العالم الآن

القاتل الثقافي

(اللغة هي سلطة وحياة وفي نفس الوقت أداة للثقافة. أداة للسيطرة. أداة للحرية – آنجيلا كارتر)

(أعتقد الآن بأن الكثير منا يعترف بأن الثقافة الأحادية المهيمنة هي قاتل للكوكب – ديريك جنسن) 

(إذا كنت تفعل أي شيء خارج الثقافة المهيمنة، فلن يكون من السهل أبداً أن تجد موطئ قدم لك – ايفا دوفيرني) 

ما نعاينه اليوم ربما سيكون نقطة انعطاف كبرى في التاريخ. ما نشاهده اليوم يرتبط بكل تاريخ ومهمات تسيّد الغرب وإشرافه على صناعة وصياغة تاريخ العالم منذ خمسمائة عام وحتى الآن منذ عصر الاكتشافات الكبرى ورحله كريستوف كولومب الأولى على متن سانتا ماريا ليفتح طرقاً جديدة نحو الهند فصادفته أميركا فتوقف فيها وانتهت رحلته، ولكن لتبدأ رحلة عالم جديد مختلف.

على وجه التحديد، رسمت اكتشافات العوالم الجديدة ما سوف يكتمل لاحقاً بلوحة السيطرة والهيمنة الغربيين على العالم، هذه العوالم الجديدة التي مولّت أوروبا أو دولها المهيمنة بثروات لا تنضب، وأزاحت الفائض السكاني الذي كان يعيق صناعة الرفاه الاجتماعي المحلي عبر إرساله إلى الأراضي الجديدة المكتشفة. طبعاً من الإنصاف القول بأنهم استطاعوا إقامة مدنية جديدة / قديمة هناك وإن كان على حساب موجات واسعة من الإبادة بحق السكان المحليين أو الأصليين.

ما يحدث الآن هو نقطه المنعطف في انزياح مركز الثروة العالمي من الشمال إلى الجنوب مع ما يستتبع ذلك من محاوله الجنوب صناعة التاريخ برواية أخرى مختلفة عما ألفناه حتى الآن.

ماذا عن روسيا في هذا كله؟

روسيا هي اللاعب الثانوي في هذا المشهد، وربما كان هذا يعود إلى حمولة المشاكل الداخلية الأثنية والدينية في مساحة جغرافية تفوق مساحة أوروبا بعشرات المرات، كما يعود ربما إلى أنَّ روسيا لم تستطع عبر تاريخها خلق نظام ديموقراطي يستطيع إدارة المتناقضات السابقة واللاحقة، فضلاً عن الإدارة السيئة للثروة، وتركة الإتحاد السوفييتي التي قذفت بروسيا التاريخية في مسار من انهيار دومينو متتابع تحتاج فيه إلى معجزه لترميمها. ويضاف إلى هذا كله ذلك العبء الدي يبصر النور في كل مره تتجه فيه أنظار روسيا إلى الغرب، وأعني به النزاعات التي لا تنتهي بين جمهوريات الإتحاد السوفييتي السابق. روسيا هنا وبتعبير أكثر دقة هي التمهيد المدفعي لمعركة إعادة صناعه العالم، ربما كانت الولايات المتحدة أولى المستشعرين لطبيعة هذا التحول العميق في سيولة الثروة.

الصين والهند ربما، هما القطبان الرافعان لعالم آخر مختلف وقد ينجحان في مسك الاقتصاد العالمي والقبض على مفاصله السياسية، ولكن نجاحاً مأمولاً مثل هذا سوف يستغرق عقوداً أخرى. بالرغم من هذه الرؤى المستقبليّة سيبقى الغرب ولعقود قادمة هو المؤثر الرئيسي في صناعه المناخ الثقافي للعالم، أو صناعة ما يمكن اعتباره نمط الحياة اليومي في كل منزل في هذا العالم، أحب قادة صناعة العالم الجديد هذا أو لا؟

يمكننا أن نلقي نظرة سريعة على الفارق الذي أحدثه هذا التأثير الثقافي للغرب على العالم، منذ مائتي سنة أو أكثر قليلاً. كان العالم برمته يعيش في عزلته الجغرافية التي راكمتها فصول من تاريخ طويل من الشكوك والريبة والنزاعات مع الآخر الدي (لا يشبهنا). كان العالم برمته يصنع ثقافاته المحلية غير الخاضعة لتأثيرات واضحة من الخارج الذي هو الآخر. فنونهم، رقصهم، أغانيهم، مطبخهم، زخرفتهم، أشعارهم…كانت كلها تنتمي الى روحهم، وتراكم التاريخ الذي يرى تردداته من خلال تلك الثقافة التي يعبّر فيها كل شعب عن نفسه.

كان هذا قبل الانفجار الثقافي الغربي الذي شمل العالم بأسره وطوقه وأذابه في كتله ذات هوية ثقافية تتماهى كلياً مع ما ينتجه الغرب من ثقافة بمختلف الأنماط والحقول.

أنظر اليوم إلى الياباني، هو مثل الاندونيسي مثل الجنوب أفريقي مثل التركي والسوري والمغربي، والهولندي، والألماني، والأميركي. جميعهم يلبسون نفس الأزياء تقريباً المدموغة بنفس وسم صنّاع الأزياء الآتية من كبرى دور تصميم الأزياء. لقد تم توحيد مظهرنا الخارجي وأزياءنا التقليدية أصبحت جزءً من مهمة المتاحف أو الحفلات الفولكلورية. وهم جميعهم أيضاً يشاهدون نفس الأفلام على النت فليكس والبريميير فيديو أمازون وديزني وهولو او بارامونت، ويقعون في غرام النجمة الغربية الأجمل، وتتنافس جرائدهم المحلية لتقديم الاحتمالات المتوقعة للأفلام الأكثر نصيباً في قبول ترشيحها للأوسكار الأميركية. وتتنحّى جانباً المائدة التقليدية لدى كل هذه الشعوب لصالح الوجبات السريعة مثل الهامبرغر والبيتزا والفرنش فرايس والهوت دوغ. هو توحيد للذوق الغذائي وانتصار للثقافة المهيمنة التي تدخلت حتى في ذلك التفصيل في غرف المطابخ.

 يحدث هذا في كل أصقاع الأرض من القطب وإلى القطب ومن جزر سولومون إلى جزر فارو، حتى تلك الفوارق في أنماط الاحتفالات بدأت بالزوال. أصبحت بدلة العروس بيضاء في كل العالم، وطرق الزواج الغربية هي القاعدة في توحيد ثقافي حتى لأنماط الفرح. ربما يحافظ أفراد من هنا وهناك على موروثهم الثقافي ويحاولوا أن يحافظوا على تمايزه في أعراسهم أو أحزانهم، ولكن إلى وقت ما قبل أن تتحول إلى ذاكرة فيحاولون القبض عليها قبل تسربها وتلاشيها أو احتجازها في إحدى صالات المتحف.

تصميم المنازل نفسها هو مؤثر ثقافي هام، وواحدة من قواعد المؤثرات الثقافية تتمثل في المنزل وتصميمه الداخلي، ومهندسو العمارة يعرفون هذا طبعاً، وكيف لعبت الساحة الداخلية أو الفناء الداخلي دوراً في تقوية الرابط الأسري، إلى أن أتت التصاميم المعاصرة التي وحدت منازل العالم اليوم وحكمت تصاميمها الداخلية بتشابه حرفي كقطرات الماء، حيث تعود إلى نفس المخيلة، وتتحدّر من نفس التجربة التي قدمها الغرب للعالم.

اجتياح ثقافي في كل المجالات، في الرياضة، في الرقص، في الموسيقى، في المسرح، في السينما، في الرواية…الغرب هو الصانع الرئيسي والمصدر الرئيسي، وسيظل إلى عصور قادمة هو القابض على صناعة المناخ الإنساني الأهم، المناخ الثقافي وما ينتج عنه.

من المؤكد أننا نلاحظ كيف أن اللغة الإنكليزية تحولت من لغة دولة أو عدة دول إلى اللغة العالمية الوحيدة والمسيطرة والمهيمنة في المؤتمرات، في الخطوط التجارية البحرية والجوية، في الطب، في التجارة والصناعة، في المصارف، في الاصطلاحات العسكرية، في التقنيات العالية، في علوم الفضاء، في الانترنت، في الاعلام والثقافة والسياسة…وأزاحت ربما كل لغات العالم واحتجزتها في مجتمعاتها، ولكن لا لتتركها وحيدة وسيدة، بل لتشاركها الإقامة فيها.

ربما يربح قاده العالم الجديد إن نجحوا في الصراع الراهن، وربما يتقدمون على الغرب في الاقتصاد والسياسة، لكن الحيز الثقافي الذي يرتبط به كل فعاليات الحياة العادية من طرق الوصول الى المعرقة وحتى طريقة اللباس والطعام والترفيه والاحتفال سوف تظلّ قطاعات خالصة للغرب، حتى يستطيع صنّاع العالم الجديد من إيجاد ثقافة أخرى أكثر جاذبية وتفرض نفسها وحيدة على العالم الذي يتبناها ويرضى بها من اليابان شرقاً حتى المكسيك غرباً، كما فعل الغرب من قبل بعد أن قرر أن يكون العالم كله مجاله الحيوي.

حيدر كاتبة

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق