الصيغة التي أوقفت الجولة الأخيرة من المواجهة الإسرائيلية – اللبنانية لا تعدو كونها اتفاقاً لوقف إطلاق النار (وقف الأعمال العدائية). وهي بهذا الشكل ذات صفة مؤقتة على غرار ما حدث في العام 2006 حينما تم التوافق على القرار 1701 لإنهاء حرب تموز بالطريقة التي باتت معروفة. ومع أن ظروف العام 2024 تختلف كثيراً عن مثيلاتها في العام 2006، فإن الاتفاقية الأخيرة ستستمر على قدر ما تلتزم بها الأطراف المعنية، بما في ذلك الوسيط الأميركي الأساسي ومساعده الفرنسي الفرعي… من دون أن ننسى بالطبع الدول الإقليمية المؤثرة أمثال إيران ومصر والسعودية.
أمامنا نص رسمي وزعته الإدارة الأميركية في إشارة ملفتة إلى دورها الفاعل في صياغة الاتفاق. وقد أحيط النص بسلسلة من التصريحات والمؤتمرات الصحافية الإيضاحية على أعلى المستويات، كدليل آخر على الأهمية التي تعلقها واشنطن على هذا “الإنجاز”. وفي مثل هذه الحالة يُحاول القادة أن يمرروا إلى الجمهور العريض تفاصيل إضافية لم يكن بالإمكان تضمينها النص الرسمي خشية من بروز أعتراضات قد تنسف المساعي “الحميدة” من جذورها! وهذا يعني أن التصريحات من خارج النص تحتمل تأويلات وتفسيرات يمكن أن يستخدمها أي طرف وفق اعتبارات سياسية محلية.
شخصياً، لا أجد أنني في موقع يسمح لي بتشريح وتقييم بنود اتفاقية وقف إطلاق النار. ولا أظن أن غالبية المحللين السياسيين يملكون المعطيات الدقيقة الضرورية لإنجاز قراءة رصينة ومتوازنة للمعلن ولغير المعلن في الاتفاقية. وأخطر المظاهر الإعلامية التي هيمنت على وسائل التواصل الاجتماعي، ظاهرة التسرع في إطلاق الأحكام القطعية: الإنتصار الناجز أو الهزيمة الماحقة… ولا مجال لأية منزلة بين هاتين المنزلتين المتناقضتين. ولعل السبب الأساسي الذي يدفعني إلى هذا القول يكمن في أن معظم الاتفاقات التي يتواجد فيها وسيط قوي، تنتهي بنص مشترك وبعدد من التفاهمات الثنائية سواء اعتبرت ملحقاً رسمياً أو مجرد ضمانة من طرف إلى أخر. ومما لا شك فيه أن الولايات المتحدة أبرمت تفاهمات مع أكثر من طرف من أجل التوصل إلى الصيغة المعلنة! وبكلام أوضح: إن واشنطن التي أدارت الحرب الإسرائيلية على غزة وعلى لبنان… أدارت أيضاً المفاوضات المؤدية إلى وقف إطلاق النار (وقف الأعمال العدائية).
لا أعتقد أن نقاشنا القومي سيكون مفيداً في هذه المرحلة إذا ما جعلنا تفكيرنا الاستراتيجي يتمحور فقط حول سردية الانتصار أو الهزيمة، بمعزل عن الأجواء العامة السائدة في بلادنا والعالم العربي. فثمة توقعات ترقبناها جاءت الأحداث وأحبطتها، وثمة أفعال لم تكن في الحسبان حققناها بجدارة حتى عندما تخلخلت التوازنات. يمكننا أن نعرض كثيراً من السلبيات، وغيرها من الإيجابيات… فلا يتقدم فهمنا للأمور ولا يتأخر!
من ثوابت العمل السياسي، والحرب هي السياسة بأدوات عنفية، أن يكون هناك تقييم بعد كل حدث بهدف المحاسبة والإستفادة من التجارب والخبرات. لكن للتقييم شروطه ومستلزماته وأوقاته والجهات القادرة على القيام به. وأعتقد أننا لسنا الآن في وضعية التقييم المستقل والشفاف، بل المطلوب منا إعمال التفكير في مجال آخر، ألا وهو الاستعداد للجولة المقبلة. ذلك أن وقف إطلاق النار (وقف الأعمال العدائية) على الجبهة اللبنانية أخذنا عملياً في اتجاهات تختلف عما عهدناه خلال العقدين الأخيرين. وإذا كانت هناك ضرورة لورشات عمل منظمة، فإن الضرورة أشد إلحاحاً اليوم أكثر من أي وقت مضى!!