ربما يكون بعضنا قد سمع عن منظمة محاطة بالسرية تعرف باسم “الأعين الخمس“! وللذين يجهلون وجود هذه المنظمة، أو ليس لديهم معلومات دقيقة عنها، نرى من المفيد تقديم هذه التفاصيل الموجزة.
نشأت هذه المنظمة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتتألف من خمس دول هي: الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا. وغايتها آنذاك التجسس على الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية في خضم الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي. ولكن مهماتها توسعت لاحقاً، خصوصاً بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. ومن القواعد الأساسية التي التزمت بها الدول الخمس أن لا تتجسس على بعضها البعض. ويصفها إدوارد سنودن المتعاقد مع الاستخبارات الأميركية، والذي لجأ إلى روسيا، بالقول إنها “منظمة استخبارات فوق قومية لا تخضع حتى لقوانين بلادها“. (تصريح صحافي بتاريخ 26 كانون الثاني 2014).
أبرز ما يلفت النظر في هذه المنظمة أن أعضاءها من جماعة الـ WASP، وهي الأحرف الأولى من White Anglo Saxon Protestant، أي البروتستانتي الأنكلو ساكسوني الأبيض. وهؤلاء يعودون بجذورهم إلى الجماعات الإنكليزية التي استوطنت العالم الجديد بعد الاكتشافات الجغرافية الكبرى في القارة الأميركية وأستراليا.
من حق القارئ هنا أن يطرح سؤالاً وجيهاً: ما مناسبة هذا الكلام في هذه المرحلة بالذات؟
نحن نقترح على القراء أن يبقوا هذه الصورة في أذهانهم عندما نقدّم في ما يلي مقاربة جديدة للتطورات “المفاجئة” التي أوصلت دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة الأميركية، وأخرجت بريطانيا من الأتحاد الأوروبي، ودفعت كلاً من أستراليا ونيوزيلندا إلى تشديد إجراءات الهجرة إليهما. أما كندا فهي ذات وضع خاص في هذه الفترة، وسنعود إليها لاحقاً.
لسنا بحاجة إلى التمهل مطولاً عند العلاقة الخاصة التي تربط بريطانيا بالولايات المتحدة، وآخر نماذجها وقوف رئيس الوزراء توني بلير إلى جانب الرئيس جورج بوش الإبن في القرار غير القانوني لغزو العراق سنة 2003. فهذه العُرى لا تنفصم مهما كانت الظروف. لكن علينا أن نعود إلى مطلع الألفية الحالية عندما تكررت في الأدبيات السياسية الأميركية والبريطانية مقولة “القرن الحادي والعشرون هو القرن الأميركي الجديد”. وتأكد في أروقة صنع القرار الأميركي رفض وزارة الدفاع (البنتاغون) “الهيمنة الكاملة الأطياف“، أي القوى العالمية المتنوعة. يومها أعاد منظرو تيار “المحافظين الجدد” في أميركا الترويج لمفهوم الـ WASP، وتمت ترجمة تلك الإستراتيجية الجديدة من خلال سلسلة من المغامرات ذات الطابع العسكري.
غير أن “الخطر” الأكبر على هذه المفاهيم التسلطية كان يكمن في الداخل الأميركي والبريطاني… إلخ. فوصول رئيس من أصول أفريقية (باراك أوباما) إلى البيت الأبيض قرع نواقيس الخطر في قلب المؤسسة الأميركية (في دورته الرئاسية الثانية ظل أوباما أسير سيطرة الجمهوريين على الكونغرس). وترافق ذلك مع إحصاءات رسمية توقعت خلال الخمسين سنة المقبلة أن يصبح عدد سكان أميركا من الأصول غير البيضاء أكثر من عدد ذوي الأصول البيضاء. ومع أن أوباما ظل ملتزماً بالسياسات الخارجية الأميركية المعروفة، إلا أن إجراءاته الاجتماعية الداخلية هدفت إلى تحسين أوضاع الطبقات الدنيا، وغالبيتها العظمى من الأقليات الملونة.
أما في بريطانيا، فقد برزت مشكلة لم تحسب لها القيادات السياسية حساباً عندما شرعت في ضم دول أوروبا الشرقية إلى الاتحاد الأوروبي في خطوات استباقية تمنع سقوط تلك الدول مرّة أخرى تحت نفوذ روسيا الناهضة من كبوة تحطم النموذج السوفياتي. وفي الوقت نفسه، يجري استخدام الأعضاء الجدد لحماية القوس الممتد من بحر البلطيق شمالاً إلى البحر الأسود جنوباً كخط مجابهة بين أوروبا الأطلسية وروسيا. طبعاً كان هناك ثمن لهذا التوسع المتسارع، وهو: حرية تنقل المواطنين الأوروبيين وعملهم من دون قيد أو شرط في أية دولة عضو بالاتحاد الأوروبي. ومن “سوء حظ” بريطانيا أن ما لا يقل عن ثلاثة ملايين “مهاجر” أوروبي جذبتهم سوق العمل الإنكليزية خلال خمس سنوات، ناهيك عن مئات الألوف من “المهاجرين” الآخرين… وهكذا نشأ وضعٌ وظفته الدوائر الإعلامية والسياسية اليمينية في بريطانيا لجعل “مشكلة الهجرة” أبرز نقاط البرامج الانتخابية التي تتنافس حولها الأحزاب الرئيسية.
الاستفتاء البريطاني للخروج من الاتحاد الأوروبي دار عملياً حول محور واحد: الهجرة. وقد كشفت أبحاث ما بعد الاستفتاء أن الغالبية العظمى من الذين اقترعوا للخروج إنما فعلوا ذلك بحجة القلق من الزيادة “غير الطبيعية” في أعداد المهاجرين التي أخذت تهدد “الطابع الإنكليزي” للمجتمع البريطاني. لكن هناك دولاً أخرى في أوروبا (أبرزها ألمانيا) تعاني من مشاكل الهجرة نفسها، فما الفارق بينها وبين النزعة البريطانية؟ الفارق الأساسي أن بريطانيا تريد التخلص أيضاً من قيود القوانين الأوروبية، والسياسة الأوروبية الموحدة… وكل المؤسسات الاتحادية الأخرى، لصالح ما أكدته رئيسة الحكومة تيريزا ماي على ضرورة “إسترجاع الشعب البريطاني سيطرته الكاملة على حدوده واقتصاده وعلاقاته الدولية”.
بعد فوز ترامب، وبدء تطبيق سياساته الداخلية المعادية للمهاجرين، وسياساته الخارجية القائمة على هيمنة القوة العسكرية الأميركية على مستوى العالم، ها هي بريطانيا تدخل معركتها الإنتخابية تحت شعار ركزت عليه رئيسة الحكومة بقولها إن المملكة المتحدة تحتاج إلى قيادة جديدة تعيد صياغة علاقاتها السياسية والتجارية مع الحلفاء والأصدقاء القدامى والجدد. وفي الوقت نفسه، كانت أستراليا ونيوزيلندا تعلنان عن إجراءات فورية لتغيير أنظمة الهجرة تحت عنوان عريض هو “الوظائف الأسترالية والنيوزيلندية للأستراليين والنيوزيلنديين أولاً”.
كندا الأطلسية تعيش في ظلال جارها الأميركي القوي، تماماً كما تعيش نيوزيلندا في الكنف الأسترالي. وبالتالي فإن فعلهما المستقبلي محكوم بتلك الاعتبارات الجغرافية. غير أن المخططات المقبلة تلحظ لأستراليا دوراً يتجاوز بكثير مكانها الطبيعي على المسرح الدولي. ذلك أن إستراتيجية واشنطن بفرض نوع من الطوق على الصين، سواء من خلال التواجد العسكري المباشر أو عن طريق تعزيز التحالفات القديمة وبناء أخرى جديدة، تعني أن أستراليا ستكون ركيزة أساسية في الجيوـ إستراتيجيا لمنطقة جنوب شرق آسيا والمحيط الهادئ. وهناك سابقة ملفتة في هذا الجانب، إذ عندما تحركت الأمم المتحدة لإعطاء تيمور الشرقية استقلالها عن أندونيسيا بعد إضطرابات دموية… كانت القوات الأسترالية طليعة البعثة الأممية لضمان “استقلال” الجزيرة في 20 أيار سنة 2002!!
فهل بات العالم على أعتاب إنتفاضة لدول الـ WASP، مع كل ما يعنيه ذلك من مجابهات حيث تصطدم مصالح “البروتستانتي الأنكلو ساكسوني الأبيض” مع مصالح خلق الله الآخرين؟
إن غداً لناظره قريب!
——————————————–
تنويه: كان الباحث قد كتب هذا المقال في 8 أيار 2017 ونشره في مواقع منها مجلة فينيق، وتعيد منصة سيرجيل نشره، على وقع الاتفاق الأميركي البريطاني الأسترالي، الذي دفع أستراليا لإلغاء صفقة الغواصات النووية مع فرنسا.
نعيد نشر المقال، بحكم مضمونه وطبيعته الاستشرافية التي تمكّن من معاينة نقض إلغاء الصفقة في ضوء خلفية شديد الوضوح.