هذا السؤال يحاول أن ينصف تاريخ وتراث هذا الحزب العريق الذي تأسس في 31 آذار/مارس 1934، وقدم خيرة قادته شهداء على أعواد مشانق النظام الملكي الرجعي والأنظمة الانقلابية في العهد الجمهوري، وفي طليعتهم مؤسسيه الشهداء الثلاثة يوسف سلمان ومحمد حسين الشبيبي وزكي بسيم وزعيمه سنة 1963 حسين أحمد الرضي الذي أعدم من قبل انقلابيي 8 شباط تحت التعذيب من أجل حرية واستقلال العراق وسعادة كادحيه وفقرائه.
*تصادف وجودي في بغداد مع انعقاد المؤتمر الوطني الحادي عشر للحزب، واطلعتُ بعُجالة على وثائق المؤتمر في صحافته فكانت مخيبة للآمال. لستُ في معرض تحليل ونقد شاملين ومسهبين لهذه الوثائق الآن، فهذا مسعىً يتطلب وقتاً وجهداً، ولكني سأطرح ملاحظات سريعة وموجزة كمواطن وكاتب اشتراكي ماركسي مستقل يهمني هذا الشأن العام:
*إن هذه الوثائق السياسية النظرية أشبه ما تكون بوثائق حزب ليبرالي – أقرب إلى الوسط منه إلى اليسار اللبرالي ذي النكهة الاجتماعية – وثائق لا علاقة لها بالشيوعية ولا الاشتراكية كما يعرفها الناس، وهي تستهدف بالدرجة الأولى تبرير أخطاء وارتكابات قيادة الحزب منذ سنة الاحتلال الأميركي 2003 وحتى اليوم، ومنها مشاركته في مجلس حكم بريمر، ولجنة كتابة الدستور الاحتلالي وغيرهما من أجهزة الاحتلال السياسية والتنظيمية، والحكومات القائمة على الطائفية السياسية التي تشكلت لاحقاً. وكانت وثائق المؤتمرات السابقة لما بعد 2003 قد طرحت هذه التبريرات القشرية وهي تكررها في كل مؤتمر، وهذا يعني أن الحزب باق على ما هو عليه من تقوقع وانسداد وهامشية ونهج يميني فاقع.
*هل يمكن ان يتصور المرء أن حزبا يسمي نفسه “شيوعياً” وهو لا يذكر أي شيء عن برنامجه أو هدفه في التحول الاشتراكي أو الشيوعي حتى لو ذكرها بشكل عام وعلى سبيل التذكير به كأفق مستقبلي، ولا يطالب بالتغيير الجذري وإعادة كتابة الدستور الذي ساهم في كتابته، وتجريم وتحريم الطائفية السياسية التي عمل وشارك في الحكم من خلالها، وينادي باستعادة استقلال العراق بإلغاء اتفاقية “الإطار الاستراتيجي” مع الولايات المتحدة، وإخراج القوات الأجنبية وانتزاع السيادة الوطنية كاملة وعملياً على الأرض والماء والسماء والعائدات المالية، وهذه أهداف ليبرالية أيضاً وليست اشتراكية أو شيوعية قطعاً، فلماذا لا تتبناها قيادة الحزب ولا تذكرها أو تروج لها في برامجها ومؤتمراتها؟ لماذا تستمر بحمل اسم الشيوعية وهي تجتر أطروحاتها المائعة والإنشائية التي يكررها الجميع حول العدالة الاجتماعية والدولة المدنية الديموقراطية الجامعة كما جاء في خطاب سكرتير اللجنة المركزية للحزب في المؤتمر (إقامة دولة المواطنة الديمقراطية الاتحادية الجامعة، الخالية من العنف والتطرف والإرهاب ومنظماته، والتي تُحترم فيها حقوقُ الانسان، وفقا للدستور والمواثيق الدولية وتتعزز فيها الوحدةُ الوطنية / جريدة الحزب)، وتشجيع الاستثمار الأجنبي والقطاع الخاص وحصر السلاح بيد الدولة في حين أن الدولة فاسدة ومنقوصة السيادة وتُفرَض عليها قوات عسكرية أجنبية وتسلِم عوائد نفطها إلى البنك الفيدرالي الأميركي ليتصدق عليها بفتات منه لتمشيه أمورها اليومية يختلس أغلبه وتُجرى فيها مهزلة انتخابات كل أربع سنوات بإشراف وإدارة أحزاب الفساد الحاكمة نفسها ثم صار رؤساء حكوماتها ولأكثر من مرة لا يأتون نتيجة هذه الانتخابات بل نتيجة عقد صفقات داخلية وخارجية وتوافق أميركي إيراني! لماذا لا يغيرون اسم الحزب إلى نادي اجتماعي أو حزب ديموقراطي أو ليبرالي، هل هذا الاسم أصبح ماركة تجارية لا يريدون التنازل عنها مجاناً رغم أنهم يبعدون عنها وعن أمجاد مؤسسيها بالدماء والعرق والدموع مئات السنوات الضوئية؟
*وقد يقال إن الوقت والظرف العام ليسا مناسبين لطرح أهداف ومهمات اشتراكية، وان الوضع الطبقي والسياسي في العراق لم ينضج طبقياً واجتماعياً إلى الحد الذي يسمح بطرح هذه الأهداف؛ والسؤال الداحض لهذا التحفظ هو: هل كان الوضع الطبقي والاجتماعي في روسيا أو الصين أكثر نضوجا من الوضع العراقي عشية ثورة أكتوبر وحرب تحرير الصين والبدء بعمليات البناء والتغيير الاشتراكي؟ ألم تكن روسيا التي كان ماركس يسميها في القرن التاسع عشر “كيس البطاطا المترهل وقلعة الرجعية الأوروبية” تضم شعباً من الحفاة والجياع والتخلف الثقافي والاقتصادي والحضاري الشامل عشية الثورة؟ ألم تكن الصين أكثر تخلفاً من أي بلد أفريقي نهبه الإمبرياليون الغربيون الهمج وتنوء تحت ثقل المجاعات الدورية والإدمان الشامل والمفروض بريطانياً على الأفيون؟
وأخيراً، ما فائدة ومغزى أن تسمي حزبك “شيوعياً” وأنت تكرر كلاماً تقوله جميع الأحزاب السياسية البرجوازية اليمنية والإسلامية الطائفية والقومية العنصرية والجمعيات الخيرية وشيوخ العشائر ونوادي الموظفين حول العدالة الاجتماعية والدولة المدنية الديموقراطية الجامعة والوحدة الوطنية وحماية السلم الأهلي؟
*نسجل أيضاً أن وثائق المؤتمر لم تتوقف بالمراجعة والنقد والاعتذار عند المحطات التي عاشتها قيادة الحزب في فترة ما بعد الاحتلال وحتى قبلها، ولم تعتذر عن مواقفها وأخطائها الكثيرة والكبيرة وآخرها موقفه المناوئ لانتفاضة تشرين 2019 في يومها الأول، لكنه تراجع سريعاً عن هذا الموقف بعد انخرط أعضاؤه في القواعد الحزبية فيها واستشهد بعضهم برصاص القمع الوحشي إلى جانب مئات الشهداء من أبناء شعبهم الكادح!
*الباعث على شيء من الأمل – وأقول هذا بحذر- هو أن الأصوات الجذرية الشجاعة موجودة في قواعد هذا الحزب، وخصوصا لدى الشباب، ولكن وجودها تنطبق عليه عبارة “أصوات غامضة في البرية” للأسف وقد يكون بعضها أصوات أكثر ليبرالية ويمينية، ثم أن هؤلاء الشباب لا تسمح لهم آليات الانتقاء المنحاز التي تديرها نخبة عجائز الحزب بالوصول الى قاعة المؤتمر. ومن الطريف بهذا الصدد، وبما يؤكد تفاؤلي النسبي بوجود الأصوات المختلفة والمخالفة للخط الليبرالي السائد أن بعض منظمات الحزب كما قيل وخصوصاً في الجنوب أكثر حياة وحركة وقرباً من الناس ومشاكلها وهمومها من قيادة الحزب في بغداد. وفي هذا السياق ومن طريف ما سجلته شخصياً ويصلح لتأكيد هذه الفرضية، أقول إنني لم أكن أتخيل أن منظمة الحزب في البصرة قد نشرت في مجلتها الفكرية “الغد” العدد 33 الفصل الأول سنة – 2021 / ص 53 – مقالة بقلمي عن “الفرهود وتهجير اليهود العراقيين…قراءة جديدة في الخلفيات” نقلاً من صحيفة أخرى حاولت أن أكشف فيها خطط الكيان الصهيوني بالتحالف مع الحكم الملكي الهاشمي في العراق لتهجير اليهود العراقيين، رغم أنني انتقدت بقوة هذه المقالة أحد الكتاب المقربين من قيادة الحزب والقيادي السابق فيه الراحل كاظم حبيب قبل وفاته؟ آملُ ألا أتسبب ببعض الأذى للرفاق البصرين بذكري لهذه الواقعة هه!
وأخيراً، وعما دار في دهاليز المؤتمر المذكور أدرج أدناه رابط مقالة لأحد الأعضاء من شباب الحزب هو مازن الحسوني بعنوان “حقيقة التغيير”، والحسوني – كما يظهر من المعلومات الواردة في مقالته- هو ممن يعرفون “البير وغطاه” كما يقال، ولكني أسجل على المقالة أنها لم تقل شيئاً مهما في الميدان السياسي والفكري، ولم تقترب من ضرورة القطع مع الخط اليميني الليبرالي الذي تنتهجه القيادة، ولم تقل لنا كيف ينظر هذا الرفيق ومن معه إلى ما تقدم من أمور تتعلق باستقلال العراق وطرد القوات الأجنبية والطائفية السياسية الحاكمة والتبعية للولايات المتحدة والنفوذ الإيراني وتجاوزات سلطات أربيل وخرقها المستمر للدستور. وأخيراً فالإجابة المتاحة بالنسبة لي على سؤال العنوان “ما الذي تبقى من هذا الحزب هي: تبقى منه تراثه الكفاحي الطبقي والوطني المضيء وشباب القواعد القريبون من الناس والفكر الاشتراكي الكفاحي الجذري الحقيقي.
أدناه رابط يحيل الى النص الكامل لمقالة مازن الحسوني: