(لا يمكنك إزالة حبة رمل واحدة من مكانها دون تغيير شيء ما عبر جميع أجزاء الكون اللامحدود – يوهان غوتليب فيخته)
أعيدوا لنا أميركتنا. كانت تلك إحدى التغريدات التي أطلقها مواطن غير مرئي من مكان ما في أميركا عشية الانقضاض الكبير على تلة الكابيتول في واشنطن، ربما أطلقها من مزرعة أو حقل أو مصنع أو معمل أو أيّه ورشة. وقد تكون لإفريقي أميركي أو أبيض أو آسيوي أميركي. تغريدة كانت تحمل في طيّاتها، ذلك اللايقين بالغد، العماء، واللا أمل. هو في تغريدته، يشبه حتماً الملايين من الأميركيين الذين لم يعودوا يعرفوا أي إيقاع للرقصة التي سوف يرقصونها في المستقبل الذي ستُفتح ستارته بعد غد؟
يمتطي المشهد ذلك الزحف الذي لم تلبسه وسائل الاعلام الأميركية أي ثوب ملون، أسوة بالثورات التي دعتها برتقالية والتي كانت تحاصر كابيتول برلمانات بلادها، مدرعة ومسلحة حتماً بتأييد أميركي استثنائي وأخلاقي تستدعيه أميركا عندما تقتضي حاجات الملاحة، في أوكرانيا أو فنزويللا، تشيللي أو بوليفيا، هونغ كونغ أو السلفادور، وقبلها في ذلك القوس الذي يمتد من بحر البلطيق إلى البلقان جنوباً، عندما كانت غريمتها الإيديولوجية تسيطر على كل أوروبا الشرقية.
ما ابتدأ في الكابيتول هيل، لن يتوقف حتماً في الكابيتول هيل، مع ملايين اليائسين الذين رأوا في ترامب شيئاً وحيداً جيداً لا غير، وهو أنّه يخاطب هؤلاء اللا مرئيين بلغة مختلفة عن لغة أنصاف الرماديين الذين يحتلون قمة الكابيتول منذ عقود مضت كآلهة الأولمب. كل مستوى الحياة ينحدر وينهار، الحلم الأميركي يتداعى، خطوط الفقر أصبحت فاقعة، النظام الطبي الذي يختار مرضاه، الأميّة التي أصبحت سمة مدرسيّة للثانويات. معدلات الجريمة المنظمة والمنفلتة، تحولت إلى رقم قياسي. إطلاق النار الجماعي، الأسلحة الفردية التي تتكدس في أدراج طاولة معظم الأميركيين كنمط حياة. كل هذا و(نظام المؤسستان) باقٍ بخلود كوني!!
أميركا المحطمة، المتآكلة، المنقسمة على ذاتها، والتي عوضاً عن بنائها جدارها الكبير في الجنوب مع جارتها اللاتينية، بنت بدلاً عنه آلاف الجدران في الداخل بين مدنها وغيتواتها التي ترسم حدودها بطرف السكين. يكفي أن تستدعي الاسم لتعرف هوية قاطنيه أو انتمائهم العرقي، من هارلم السوداء إلى بروكلين الإيطالية، في معظمها، إلى شاينا تاون، وهذا فقط في نيو يورك التي تقدم شكلاً نمطياً عن المدن الأميركية التي أصبحت سجينة الغيتوات، والتدخل الحكومي يستتبع بالضرورة هوية القاطنين هناك، ومن يحصل على الخدمات هم الأكثرية المرئية، أما الأقليات فتباً لها، هي كلّها لا مرئيّة!!
تأثير الفراشة هنا أن ما ابتدأ في الكابيتول لن يظل في الكابيتول، وبأن تلك المظاهر، التي يحاول الاعلام طمرها وإزاحتها من المعرفة العامة، حول المئات من تنظيمات الميلبشيات اليمينية المتطرفة والمسلحة حتى تيجان أسنانها، والتي تنبت كالفطر في كل منعطف شارع وعند كل عمود إنارة، والتي تطرح عليك سؤالاً منطقياً هو: إذا كان أحد ما يعلق بندقيته فوق عتبة بابه، تُرى كم من الوقت سوف يمضي قبل أن يستخدمها؟
اجتياح الكابيتول كان رمزياً. كان تعبيراً عن قهر جمعي إزاء مركز تشريعه، إزاء قلب الأمّة، وهؤلاء لا يمثلون إلاّ الأقليّة غير المرئية. ماذا لو تحالف هؤلاء اللا منتمين مع المنشقين والمارقين الجمهوريين الذين يمثلهم الآن أحد عشر سيناتوراً(يقلون أو يزيدون بحسب نبض اللحظة) أعادوا تموضعهم داخل / خارج الحزب الجمهوري، والذين يمثلون قلب البؤرة الإنقلابية التي ستستثمر في الإيديولجية الترامبية، ويمثلون كتلة شعبية وازنة، تمهد للنفخ في النار، وتقود مواجهة الشارع للشارع الآخر؟ في استحقاق المواجهة ليس مع الحزب الديموقراطي ذاته فقط، وإنما مع شارعه؟ أحد هؤلاء الشيوخ استعان بمقتطفات لأدولف هتلر !!!! قبل اسبوعين فقط لم يخطر ببال أحد، أن أحداً في أميركا يجرؤ على استحضار هتلر علانية؟ واستحضاره لم يكن عبثيّاً، كان استحضاراً للمبشر بتفوق العرق الأبيض وتاجه الآري.
الآن، يخطط الديموقراطيون لمنح أحد عشر مليوناً من المهاجرين غير الشرعيين الجنسية الأميركية، ويخططون لإعلان بورتوريكو الهيسبانية أو التي أغلبيتها من الناطقين بالإسبانية كلغة أم، ولاية أميركية. كما يخططون لتوسيع المحكمة العليا على ان يكون كل القضاة الجدد المعينين من الديموقراطيين، وخصوصاً أنهم يتمتعون بالأغلبية في كلا المجلسين. هذا يعني في قراءة واضحة أنَّ الجمهوريين الذين يمثلون البيض في غالبية مؤيديه لن يتمكنوا بعد الآن وفي اي وقت قادم أن يحصلوا على رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، ويعني بالتالي تآكل سلطة الرجل الأبيض الدي بات الآن يعرف أن المستقبل سيحيله بدون أية مبالغة، إلى أقليّة.
ربما كان انتخاب أوباما هو الذي أوقظ كل تلك المشاعر المختبئة، وأطلقت صفارة الإنذار حول سيطرة الرجل الابيض وتآكل نفوذه في الداخل الأميركي. وربما كان ذلك أحد المحرضات التي حفزت قطاعاً واسعاً للذهاب إلى صناديق الاقتراع لانتخاب ترامب، رغم أنَّ المحرض الأساسي، كما أراه، أنَّ ترامب مثّل للأميركيين المؤيدين له (اوتسايدر) منشق أو مارق أو لا منتمٍ إلى المؤسسة الأميركية السياسية الرسمية وناقم عليها. وفهم الجمهور أكثر لغة ترامب الفجة والوقحة والبسيطة في آن واحد. لقد وصل ترامب إلى قلوبهم وعقولهم معاً وكان هذا سبباً في انتخابه. لكن الإطاحة به الآن ليست نهاية الرحلة، إنما يمكن التأكيد أن جحيم المواجهة قد ابتدأ الآن. الترامبية كانت هناك، كانت قبل ترامب ورئاسته، وربما كانت في وجدان الكثير من الأميركيين،والفارق الوحيد أن ترامب أعلنها.
أميركا تواجه مأزقها، ربما حقبة بايدن ستكون أكثر الرئاسات التي تمر بعواصف داخلية، باستثناء حقبه لينكولن، الذي استطاع في نهاية الحرب الأهليّة من هزيمة الانفصاليين واستعادة وحدة الولايات المتحدة الأميركية، فهل سيستطيع بايدن أن يحافظ عليها؟
مره أخرى، أميركا تمشي على حافة السكين!