على الأرض، وبات مهماً لمن انساق وراء الدعاية الغربية أن يتبصر مواضع أقدامه في الأحداث المقبلة، وأن الانسياق خلف الدعايات الضخمة دون تمحيصها بعقلانية وواقعية يودي بقراءة الأحداث وتحليلها بعيداً عن الحقيقة. وبات الهياج السياسي الغربي لحشد كل العالم ضد روسيا غير واقعي ولا عقلاني، واللغة المستخدمة والقرارات المستعجلة كانت تشي بفشل التحشيد الدولي في بدايته وهو ما حصل بالفعل.
منذ بدء الحرب وقبلها، لم تخطئ عين المراقب في رصد تدني معايير الجودة لإنتاج النخب السياسية والعقول الاستراتيجية في أميركا والغرب، وفكرة “القص واللصق” المستوحاة من “السوشيال ميديا”، والتي تم استجرارها من حرب أفغانستان القديمة أريد تطبيقها على واقع شديد الاختلاف ومعطياتٍ شديدة التباين، وهذه وصفة مثالية للفشل.
تحطيم “العولمة” ومؤسسات “النظام الدولي” وإن لم تكن غاية لصانع القرار الغربي إلاّ أنها كانت نتيجة حتمية لو استمرّ الهياج الغربي بنفس الحدّة وذات الاندفاع، والخلل الذي أصاب التحالف الغربي بين أميركا وبريطانيا من جهة والدول الأوروبية من جهة أخرى كان يمكن استنتاج حدوثه بسهولة لولا الحماسة والاندفاع.
لحظات هبوط الإمبراطوريات الكبرى وصعود منافسيها خطيرة على طول التاريخ وعرض الجغرافيا، والعالم يشهد هذه اللحظة اليوم، وهي لحظاتٌ مفيدةٌ لمن يرصد ويتأمل ويحلل في بناء الوعي ومفيدةٌ أكثر لمن يبحث عن تعظيم المصالح وتعميق التأثير الدولي وبناء المستقبل.
لقد انتصر “بوتين” في الحرب السياسية الروسية الأوكرانية، ولكن الحروب الباردة قصةٌ أخرى ذات معايير مختلفة وأمدٍ زماني ومكاني أطول بكثير من الحروب الخشنة المباشرة.
الحرب الاقتصادية
هل البحث عن بدائل للغاز الروسي في أوروبا أمر يمكن تحقيقه؟ وهل يمكننا القول ان بوتين، انتصر في معركة الغاز وسيلقن الاوروبيين درساً لن ينسوه لانسياقهم وراء التحريض الأميركي؟
لا نقول ونجزم أن “روسيا بوتين انتصرت اقتصادياً”، لكننا نقول إن ألمانيا في الطريق لفقدان مكانتها، وهي أكبر اقتصاد في أوروبا، فقد أظهرت بيانات لشركة الأبحاث GfK، انخفاض مؤشر ثقة المستهلك في اقتصاد ألمانيا، إلى مستوى قياسي في تاريخ جمع البيانات. وكانت الحكومة الألمانية اعترفت ان التخلص التدريجي من الاعتماد على الغاز الروسي سيستغرق وقتاً طويلاً، وأنها حتى نهاية العام الحالي قد تتمكن من التخلي عن ثلثي “هذا الغاز في أفضل الاحوال”، وبالطبع نتوقع أن توقف روسيا تدفق الغاز عن المزيد من الدول الاوروبية مستقبلاً إذا لم تلتزم بالدفع بالروبل وبالتالي قد لا نحتاج لإثبات كيف انتصر بوتين في معركة الغاز وقد قبض على ماسورة البيع بالروبل.
وإذا أردنا التأكد من مدى فاعلية الحرب الاقتصادية التي شنتها الدول الغربية، وعلى رأسهم أميركا، ضد روسيا عقب بدئها عمليتها العسكرية في أوكرانيا، فمن الافضل أن نركز على الأرقام، لا على التهديد والوعيد أمام شاشات التلفزة، وعندما تقول وكالة “بلومبورغ” الاقتصادية الأميركية العالمية أن عشرة مشترين للغاز الروسي في أوروبا فتحوا حسابات بالفعل في “غاز بروم بنك”، وسددوا ثمن وارداتهم من الغاز الروسي بـ”الروبل” فهذا يعني أن الروبل الروسي بدأ يستعيد عافيته التي فقدها قبل شهرين مع بدء دخول الدبابات الروسية إلى أوكرانيا، وهو بالفعل ما حصل حيث ارتفع الروبل من 140 روبل للدولار الواحد إلى 71 روبل.
“ايغور مورغولوف”، نائب وزير الخارجية الروسي، كشف في مقابلة أجرتها معه وكالة “نوفوستي” في أبريل/نيسان الماضي أن موسكو وبكين شيدتا البنية التحتية الكاملة للانتقال إلى نظام مالي جديد يقوم على العملتين الوطنيتين للبلدين (الوان والروبل) وزيادة التجارة البينية بينهما، حيث ارتفع معدل التبادل التجاري الى حوالي 38.5 في الشهرين الأولين (يناير وفبراير) من العام الحالي، وهذا التحرك قد يشكل انقلاباً في الموازين العالمية التي تقول بهيمنة الدولار واليورو والاسترليني وتوابعهم، لمصلحة العملتين الصينية والروسية.
ولذلك سارع الغرب لاستخدام فائض الذهب للضغط على موسكو، وقد استبعد خبراء أن يؤثر فرض حظر على شراء الذهب الروسي من قبل دول G7 على منتجي الذهب في روسيا، التي تعد أحد أكبر مصدري الذهب في العالم.
استراتيجيّة الترقيع الغربيّة
إلى جانب ذلك تعمل أميركا ودول الاتحاد إلى محاولة إدخال إيران في لعبة الجزرة والعصا الطاقوية، وقد وصلها فجأة مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي “جوزيف پوريل” بحجة استئناف المحادثات النووية غير المباشرة بين طهران وواشنطن قريباً، مع باقة من الإغراءات، بهدف جعلها تساهم في استقرار سوق الطاقة قبل حلول الشتاء. والشتاء في تاريخ معارك أوروبا كان فيصلاً لحسم مرحلة من مراحل الحرب، وهو ما تخشاه أوروبا وأميركا حيث تشير مختلف المؤشرات بأن الشتاء لن يكون لصالحهم هذه المرة.
كما يمكن ملاحظة كيف دخلت المصالحات الخليجية المصرية التركية بين “الأعدقاء” في لعبة خطوط الطاقة للتعويض عن الغاز الروسي في حال قرر بوتين اغلاق الصنبور إلى الغرب مع بدء الشتاء المقبل.
وكان لابد في هذه التحولات الخليجية المصرية التركية من إدخال “إسرائيل” في لعبة التوازنات “الطاقوية”، وهو الكيان الذي يماطل في ترسيم الحدود البحرية مع لبنان، ويسعى إلى أن يصبح “إمبراطورية غاز” مصدرة لكل دول أوروبا، لتحريرها من تبعيتها لموسكو.
رغم ذلك لا يبدو أن الحاجة لروسيا خلال العقدين المقبلين ستتأثّر، فحصّة شركة “غاز بروم”، تتزايد بثقة في السوق الأوروبية؛ وأوروبا ستحتاج بحلول عام 2035 إلى 70 مليار متر مكعب إضافية من الغاز الروسي على أقل تقدير؛ فيما لا تزال الأزمات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط تلعب دوراً يشوبه الغموض والتعقيد في أسواق النفط والغاز الطبيعي العالمية، وذلك بسبب تشابك العلاقات الروسية مع بعض أطراف هذه الأزمات في هذا المجال تحديدًا.
في هذا الوقت أبرمت كل من مصر و”إسرائيل” والاتحاد الأوروبي اتفاقاً ثلاثياً في القاهرة في حزيران المنصرم حول تجارة ونقل وتصدير الغاز الطبيعي من البحر الفلسطيني إلى أوروبا بعد تسييله في المحطات المصرية المعدة لذلك. وتأتي هذه الخطوة وسط مساع أوروبية “للتخلص من اعتمادها على الوقود الأحفوري الروسي” وفق ما قالت رئيسة المفوضية الأوروبية “فون دير لاين” في مؤتمرها الصحافي مع الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي”، متطلعة إلى دول شرق البحر المتوسط للمساعدة في سد فجوة الطاقة.
ووفقا لما ذكره “راديو كان” الإسرائيلي فإن مدة الاتفاقية تبلغ 3 سنوات، مع احتمال تمديدها لعاميين آخرين. كذلك سيقوم الاتحاد الأوروبي في إطار الاتفاقية على تشجيع الشركات الأوروبية للمشاركة في مناقصات التنقيب عن الغاز الطبيعي وإنتاجه في المياه الاقتصادية لفلسطين المحتلة ومصر.
إن الإمداد الذي تم الاتفاق بشأنه عبر الاتفاق الثلاثي لن يكون كافياً بمفرده لسد الفجوة التي خلفتها المواقف الروسية والأوروبية تجاه ما يجري في سوق النفط، فالاتفاقية الأخيرة لا تحدد أي جدول زمني لزيادة تدفقات الغاز الطبيعي المسال من مصر، أو لبناء خط أنابيب جديد لشحن كميات إضافية من الغاز الإسرائيلي إلى مصر، وهو ما يعني أن روسيا ستظل المسيطرة على سوق الطاقة في أوروبا. مما سيضمن لها المضي قدماً في خططها المتعلقة بأوكرانيا، وضمان استمرار الضغط على أوروبا بورقة الطاقة.
وكان الاتحاد الأوروبي قد أعلن دعمه لإنشاء مشروع خط أنابيب في البحر المتوسط لنقل الغاز الطبيعي من “إسرائيل” إلى أوروبا، وحدد موعداً لاستكماله في عام 2025. كذلك خط الأنابيب الذي يمتد لمسافة 200 كيلومتر لربط حقول الغاز قبالة سواحل فلسطين المحتلة وقبرص باليونان، وربما إيطاليا، بتكلفة تصل إلى ست مليارات يورو.
وعند مقارنة جميع مشروعات شرق المتوسط (إسرائيل ومصر وقبرص وتركيا وغيرها) فإن هذه الدول لا يمكنها كلّها أن تزود دول أوروبا بأكثر من 3 مليارات قدم مكعب يومياً تمثل نسبة 10 في المئة فقط مقارنة بالغاز الروسي. والمعنى أنه من الصعوبة سد حاجة أوروبا بالكامل من الغاز، لكن تبقى مصر قادرة على سد جزء من تلك الحاجة، على اعتبار أن لديها مصادر ضخمة للغاز، مع اكتشافات جديدة عندها.
بالإضافة إلى أن الاتفاق الثلاثي سيكون جزءً من كل في إطار البحث الأوروبي عن البدائل المهمة لتعويض الغاز الروسي، ولن يكون وحده هو الأساس، وهو ما تدركه روسيا جيداً، ولهذا لم تبد أية تحفظات على ما يجري في صورة واضحة، وإن كانت تتابع وتقارن وتراهن في المدى الطويل على مصالحها الكبرى مع أوروبا في حال انتهاء الحرب الروسية – الأوكرانية، وحسم الخيارات العسكرية والاتجاه إلى الحلول السياسية بعد أن تكون قد استوفت مخططها الرئيس.
وكان بيان لشركة “غازبروم” قد كشف أن روسيا صدّرت في عام 2021 “185.1 مليار متر مكعب” منها حوالي 155 مليار متر مكعب إلى دول الاتحاد الأوروبي من الغاز، و140 مليار متر مكعب تمثل عمليات تسليم عبر خطوط الأنابيب، حيث بلغ متوسط العرض الشهري في عام 2021 حوالي “11.6 مليار متر مكعب”.
وبشكل تفصيلي، تورّد روسيا الغاز إلى الاتحاد الأوروبي عبر نورد ستريم (بسعة 55 مليار متر مكعب سنويًا)، وخط أنابيب الغاز يامال – أوروبا (33 مليار متر مكعب سنويًا)، وعبر أوكرانيا يجب على روسيا في عام 2022 أن تزود ما لا يقل عن 40 مليار متر مكعب عبر هذا الطريق.
ولهذا يمكن القول إنه ولو دخلت “إسرائيل” على خط تصدير الغاز إلى أوروبا فهي لا يمكن أن تعوّض الغاز الروسي؛ فإذا كانت صادرات روسيا لأوروبا وحدها كما أشرنا في هذا النص، تساوي 155 مليار متر مكعب، فإن “إسرائيل” تحتاج بضع سنوات ليصل كامل إنتاجها من الغاز إلى 40 مليار متر مكعب. ولا يساوي هذا المقدار إلا ربع صادرات روسيا للاتحاد الأوروبي، كما أنه سيوزع على حاجات “إسرائيل” نفسها، واتفاقياتها الملزمة لكل من الأردن ومصر. ولن تستطيع تل أبيب تصدير إنتاجها كله إلى أوروبا، كما أن الغاز الإسرائيلي أعلى تكلفة من الغاز الروسي، ويحتاج وقتاً أطول، وربما استثماراً أكبر في البنية التحتية. بالإضافة إلى أن الغاز الروسي يصل إلى أوروبا بسرعة كبيرة عبر الأنابيب.
لا تستطيع أوروبا التحرر من حاجتها للغاز الروسي بسهولة، بل إن شركات أوروبية متعددة اضطرت للموافقة على شروط روسيا للدفع بالروبل، رغم اعتباره من طرف شركات أخرى بمثابة ابتزاز للمستوردين. ورغم رفض الدفع بالروبل على المستوى السياسي، لكن تلك الشركات لم يكن أمامها خيار آخر سوى الانصياع للمطالب الروسية، خصوصاً أن موسكو أثبتت جديتها بقطع الغاز عن بلغاريا وبولندا.
وفي مارس (آذار) 2022 صرح سعد شريدة الكعبي، وزير الطاقة القطري، بأنه لا أحد يستطيع تبديل روسيا حالياً، وأن بلاده غير قادرة على تأمين الكميات التي تستوردها أوروبا من روسيا في الوقت الحالي من الغاز الروسي، بل لا أحد يستطيع ذلك.
لا شك أن الجغرافيا تحكم اختيارات أوروبا في ما يخص استيراد الغاز. فهي لا تستطيع استيراده من أستراليا مثلًا، والتي تصدر 99% من غازها لآسيا، وذلك لأن روسيا هي الوجهة المنطقية للأوروبيين.
كما يبدو الخيار القطري – مثلاً – بعيداً جغرافياً، وربما صعب المنال بسبب العديد من المعوقات والصعوبات، بينما يصبح الغاز الإسرائيلي الأقرب، إذ يمتلك بالفعل نفاذية للبنية التحتية للطاقة في مصر، والتي تمتلك بدورها موانئ هي الأقرب للتصدير لأوروبا. ولذلك يصبح الاستيراد من “إسرائيل” مهماً وعملياً.
في هذا المجال، يمكننا التأكيد أن اتفاقات “إسرائيل” مع كل من الأردن ومصر أخذت بعداً سياسياً أكثر منه اقتصادياً، إذ كانت ضمن إستراتيجية أميركية لربط “إسرائيل” ودمجها بالاقتصادات العربية المجاورة (تبلغ تكلفة استيراد الغاز الأردني عشرة مليارات دولار على مدار 15 عاماً، ومع مصر 20 مليار دولار لنفس الفترة)، وجعل الدول العربية معتمدة على مستوردات الطاقة من “إسرائيل”، وتشبيك بنيتها التحتية بالبنية التحتية الإسرائيلية، بما في ذلك خط الغاز العربي الذي يربط مصر والأردن وسورية ولبنان ببعضها.
تلعب اتفاقات الطاقة بين “إسرائيل” وكل من مصر والأردن في صالح إستراتيجية أميركا لتثبيت التطبيع على الأساس الاقتصادي. ووضعت الولايات المتحدة ضمن إستراتيجيتها أيضًا إمكانية استخدام الغاز الإسرائيلي مستقبلًا لتقليل الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي، لكن منْ المستفيد الأكبر من اتفاق الاتحاد الأوروبي مع مصر و”إسرائيل”؟
يحقق الاحتلال الإسرائيلي، تقدماً في مجال الاندماج مع العالم العربي، بل يستخدم موانئ مصر لتصدير الغاز لأوروبا، وليس مجرد التصدير للدول العربية المجاورة. ورغم أن مصر تصدر كميات قليلة من الغاز أيضاً، فإن الطلب المحلي يحول دون رفع هذه الكميات أكثر من واقعها الحالي، والمقتصر على تصدير ما يقارب تسع مليارات متر مكعب، رغم أنها تستورد الغاز من “إسرائيل” نتيجة لاتفاقيات ملزمة بذلك.
وبحسب صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية، “وافقت “إسرائيل”، على ضخ غاز طبيعي بمليارات الدولارات إلى أوروبا عبر منشآت تسييل مصرية، في الوقت الذي أوقفت فيه روسيا الإمدادات وباتت القارة تتخبط لإعادة ملء خزاناتها شبه الفارغة. وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون جير لاين في القدس، قبل يوم من توجهها إلى القاهرة، إن مذكرة التفاهم التاريخية، والتي وقعها كل من وزيري الطاقة الاسرائيلي والمصري وممثلي المفوضية الأوروبية، تهدف إلى خلاص أوروبا من “ابتزاز” الطاقة الروسي. وقال إسحاق ليفانون، الذي شغل منصب سفير “إسرائيل” في مصر من العام 2009 إلى العام 2011، إن “هذا التعاون الفني العام، الذي يأتي لمساعدة أوروبا، التي نحن أقرب البلدان في المنطقة إليها، مهم للغاية”.
وتابعت الصحيفة، “بالمحصلة، إن مساهمة شرق البحر المتوسط بتأمين الغاز الطبيعي لأوروبا ستكون بمثابة كمية ضئيلة مقارنة بالإمدادات الروسية، لكنها ستكون جزءاً من استراتيجية الترقيع، والمتمثلة بتأمين الطاقة من مصادر عدة حول العالم، لسد العجز الذي خلفته روسيا.
وأخيراً، لا يمكن التيقن من أن حروب الطاقة الروسيّة الأطلسيّة ستنتهي مع خمود الجبهات العسكرية، بل قد تزداد حدة لتعود وتشعل جبهات عسكرية جديدة.
قائمة دول أكبر منتجي الغاز في العالم 2022:
المرتبة الأولى: الولايات المتحدة الأميركية. المرتبة الثانية: روسيا. المرتبة الثالثة: إيران. المرتبة الرابعة: قطر. المرتبة الخامسة: كندا. المرتبة السادسة: الصين. المرتبة السابعة: النرويج. المرتبة الثامنة: الاتحاد الأوروبي. المرتبة التاسعة: المملكة العربية السعودية. المرتبة العاشرة: أندونيسيا. |
ترتيب الدول المصدرة للغاز
فيما يأتي قائمة ترتيب الدول المصدرة للغاز الطبيعي حول العالم: روسيا وتصدر حوالي 238.1 مليار متر مكعب سنويًا. أميركا تصدر 137.5 مليار متر مكعب سنويًا. قطر تصدر 127.9 مليار متر مكعب سنويًا. النرويج تصدر 111.2 مليار متر مكعب سنويًا. أستراليا تصدر 106.2 مليار متر مكعب سنويًا. كندا تصدر 68.2 مليار متر مكعب سنويًا. الجزائر تصدر 41.1 مليار متر مكعب سنويًا. نيجيريا تصدر 28.4 مليار متر مكعب سنويًا. هولندا تصدر 28.1 مليار متر مكعب سنويًا. أندونيسيا تصدر 24.1 مليار متر مكعب سنويًا |