نفهم – وقد نتفهم – أن ينحاز البعض إلى الجانب القومي الروسي أو إلى الجانب الأوكراني المدعوم من الحلف الغربي الأطلسي – والذي تقليدياً يقف ضد قضايانا ودمّر بلداننا وعواصمنا – في الحرب الدائرة الآن على الأراضي الأوكرانية، فحق الناس في التفكير والاختلاف واتخاذ الموقف المناسب حق طبيعي ومحترم، إنما المثير للعجب هو أن يتحول محلل أو “مثقف ما” على القنوات العربية والناطقة باللغة العربية أو على مواقع التواصل إلى بوق حماسي لهذا الطرف أو ذاك، “فتأخذه الجلالة” ويتهدج صوته ويسيل عرقه وكأنه أم العروس! فهذا يوجه لبوتين شتائم قاسية وسوقية لم يوجهها حتى لجزاري أطفال فلسطين ولبنان من العسكر الصهيوني، وآخر يتوعد الأوكرانيين ويشكك حتى بوجودهم كأمة تعددية ووطن معروف وعمره أكثر من ألف سنة! البعض يلجأ إلى الصمت والانسحاب ولديه الحق في هذا الخيار الشخصي، ولكن البعض الآخر لا يمكن إلا أن ينحاز كإنسان أولا، وككاتب نقدي ومستقل ليس لديه ما يخشاه أو يخشى عليه إلاَّ الحقيقة كما يراها.
الخلط بين القطب الأوحد والهيمنة
ثمة خلط فادح بين قضية القطب الأوحد والهيمنة الإمبريالية الغربية القديمة على العالم: فالبعض يكرر توقعاته بانتهاء القطب الأوحد بعد هذه الحرب، علماً أن القطب الأوحد ” أي استئثار أميركا وذيلها الأوروبي الغربي بالقرارات الدولية” الذي يتوقع البعض موته، كان قد مات وشبع موتاً منذ أكثر من عقد من السنوات، وعلى الأقل منذ صعود الصين ولملمة روسيا القومية لجراحها بعد تدمير الاتحاد السوفيتي، أي أن “القطب الأوحد” لم يعش طويلاً بعد تدمير الاتحاد السوفيتي، ثم عاد الوضع إلى مرحلة التعددية القطبية ولم ينتج عن مرحلة القطب الأوحد إلاَّ تدمير العراق واحتلاله في حربي 1990 ثم في 2003، ونشر السّم التطبيعي في المحميّات العربية الرجعية والمجوَّعة. بل إنَّ بعض المؤرخين والباحثين يعتقدون أن القطب الأوحد الدولي حالة لم تحدث وتتكرس قط حتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي مباشرة، بل كانت مجرد همروجة إعلامية أحدثها أساطين الإعلام الأوروبي والأميركي اليميني لا أكثر!
إنَّ زوال القطب الأوحد شيء حدث، وزوال الهيمنة الغربية الأميركية شيء آخر يعادلُ انقلاباً كونياً تاريخياً تتحرر بموجبه شعوب العالم من كابوس الهيمنة العنصرية الإمبريالية الغربية وقد يزول بسببه الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة وتسقط عشرات الأنظمة الرجعية المتخلفة المحمية بحاملات الطائرات الأميركية في الجزيرة والخليج وفي أماكن أخرى، وهذا الانقلاب الكوكبي يتطلب موازين قوى جديدة ومختلفة، وعملية تراكم عميقة في القوى الجيوسياسية على الصعيد الدولي حتى تزول بعدها الهيمنة الغربية الإنكلوساكسونية النواة، وذلك أمر يتطلب وقتاً طويلاً حتى يتم تفكيك الهيمنة وخاصة في وجهها الاقتصادي الدولاري الذي ما يزال قوياً ولكنها قوة هشة وعرضة للتصدع!
حرب لصد اختراق غربي عميق
العملية العسكرية التي أمر بها بوتين لن تكون أكثر من عملية صدٍّ لمحاولة خرق عميق قام بها التحالف الغربي الإنكلوسكسوني ضد روسيا واقتراباً مغامراً من قلبها عبر الحدود الأوكرانية – على طريقة تقدم الجيوش النازية نفسه خلال الحرب العالمية الثانية- بمحاولة ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو. وإذا كان من حق “روسيا الدولة” الدفاع عن نفسها ضد هذا الاختراق المعادي العنيف فليس من حقها مصادرة إرادة الشعب الأوكراني والشطب على وجوده بحجة الاختلاط القومي والتنوع التاريخي وتشويه التجربة السوفيتية في مراحلها الثورية الأولى قبل الانقلاب الستاليني الذي غيَّر جوهرياً طبيعة وتركيبة الاتحاد السوفيتي نفسه.
حين يقول بوتين إن وصول الناتو إلى حدود أوكرانيا يعني أن صواريخه لن تستغرق أكثر من بضع دقائق لتضرب قلب موسكو فهو محق عملياتياً.. إنَّ حق روسيا أو غير روسيا سواء كانت بقيادة دكتاتور قومي أو ديموقراطي ليبرالي أو اشتراكي أممي في الدفاع عن نفسها ضد الزحف والتطويق الغربي الأميركي أمر لا غبار عليه وحق مشروع لكل دولة يهاجمها الغرب الإمبريالي، حتى لو كان المستهدَف دولة رأسمالية تسعى لخط مستقل. أما افتراءات بوتين وتزييفه لوقائع التاريخ في خطابه الأخير في محاولة لتبرير دفاعه عن أراضي الإمبراطورية الروسية التي “فرط بها الشيوعيون السوفييت فوزعوها على الشعوب المجاورة لكي يحتفظوا بالسلطة” كما قال، فهذا كذب وافتراء وهو مهين للشعب الأوكراني، ويجب فضحه وتبيان الفرق الجوهري بين ثوريين عظماء صنعوا مجد روسيا السوفيتية وحكام قوميين استعلائيين من نوع بوتين!
بين حروب “الصدمة والترويع” الأميركية والأداء العسكري الروسي: الفضيحة هي فضيحة العسكرتاريا الأميركية الغربية! بعد رفع الطبقة الكثيفة من البروباغندا الحربية والأكاذيب والمبالغات المعتادة من رواية الحرب بنسختيها الروسية والأوكرانية، وبعد تنظيف رماد عويل زاعمي التنوير والحداثة الأميركية وهراء مقولات انتصار الحضارة الغربية النهائي على العالم، سنجد أمامنا فضحية كبرى مدوية وقد تكشفت وبشكل غير مقصود؛ إنها فضيحة القسوة والهمجية والعنف التي اعتدنا عليها من الآلة الحربية الأميركية والأوروبية الغربية في جميع حروبها ضد شعوب العالم، والتي كشفها الأداء العسكري المهني للجيش الروسي.
الأداء العسكري الروسي وسقوط البربرية الغربية
نعم، إنَّ الفضيحة الكبرى في هذه الحرب “حرب الاجتياح الروسي لأوكرانيا” هي فضيحة العسكرتاريا الأميركية والغربية الدموية وريثة الهمجية الحربية الرومانية القديمة، وابنتها العسكرتاريا النازية الألمانية التي أبادت شعوباً بكاملها، ثم انتقل من بقي حياً من علمائها واستراتيجييها بعد هزيمتها في أوروبا، إلى الولايات المتحدة ليصنعوا أرمادا القتل والتدمير الأميركية في عصرنا. فالعالم يتذكر دون شك كيف كانت أميركا وحلفاؤها الغربيون يبدأون حروبهم ضمن خطة “الصدمة والترويع” بحفل بربري لقصف عواصم البلدان المستهدفة بالصواريخ والغارات الجوية بعد تعطيل وسائل الدفاع المحلي؛ هكذا شاهد العالم هانوي وبعدها بغداد وبلغراد وطرابلس تشتعل على مدى أيام وليال، وتدمر فيها البنى التحتية والملاجئ بمن فيها من أطفال ونساء وعجزة. هنا سيكون ملجأ العامرية الشهيد في قلب بغداد مجرد مثال على طريق فضيحة الغرب الأخلاقية والحضارية المدوية لم يجرؤ أحد على المطالبة بالتحقيق فيها، بل إنَّ عملاء الغزاة الحاكمين ببغداد اليوم لا يطيقون التذكير بها وبشهدائها الأبرياء. فلا أحد يستهدف الآلة العسكرية المعادية في حروب أميركا في الأيام الأولى لأن الهدف الأميركي الغربي هو ترويع وإرهاب الإنسان العادي، المواطن البسيط، وحرمانه من حقه في الأمن والحياة والسلامة والغذاء والدواء وفي أن يكون خارج نطاق الصراع العسكري المسلح بين الجيوش!
الفضيحة الكبرى في هذه الحرب بين عدد من الفضائح الأخرى، هي فضيحة مَن حرَّض عليها ودفع الروس والأوكرانيين إليها دفعاً، بإغواء أوكرانيا “بجنة الناتو” ومعاداة جارها التاريخي والجغرافي والحضاري روسيا، وبمحاصرة روسيا ووضع قواعد الناتو المدمرة على مسافة بضع دقائق صاروخية من قلب موسكو، وحين وقعت القيادة الأوكرانية في الفخ – وهي بذلك تتحمل المسؤولية عن اخطائها ولا تلوم إلا سذاجتها وقلة خبرتها وثقتها بالضواري الإمبريالية عدوة الشعوب، حين وقعت خذلتها الولايات المتحدة وأوروبا الغربية وتركتها وحيدة، تواجه حقيقة الخراب والحرب، وفي هذا درس لكل المغفلين والذين يمنحون الثقة للساسة الغربيين المعادين للحياة والشعوب كما يقول تاريخهم.
الأداء العسكري الروسي – حتى الآن وكما ينقله ويؤكده حتى الإعلام المناهض لروسيا ولا ندري ما يخبئه لنا المستقبل – كان مهنياً ومنضبطاً إلى درجة ملحوظة وهذا بحد ذاته فضح دموية العسكرتاريا الغربية الأميركية فضحاً لا سابقة له، والأسباب التي دفعت إلى وقوع هذه الحرب تقف وراءها أطماع أميركا والغرب دون إخلاء مسؤولية الطرفين الروسي والأوكراني الرسميين من المسؤولية المباشرة والتنفيذية عن بدء هذه الحرب وإدانة مظاهر الغطرسة والاستعلاء القومي الروسي التي رافقتها والدوس على سيادة واستقلال أوكرانيا.
سؤال أخير أختم بهذه هذه الوقفة: ترى ما سبب غياب تظاهرات التضامن المليونية التي شهدناها في أوروبا الغربية والولايات المتحدة ذاتها خلال الحروب الغربية العدوانية التي شنت على العراق وغيره في هذه الحرب، ولم تخرج سوى مجموعات صغيرة ولا تكاد تذكر من المحتجين؟ هل تغير شباب أوروبا وأميركا المعادي للحرب والمدافع عن السلام وحرية الشعوب أم أن طبيعة الحرب وأسبابها قد تغيرت، واكتشف الشباب أن حكوماتهم وفي مقدمتها حكومتا واشنطن ولندن هي التي حرضت ودفعت كييف دفعاً الى آتون الحرب؟!