المونديال القطري، ومبارياته وأحداثه، على رأس أولويات واهتمامات أغلب الناس في العالم العربي، هذه الأيام. وهذا طبيعي، تماماً، فهذا حال أغلب الناس، في العالم أيضاً. ولا يعنينا تحليل الطبيعي، بل الكلام عمّا يمكن وصفه بالاستثناء العربي، أي الحقل الرمزي، والبطانة الدلالية، والتأويلات الأيديولوجية للمونديال القطري، في الحواضر والهوامش على حد سواء.
أوّل ما يتبادر إلى الذهن، في هذا الشأن، أن المونديال يمثل لحظة استثنائية في عالم (أعني العربي) لا تحظى فيه أفكار من نوع أهمية ومركزية وقت الفراغ والترفيه في حياة الإنسان بدلالات اجتماعية، وسياسية، وثقافية موحّدة، أو قيمة يعتد بها في بلدان مختلفة، وما تستدعي من قوانين وتشريعات وضمانات ذات صلة.
لا يصدق تعريف موحّد على وقت الفراغ، وكذلك معنى الترفيه. ثمة الكثير من التباين والتفاوت بين الحواضر والهوامش بطبيعة الحال، وثمة الكثير من التباين والتفاوت بين الحواضر، وفي حالات كثيرة بين مراحل مختلفة في حياة الحاضرة الواحدة نفسها.
فالقاهرة الناصرية، التي ازدهرت فيها المسارح، ودور السينما، والحانات، والمقاهي، والنوادي الرياضية، تختلف عن القاهرة المباركية، مثلاً. والواقع أن الخوف من مخاطر وقت الفراغ، ومكافحة الترفيه، ناهيك عن التشكيك في أهميته وضرورته (ما لم يكن مكرّساً لشؤون دينية) كانا في صميم مشروع التحالف الإخواني ـ الوهابي للاستيلاء على الفضاء العام.
ومن المفيد الإشارة، في هذا الصدد، إلى صور ونصوص فتاوى نشرها معلّقون في الأيام القليلة الماضية، على صفحات التواصل الاجتماعي، تحذّر من مخاطر ومفاسد كرة القدم، إضافة إلى كلام عن أشياء من نوع “الزي الشرعي”، وما يدخل في حكمه. كانت تلك الفتاوى متداولة حتى سنوات قليلة مضت.
وكالعادة، غاب المعنى السياسي والاجتماعي عن سياق كهذا، ولم يخدم نشر النصوص سوى تأكيد مبدأ ازدواجية المعايير بين ما كان وما هو كائن، بينما تتجلى الدلالة الحقيقية للتحريض على كرة القدم، وغيرها، في محاولة الاستيلاء على الفضاء العام، منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي، والتي كان من نتائجها، ضمن أمور أخرى، تدمير الحواضر نفسها.
لا يتسع المجال، هنا، للتفكير في، وتحليل، التجليات الاجتماعية، والجمعية، لمظاهر التديّن، على طريق، وبعد، الاستيلاء على الفضاء العام، بما في ذلك ممارسة الطقوس الدينية في الميادين العامة، وتحويل “الفقهاء إلى ورثة للأنبياء” (بلغة القرضاوي) أي تجريد كل ما عدا الفقيه من جدارة الكلام في الشأن العام.
على خلفية كهذه، نفهم خصوصية الهوس بالمونديال في العالم العربي، في عالم قاحل يشكو ندرة، وفي حالات كثيرة، التحذير مِنْ، وحتى تحريم، وسائل الترفيه غير التقليدية، أي ما هو أبعد من المقهى، ومن الرياضات المحلية (التي تثير خوف الحكّام، أيضاً، لأنها مناسبات يجتمع فيها الناس في مكان واحد، فكّروا في الالتراس المصري، مثلاً). ومع ذلك، تظل خصوصية الهوس، ودلالته، ناقصة ما لم نر أشياءً إضافية من نوع:
أن المونديال لا يمثل لحظة استثنائية في عالم قاحل وحسب، بل ويحظى الإقبال عليه، والكلام عنه، وحتى السفر للاستمتاع به عن قرب، بموافقة وتشجيع الحكّام أنفسهم في الحواضر والهوامش على حد سواء. وبما أن الحكّام هم الذين يدفعون للدعاة، أيضاً، فلن ينبري أحد من هؤلاء للكلام عن المونديال بطريقة سلبية. وقد يجد البعض، وبتشجيع من الحكّام، أيضاً وأيضاً، في المونديال فرصة “لإقناع” غير المسلمين باعتناق الإسلام. وعلى اليوتيوب فيديوهات مفبركة تصف كيف سمع جمهور غير المسلمين صوت المؤذن، فهرعوا إلى المساجد.
وما يجدر الكلام عنه، هنا، مسألة تبدو ضائعة، ومنسية تماماً، في كل ما يُقال عن المونديال، وهي (بقدر ما أرى) مربط الفرس، ومفتاح اللغز. فتشجيع الحكّام لإقبال مواطنيهم على المونديال (وأنشطة مشابهة، مع الحفاظ على النسبية والتباين بين مجتمعات مختلفة) لم ينجم، في الغالب، عن استجابة لمطالب هؤلاء، واعترافاً بالحق في وقت الفراغ، وضرورة الترفيه، وإشباعاً لهذا وذاك.
نجم التشجيع عن اكتشاف مُرعب، بعد ثورات الربيع العربي، للعلاقة بين معاناة الكبت، وندرة وسائل الترفيه، في مجتمعات قاحلة، والثورة على النظام. معنى هذا الكلام أن خوف الحكّام من مواطنيهم (رعايا هي الصفة الأكثر تمثيلاً) يمثل المحرّك الرئيس لكل هذا القدر من التسامح الرياضي، والتشجيع السخي، والمرونة الأخلاقية المفاجئة.
وأخيراً، المونديال في ضيافة “دولة عربية”، موّلته ونظّمته و”أبهرت” به العالم. وهذه هي حبّة الكرز على سطح الكعكة الشهيّة. ثمة الكثير مما يُقال، في معالجات لاحقة. وأعترف، في هذا السياق، بأن كلام عبد الله القصيمي عن العرب بوصفهم “ظاهرة صوتية” لم يفارقني منذ بداية المونديال، فلن تجد وسيلة إيضاح لمعنى هذا الكلام أكثر دلالة من المونديال القطري.
وجد أشخاص يصعب حصرهم في المونديال القطري الدليل الحي على حياة وحيوية القومية العربية (التي لا يعكر صفوها سوى جنوح الحكّام)، وأعاد آخرون (أغلبهم من الفلسطينيين) اكتشاف مركزية القضية الفلسطينية، حتى دون تحفّظات تبرر تفاؤل الإرادة وتشاؤم الذكاء (بلغة غرامشي)، في زمن صعود الإبراهيميين، وانهيار الحواضر العربية، وتسديد أكثر من طعنة غادرة إلى ظهور الفلسطينيين.
وبقدر ما أرى، يمثل المونديال القطري مناسبة لا تعوزها الدلالات للكلام عن مكر التاريخ. فالقومية الكروية، تبدو بديلاً مثالياً، في الزمن الإبراهيمي، للقومية السياسية. فمن فرّقتهم السياسة، يقول اللئيم: ألا يُوحّدهم المونديال؟
————————————-
تنويه: ينشر سيرجيل هذا النص بإذن خاص من الكاتب، وهو منشور في جريدة الأيام الفلسطينيّة كما على صفحته الشخصيّة.