إنَّ مهِمَّة الباحثين في العلوم السِّياسيَّة ليست رفع معنويات الأمَّة، ولكن حماية وعيها واستشراف الآفاق ووضع التَّصورات، وإن كان ذلك يتضمن بالتَّأكيد الحفاظ على المعنويات من خطر الانهيار، فإنَّ أعمق صيغة لذلك، وأكثرها فائدة هي تحديد شكل وزمان الانتصارات والإنجازات الحقيقيَّة بمعيار الواقع، وليس بمقاييس الأنا المنكسِرة السَّاعية للهروب نحو الأمام. لذلك سأسعى من خلال هذه القراءة إلى تجنُّب الخطاب التَّعبوي، وسأحاول رصد التَّطورات من خلال المعطيات، وقراءتها بصورة منهجية لا عاطفيَّة، برغم أنَّ اللحظة التّاريخيَّة التي نعيشها جميعنا، مشحونة بالمشاعر حتَّى الانفجار، وهذا مكمن الخطورة في التَّعاطي العقلاني معها، حيث كان لي تجربة حوار بداية المعركة الحاليَّة مع مجموعة من الأصدقاء الكتّاب والمتابعين، غلب على رأيهم فيها القلق من التداعيات الماثلة أمامنا بوضوح، فعبَّروا عن ذلك بالإنكار والهروب إلى الأمام. فعند الحديث بجدّيَّة عن إمكانيَّة دول محور المقاومة على فتح المواجهة الكبرى في هذه اللحظة التّاريخيّة العصيبة، يجب أن نتريَّث قبل أن نطلق الأحكام والوعود والتَّوقعات، خاصّة إذا كنا نصنع رأياً و مشورة انطلاقاً من المعطيات لا من الرَّغبات، لأن الباحث السّياسي لا يحمل على كاهليه مهمَّة حماية الوعي الجمعي من صدمات التَّطورات غير المتوقعة (لأنه وضع أمام توقعات تعبوية مُضلِّلة) فحسب، ولكن تقديم الرَّأي الدقيق للقادة وصنَّاع القرار، الذين لا تكتمل إدارتهم إلا باتِّخاذ المشورة الصّادقة المبنيَّة على المعلومات وتحليلها.
أسرى للمشهد الأوَّل
من الواضح أنَّ جزءاً من العقل العربي اليوم وخلال الأسابيع الثلاثة التي مرَّت منذ انطلاق عملية “طوفان الأقصى” البطلة، اختار بطريقة لا واعية التَّمترُسَ في المشهد البطولي الأول للعمليَّة، حيث تراكمت مشاهد التَّقدم الشجاع لعشرات المقاومين المدربين جيداً جداً، إلى داخل الأراضي المحتلة في محيط القطاع المحاصر منذ سنوات، واقتحام عدد من المراكز والنّقاط العسكرية للعدو، وتدمير الكثير من الآليات، وأسر عدد كبير من الإسرائيليين (الجميع مسلح وتحت الخدمة في الكيان) في مشاهد غلب عليها حال الارتباك والذُّعر، لا بل والانهيار النَّفسي لدى جنود وضباط العدو، الذين تمَّ جرُّهم من رقابهم للمرّة الأولى ربما منذ بداية هذا الصِّراع الوجودي الكبير.
لم يعتد العرب على مشهد الهزيمة والهروب لا بل والاستسلام المُذِل لدى المستوطنين، ولذلك شكَّلت هذه الصُّورة المشهديَّة محطَّة صارخة في وعيهم (كما شكَّلت هزة عميقة جداً عند مجتمع العدو) دفعتهم للوقوف عندها والبقاء فيها لأيام، وربما لأسابيع حيث ما يزال الكثيرون أسرى لها، ولنشوتها. ولكنَّ الخروج من تلك اللحظة التَّاريخيَّة في الحقيقة كان مهمَّة مستحقَّة وربَّما الأكثر أهمّيَّة خاصَّة لدى الجمهور المقاوم، ولدى قادته الميدانيين والسّياسيين، والذين أعتقد أنَّ معظمهم يمتلك من الحكمة والذَّكاء والخبرة، ما يجعله يدرك ما أذهب إليه هنا تماماً، لا بل وربَّما يسبِقُني إليه.
إنَّ مهمَّة التَّحرُّر من مشهدية اليوم الأول البطوليّة ليست سعياً نحو الهزيمة، ولكنَّها حماية للوعي العام من الانكسار على جرف المستجدّات القاهرة التي تلت ذلك المشهد، وحرص على صناعة القرار العسكري والسِّياسي من التَّغافل عن مستوى الرَّد المتوقع أو غير المتوقع من قبل العدو.
طبيعة الرَّد وآفاقه
ليس غريباً توقع الرَّد القاسي من العدو، ولا أحبِّذ استخدام تعابير “أممية” مثل “الرد غير المتكافئ” لأنَّها تحمل في طيَّاتِها معاني المساواة بين الجلاد والضَّحيَّة، وهذا أكثر ما أحاول مواجَهته استراتيجيّاً. ولكنَّ طبيعة الرَّد التي لم يستوعبها الكثيرون حتّى اللّحظة، هي التي لم تكن متوقَّعة ليس لمشكلة في العقل العربي الذي لم يتوقعها، ولكن لكارثة في العقل الغربي الذي رعاها وأمَّنَ لها الفسحة الزمنيَّة، فالرَّد بات واضحاً، والأيام القليلة القادمة ستثبت ذلك مع الكثير من الأسى والأسف، وهو تدمير كافة أبنية ومرافق قطاع غزة، وتهجير كامل سكَّانه.
برغم أن الكثيرين لا يستطيعون تصديق ذلك، ويعتقدون أنَّه “غير قابلٍ للتحقيق” ولكن الأرقام والمعطيات هي التي تتحدَّث:
– يوم 26 تشرين الأول، أعلن المكتب الإعلامي في غزة أنَّ “الاحتلال دمَّر حتَّى تاريخه أكثر من 183 ألف وحدة سكنيَّة في القطاع” وهذا الرَّقم لمن لا يعلم هو نصف عدد منازل القطاع، الذي يضم نحو 370 ألف منزل يقطنها أكثر من مليوني فلسطيني. هذا يعني أنَّه بعد ثلاثة أسابيع من اليوم (تدمير تلك المنازل استغرق20 يوم) سيكون العدو قد دمَّر كامل أبنية القطاع إذا حافظ على وتيرة التَّدمير، وهو كما يعلم الجميع يتعدى قصف المنازل إلى المنشآت الحيويَّة بما فيها المشافي، وبصورة علنيَّة لا يكترث فيها لأيِّ رادِعٍ أو مانع.
– يوم 17 تشرين الأول صدر عن السَّيد علي خامنئي ما يمكن اعتباره أعلى تصريح من قبل دول حلف المقاومة، حيث أكَّدَ أنَّ “استمرار الجرائم الإسرائيلية سيضع الكيان في مواجهة لن يصمد فيها أمام المسلمين” وفي مساء ذلك اليوم قام الكيان بقصف مشفى المعمداني بمن فيه من مرضى ومصابين وكوادر في جريمة تعتبر من أكبر جرائم الإنسانيَّة (برغم أنني شخصياً أعتبر كل اعتداء علينا جريمة كبرى) في محاولة لتحدّي القوى والدول المقاوِمة، أو جرِّها لمواجهة محدَّدة، يبدو أنَّها لم تقرر الدخول فيها حتى اللحظة، وهذا ما يجب النَّظر إليه بتعقُّل وبعين من الوعي والتَّبصُّر، لا بنظارة من الإنكار.
– قام العدو بعد ذلك بقصف مطاري حلب ودمشق بشكل متعمد ومستمر، وصلت وتيرته لمرتين في نفس اليوم، لمنع استخدام المطارين الذين يبدو أنَّهما من أكثر أسباب وجع العدو وقلقه. ولكنَّ ذلك أيضاً يمكن أن يُقرأ، كتحدٍّ لدول حلف المقاومة.
– في ليلة 24 تشرين الأول قامت طائرات الاحتلال بقصف مدرسة الجنينة التَّابعة لوكالة الأونروا في رفح، بمن فيها من النّازحين.
– مُعدَّل القتل اليومي لأبناء شعبنا العربي الفلسطيني في غزة يقترب من 400 شخص يوميّا، مع تصعيد أيضاً في الضَّفَة حيث وصل عدد الشهداء أكثر من 110 حتى تاريخ كتابة هذا المقال.
هذه الكمّيَّة من الإجرام والقتل لم يشهدها الصِّراع ربَّما منذ نشأته، حتى أنَّ وزارة الدّاخلية في غزَّة أعربت عن ذلك يوم 24 تشرين الأول حيث قالت “إنَّ الكثافة الناريَّة المستخدمة من قبل الاحتلال لم يسبق لها مثيل” ما يعني أنَّ طبيعة الهجوم الإسرائيلي (وليس الرَّد) نوعيَّة وهي إما هائجة تضرب بدون وعي، أو أَّنها تسعى بجديَّةٍ لخلق واقعٍ جديد، من خلال إفراغ القطاع من سكانه.
الهدف من هجوم العدو وحيثياته
إنَّ هاجس العدو الرئيس هو المقاومة، وهذا منطقي فهي التي تحرمه من رؤية مستقبله في المنطقة، خاصَّة وأنَّ كل القوى المقاومة تُجمِع على أنَّ فلسطين يجب أن يتم تحريرها “من النَّهر إلى البحر”، وهذا في الحقيقة هو جوهر الصِّراع القائم، فالمقاومون لا يقاتلون من أجل دولة فلسطينية كانتونيَّة على مساحة بضع كيلومترات، كما أنَّ الكيان نفسه أيضاً في حقيقة توجهاته يسعى للقضاء على كل الكتلة السكانيَّة العربيَّة في فلسطين، وإلا ما معنى الاضطهاد الممنهج الذي يتعرض له “فلسطينيو 48” والقضم اليومي لأراضي الضَّفة!
الاحتلال يدرك تماماً استحالة خيار “القضاء على المقاومة من خلال عملية بريَّة” وهذا وإن كان يصعب على معظم المحللين العرب فهمه، حيث يذهبون باستسهال إلى خيار تسفيه العدو ووصمه بالغباء، وهي آلية نفسيَّة دفاعيَّة تلجأ لها الشُّعوب التي تعاني من خسارات تاريخيَّة، ولكنَّ العدو يعلمُ مثلنا أنّهُ ليس ثمَّة مثال واحد في التّاريخ عن جيش محتل استطاع استئصال مقاومة شعب مقاوم من خلال الاقتحامات الميدانيَّة، لا بل إنَّ المحللين العرب أنفسهم ظلوا على مدى العقدين الماضيين يحدثوننا عن “الجيل الرابع” للحروب، حيث تلجأ القوى الغربيَّة لتدمير الدول والجيوش عن بعد، حتى لا تتورط بالتَّدخل الميداني، فلماذا سيتغيَّر الوضع الآن!! وكيف سيتمكن العدو من الاستمرار في القصف والتدمير عند “الالتحام الميداني” الذي سيحرمه من إمكانية القصف، وهي أيضا فكرة يكرِّرُها المحللون العرب ويفترضون أن العدو وحده ليس منتبهاً لها…!
إنَّ العدو يعلم أنّه لا يستطيع اقتلاع المقاومة من قلب بيئتها الشَّعبيَّة التي لا تحتضِنُها فحسب، ولكنَّها تولِّدُها أيضاً، ولذلك هو وضع تصوراً أكثر إجراميَّة وأقل خسائراً على المدى القريب، وهو مخطط تدمير كامل أبنية القطاع. هذا التدمير الشَّامل سينتج عنه على المدى المتوسط نفس التَّهديد المصيري الذي تشكله المقاومة بالنِّسبة للعدو، وهنا يقاتلنا بسلاحنا نفسه، وهو “التهجير”.. تهجير البيئة الحاضنة والمولدة للمقاومة، وهكذا ستتلقى المقاومة الضربة الأكبر لها في هذا الصراع، بينما يلقي العدو بعنوان “الاقتحام البري” للاستهلاك والمشاغلة بينما يتابع تنفيذ جريمته.
قد يبدو هذا الكلام قاسياً لدرجة ميل البعض للهروب منه إلى الإنكار، ولكن ذلك لن يغيِّر شيئاً في الواقع.. والواقع هو ما يلزم في صناعة الرأي والقرار، وليس رغباتنا حوله.
انجازات نوعيَّة.. ولكن..
قد يبدو بالنِّسبة لقارئ متعجِّل أنَّ الأفق مسدود تبعاً لما سلف، ولكنَّ الواقع يخبرنا أيضاً بإنجازات كبيرة تراكميَّة حقَّقتها المقاومة الفلسطينيَّة خصوصاً والعربيَّة عموما، وهي:
-عمليَّة طوفان الأقصى بحد ذاتها هي تطور نوعيُّ غير مسبوق، خاصة بعدد خسائر الأرواح لدى العدو التي لم يتعرض لها منذ 50 عام (في حرب تشرين 1973)
– بعد أيام من بداية المواجهة أعلنت وزارة الخارجية الألمانية يوم 10 تشرين الأول أنَّ “أكثر من 5000 إسرائيلي من أصول ألمانيَّة يقررون العودة إلى ألمانيا” وهذا ليس إلا رقماً صغيراً من جهة واحدة، يخفي وراءه إقبالاً عاماً على الهجرة العكسيَّة، والتي هي بالحقيقة السلاح الأكثر مضاء بيد العرب.
– من أهم التَّطورات النوعيّة التي لا تحظى بالاهتمام هو التعود على اشتعال جبهات المقاومة على عدة محاور معاً، وإن لم يكن مستوى التصعيد فيها متكافئاً، ولكن المقاومة اللبنانية خسرت حتى اليوم أكثر من 50 شهيداً، وهذه ربما أهم جبهة تحركت وواكبت، كما أنَّ عمليات قصف القواعد الأميركية المتواترة والتي تصاعدت في سوريا والعراق مع المواجهة، إضافة للقصف اليومي الذي تقر به “إسرائيل” من الحدود السوريَّة مع الأراضي المحتلة. هذا مشهد جديد ومؤثر جداً في بناء المستقبل.
– سقوط الأسطورة التي كان الغرب والكيان يروجون لها، وكان الإعلام العربي يرددها بسذاجة، وهي “أهميَّة العنصر البشري لدى الكيان الحريص على مواطنيه” بينما أثبتت التطورات أنَّه لم يأبه بسقوط ألفي قتيل وعدد كبير من الأسرى.
– استمرار قدرة المقاومة الفلسطينية على قصف كل مدن الكيان حتى تاريخه، وهذا وحده يشكل التحدي الأبرز للعدو.
– سلامة البنية التنظيمية والعملياتيّة لتشكلات المقاومة في فلسطين، حتى أن الاحتلال نفسه لم يتحدَّث عن أي “إنجاز” له في هذا السِّياق.
قال الأب مانويل مسلم في اتصال هاتفي معي يوم 25 تشرين الأول ما يلي:
“غزة تعاني من القصف الوحشي للأسف، ولكن جيش غزة في أمان، ولم يطله الأذى، هو محصن تحت الأرض ولذلك يخطط العدو لإبعاد السكان عن القطاع… هذه الجريمة النكراء نحن الفلسطينيون سنتصدى لها بكل ما أوتينا من قوة، وليس لدينا خيار سوى الشَّهادة أو النَّصر”
في هذا السِّياق لجأ الكثير من المحللين إلى إطلاق التَّهديدات نيابة عن الدول والقوى المُقاومة، وكان لي رأي هنا موجزه كالتّالي:
سوريا بالكاد تلتقط أنفاسها من تفاقم الأوضاع فيها والجبهات المشتعلة داخلها منذ 13 عام، وهذا يضعها في موقف من الحكمة فيه عدم التورط في فتح جبهة إقليميّة، والاكتفاء بدعم وتمكين المقاومة في كل مكان حولها وفيها، ولا يجب أن ننسى أنَّ سوريا نفسها تلقت حرب تدمير عالمية على مدى أكثر من عقد، من أجل ثنيها عن دعم وتبني المقاومة كنهج وكقوى وأفراد.
العراق مخترق أميركياً حتى النخاع، فالدولة فيه هي نتيجة التركيب الأميركي أولاً.
المقاومة اللبنانية تعاني انقساماً شاقولياً عميقاً داخل لبنان، لا بل إنَّ حزب الله يدرك أنه لديه أعداء وراء ظهره جاهزين للانقضاض عليه حالما تشتعل المواجهة بينه وبين الكيان.
إنَّ المطلوب الآن هو العمل على عكس مسار تحقق أهداف العدو في تهجير السُّكان، وهذه مهمَّة ليست يسيرة كما يبدو من واقع الحال، لأنَّها تستلزم تدخلاً دوليّاً لم يحدث، كما أنَّ تأخيره لأيام إضافية سيجعل منه أمراً نافلاً لا نفع منه. أمّا العمل الاستراتيجي الأكثر أهميَّة هو استكمال وتصعيد حلقات المقاومة في لبنان وسوريا والعراق، وهنا لا يمكننا إغفال ظاهرة أيضاً كانت مؤثرة جداً في المشهد، وهي عدم انتفاض بقيَّة الشَّعب الفلسطيني في داخل جغرافيا فلسطين في 48 أو في الضَّفة، وهذا أمر مستغرب لا يمكنني بحال من الأحوال مصادرته أو إطلاق الأحكام فيه، ولكنَّهُ كان لافتاً ويرفع الكثير من إشارات الاستفهام والتَّعجُّب، حيث أن توقع الرَّد الفلسطيني كان يتقدَّمُ على المطالبة بالرد العربي والدولي!
28-10-2023.