كنتُ دائماً أقولُ في مُعرَضِ ردّي على أصدقائي المُقيمين خارج مدينة حمص، وعِندما يسألونني مُستَنكرين بقائي فيها خلال سنوات الحرب القاسيَةِ فيها وانطلاقاً منها، كنتُ أقولُ لهُم “إنَّها فُرصَةٌ غنيَّةٌ لِلغايَةِ أن نعيشَ الحَربَ مِن قلبِها، وعلى مُفتَرَقاتِ طُرُقِها الدّاخليَّةِ الوَعِرة، بِكُلِّ ما في ذلِكَ من اطّلاعٍ على مُعطَياتِها وآلياتِ عَمَلِها، وفهمِ تلك النَّزَعاتِ اللّا واعيَةِ من جِهة، والرَّغباتِ والمشاريع الواعية من جِهَةٍ أخرى، حيثُ نَشَأت وسارَت تلك الحربُ، إضافةً لِكُلِّ الخبراتِ النَّفسيَّةِ والذّاتيَّةِ الّتي يُمكِنُ الحصولُ عليها من خلال تَجرُبَةِ المرور الصَّعب، كما والاضطلاع بدورٍ ما يُمكِنُ أن يكونَ مُفيداً لِلبَلَد”.
طبعا لا أجِدهُ من نافِلِ القولِ، بل من واجِبِهِ أن أُؤَكِّدَ على أنَّ القيمةَ الفُضلى والتَّجرِبَةَ الأسمى، تبقى لِكُلِّ جنديٍّ ومُقاتِلٍ حَمَلَ سلاحَهُ بِكَفٍّ وَروحَهُ بِكَفِّهِ الثّانِيَة، دفاعاً عنّا جميعاً، لكي نَتَمَكَّنَ مِن إكمالِ تلكَ الخِبرَةَ، ومِن الاستِجابةِ لبعضِ إرهاصاتِها، وخاصَّةً على الجانِبِ الاجتماعي والسّياسي الفكري، إضافةً للإنسانيّ.
أمّا ما يُمكِنُني نَقلُهُ كإضافَةٍ نوعيَّةٍ من خِلالِ مَعرِفَتي بدوافِعِ وآلياتِ تفكير تلك الشَّريحةِ الاجتماع – سياسيَّةِ الّتي بُنيَ عليها مشروع الثَّورَةِ السُّوريَّة من حمص تحديداً، هو أنَّ تِلكَ المجموعة من النّاس كانَت موجودةً في قلبِ المُجتَمَع السّوري قبل 2011 ورُبَّما شكَّلَت حادِثَةُ اغتيال الحريري (14 شباط 2005) المَحَطَّةَ المفصليَّةَ لِظهورِها إلى العلَن، وإن بِصورَةٍ غيرِ رسميَّةٍ على كلِّ حال. ولكِنَّها بدأت تُعَبِّرُ عن نفسِها في الجلسات والنِّقاشاتِ على المُستوى الشَّخصي والاجتماعي، وأخَذَت تُرَدِّدُ أقاويلَها حولَ السُّلطة السُّوريَّة مُعلِنَةً كُرهها لها، تحتَ تسمية “الدّولة” طبعاً، لأنَّ مُصطَلَح “النِّظام” لم يَتِمَّ استِخدامَهُ إلا بعد انطلاق أحداث “الرَّبيعِ العربيِّ” نهايات عام 2010 حيث قدِمَت تلكَ المُفرَدة على أثير القنوات الفضائيَّة التي حَمَلَت على عاتِقِها مُهِمَّةَ دعم هبوب رياح ذلك “الرَّبيعِ” المُدَمِّر.
عددٌ مِنَ القِصَصِ والرِّواياتِ المُحزِنَةِ والمُحبِطَةِ، ليسَ بِمُحتواها الّذي على العَكسِ من ذلِكَ، كانَ يدعو للتَّنَدُّرِ والسُّخرية لما فيه من خِفَّةٍ وَسَذاجَةٍ، ولكِن لِلمَعنى الكامِنِ خلف تأليفِها. قِصَصٌ روِيَت في الأمسياتِ الوادِعةِ بنَسماتِها الَّتي كانَت تَتَحَضَّرُ لِتَصيرَ رياحاً عاتيةً، مثل قِصَّة “صحن الحمّص”. هذهِ التَّخريجات لم تَكُن ضمن سياقٍ لِبناءِ مشروعٍ على الأقّلّ في وَقتِها، ولكِنَّها كانت سعياً حثيثاً لِخَلقِ تبريرٍ ذاتيٍّ لِلموقِفِ العدائي الَّذي كانَت تَتَّخِذُهُ تلك المجموعة، مِنَ الدَّولةِ السُّوريَّة.
القصَّةُ تَقولُ بأنَّ رَجُلَ أعمالٍ سوريٍّ مُغتَرِبٍ دَخلَ كوسيطٍ بين سوريا والكيان المُحتَل، روى هذا الرَّجُل لهؤلاءِ السُّوريين كيفَ أنَّ الرَّئيس بشار الأسد “أرسَلَ طبقاً من الحمُّص على متنِ طائرَةٍ خاصَّة، هديَّةً لرئيس وزراء الكيان، وقال لهُ (الرئيس السوري للوسيط) أنا أعلَمُ ماذا يُحِبُّ شارون” في إيماءةٍ رخيصةٍ وَمُبتَذَلة، كانَ العقلُ الجمعيُّ لهؤلاء يُحاوِلُ من خلالِها القول بأنَّ “الأسد مُقَرَّبٌ من العدو” و”هذا هو سبب عدائنا معهُ” هكذا تمَّ بناءُ هرمِ مواقِفِهِم السِّياسيَّة المُعادِيةِ للسُلطاتِ في دمشق، على أنَّها مواقِف “وطنيَّة ومبدئيَّة” فهي “تَنطَلِقُ من التَّموضُعِ في الصِّراع مع العدو” وليسَت صراعاً على السُّلطَة، مدفوعاً بشبَقِ الوصولِ إليها وبأيِّ ثَمَن، حتّى لو كانَ تدميرَ البَلَدِ الّتي يُريدونَ حُكمَها. لقد فضَّلَ هؤلاء تدمير البلَد على النِّضالِ من أجلِ تطويرهِ وإعطائهِ جُرعةً إضافيَّةً من القوَةِ والنَّهضة، طالما أنَّ ذلك سيتمُّ تحتَ حُكمِ رئيسٍ لا يُحِبُّونَهُ. على المُستَوى الشَّخصيِّ كُنتُ أرى في ذلك الموقِفِ المُسِفِّ خدمة ما يُقدِّمُها هؤلاءِ لِلسُّلطةِ السُّوريَّة، كونَهُ كانَ بطبيعةِ الحالِ مَكشوفاً واضِحاً للأغلبيَّةِ الشَّعبيَّةِ الّتي كانَت بوصلتها واضِحة من جِهة، ومن جِهَةٍ أخرى فإنَّ أيَّ مُواجَهَةٍ مُحتَمَلةٍ مع العدو، كانَت سَتُؤكِّدُ انكشافَهُ ذلك، فالعدو لن يُهاجِمَهُم هم ولكِنَّهُ سَيُهاجِمُ الدَّولة السُّوريَّة ويُحاوِلُ جهدَهُ القضاء عليها، أو إضعافها على أقلِّ تقدير.
في مَطلَع أحداث الأزمة السُّوريَّة قال (إيفي ديشتر Avi Dichter) (وزير الأمن الدّاخلي في الكيان العدو 2006-2009) في إطلالةٍ مُصَوَّرة عام 2011:
“نريدُ وقف المذابِح في سوريا، ونسألُ أين الجامِعة العربيَّة والأمم المتَّحِدة”
كان الرَّجُل يُعَبِّرُ عن مدى انخراطِ كيانَهُ في مشروع إسقاط الدَّولة السُّوريَّة، لا بل واستِعجالَهُ ذلك. قبلَ ذلك نَزَلَ السَّفير الأميركي (روبرت فورد) إلى ساحة العاصي في مدينة حماه وسط سوريا، مُحاوِلاً تَحشيدَ الشّارِع هناك عبر إعطائهِ تطمينات أو رسائل مفادُها أنَّهُ “إذا كانَت أميركا تُريدُ ذلك، فهو سوفَ يَحدُث”
بعدَ ذلِكَ توالَت الضُّغوط السِّياسيَّة والتَّصعيد الميدانيِّ ضدَّ السُّلطاتِ السُّوريَّة، من خلال كلِّ المؤسَّساتِ والهيئاتِ الدَّوليَّةِ المُختَرَقَةِ أميركيّاً حتّى النُّخاع. لقد تمَّ فتح حدود الدُّوَل المُجاوِرة لِلمُقاتلين والمُرتَزَقة، ولإيصال الدَّعم اللّوجستي، حتّى التَهَبَت كرة النّار بشكلٍ بدأ يُنذِرُ بإحراقِ كلِّ شيء.. ولكِنَّ الدولة السّوريَّة أبدَت الكثير من القدرة على التَّحمُّل في مواجَهَة التَّحدِّيات، وأظهَرَت حِكمَةً في التَّعاطي مع الهجوم الّذي أفقدَها جزءاً كبيراً من قوَّتِها وبأسِها، ولكِنَّني لا يُمكِنُني هنا إلا التَّأكيد على ثابِتَةٍ ظَهَرَت خلال كل ذلك، وهي أنَّ أفعل الأسلِحة الّتي استخدمتها هذهِ الدّولة، كانَت قدرة مواطنيها على التَّحمُّلِ أيضاً، وهذا عموماً يبدو منطقيّاً لِلمُراقِب، فتلك المؤسَسَة هي من هؤلاء المواطنين، تُعَبِّرُ ليس فقط عمّا فيهم من فوضى وعدم اتّساق، ولكن عن ما يَكتَنِزونهُ مِن مُقوِّمات المواجَهَة والصَّبر. لَقَد أثارَ ذلكَ كُلَّه حُنقَ الولايات المتَّحِدة وبطريقةٍ مَفهومة أيضاً شاركها الكيان الصَّهيوني شعور الحنقِ والغيظ، فقد أفسَدَ ذلك نتائج جهودٍ استَمَرَّت لعقودٍ طويلة.
في العام 2017 وخلال منتدى (سابان Saban) السَّنوي لِلحوار الأميركي الإسرائيلي، وفي جلسة جَمَعَت الكاتِب والمُنَظِّر الأميركي (تواماس فريدمان) مع ضابِط الاستخبارات الأميركيَّة (بروس ريدل) وفي مُعرَضِ تعليقِهِ على سنواتٍ من إفشال الدَّولة السُّوريَّة للمشروع الإسرائيلي لإسقاطِها، قال فريدمان:
“إسرائيل تحتاجُ من يُخرِجَها من مأزِقِها في سوريا”
هناكَ الكثير الكثير من الشَّواهِد المُتواتِرة بشكل أسبوعي على ماهيَّة المواقف الأميركيَّة والإسرائيليَّة تجاه سوريا والدَّولة السوريَّة، وما ذكَرتُهُ هُنا ليس إلّا أمثلة للتدليل وليس لِلحَصر، وأعتَقِدُ أنَّها برمزيَّتِها كانَت كافية ووافية، ولكنَّهُ وبعد سنواتٍ من كلِّ ذلك، جاءت مُستَجِدّاتٌ صارِخة خاصَّةً في العامين 2023-2024
قبل أسابيعٍ من كتابَةِ هذا المقال، قرأتُ تعليقاً لأحد نشطاء المعارضة السّوريَّة على إحدى صفحات التَّواصُلِ الاجتماعيِّ يقول فيه:
” من الغريب أنَّ كل من يدعمون المقاومة الفلسطينيَّة هم أصدقاء إسرائيل”
أي أنَّ المقاومة اللُّبنانيَّة وسوريا واليمن هم “أصدقاء الكيان” .. نفس المنطق والرواية المُستَفِزَّة بغبائها وإنكارِها للواقع، وكان ذلك قبل الهجوم الأخير على لبنان بكل ما تضمَّنَهُ من إجرام بحق المقاومة تحديداً، وخاصَّةً أنَّ العدو قام باغتيال أغلب قادة هذه المقاوَمة، في تصريح بالِغِ الضَّراوة والوضوح للتَّعبير عن عداء الكيان لهذهِ المقاومة ولسوريا الّتي تصاعَدَ قصف الأهدافِ العسكريَّةِ فيها بشكل غير مسبوق حيث بلَغَ عدد الغارات الإسرائيليَّة على سوريا أكثر من 115 غارة خلال عام واحِدٍ فقط منذ 7 تشرين الأوَّل 2023 وبِمُعَدَّل 10 اعتداءات شهريّاً راح ضحيَّتها عشرات الضباط والجنود السّوريين.
بعد فجيعة سقوط سردِيَّتَهُم عن “علاقة سوريا والمقاومة مع العدو” تلجأ الأصوات المُعارِضة الَّتي يتبناها الغرب عموماً، إلى سرديَّةٍ جديدة مفادُها أنَّ الحرب كانت مُغامَرَةً لا قِبَل لنا بها، وأنَّ البديل عن ذلك ليس التَّمسُّك والمواجَهة بأسلوب مُختَلِف أو أكثر استراتيجيَّة مثلاً، ولكن “الاستسلام التّام للعدو، وبدون أيَّة شروط”. نعم.. الآنَ يقولون ويُعَبِّرون عن ماهيَّة مشروعهم بالضَّبط، لأنَّهُم تمَّ حشرُهُم في زاوية المُستَجِدّات.