في 24 شباط 2022 دخل الجيش الروسي أوكرانيا واشتعلت الجبهات وسرعان ما اتخذت الحرب معنى المواجهة الشاملة بين روسيا من جهة وحلف الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة الأميركيّة من جهة مقابلة.
بالمعنى الاستراتيجي، يمكن اعتبار (الساحة السوريّة) امتداداً للساحة الأوكرانيّة، وذلك اعتباراً من اليوم الثاني لاشتعالها، أي من 25 شباط مع تكشف طبيعة رد الفعل الأميركي على العمليّة الروسيّة، الأمر الذي يقود استطراداً إلى التساؤل الافتراضي التالي:
إن كانت (الساحة السورية) مشمولة بالنفوذ الاستراتيجي الروسي، فهل ستُقدم الولايات المتحدة المتواجدة بدورها على قسم مهم من هذه الساحة، على محاولة إشغال روسيا وإقلاقها عبر عمليات تقوم بها مباشرة أو عبر أطراف مرتبطة بها، ما يؤدي إلى كسر حالة (الستاتيكو) القائمة وضرب مختلف التفاهمات والاتفاقات المعلنة وغير المعلنة (جنيف، أستانة، سوتشي)، ما يؤدي إلى إدخال (الساحة السوريّة) فعليّاً في خريطة الحرب الأوكرانيّة فترتبط مصيرياً بما ستؤول إليها هذه الحرب؟
المنطق الذي يحكم الصراع الآن يؤكد جواباً واحداً: نعم. فمن خارج ذلك المنطق لن تستثني الولايات المتحدة الأميركيّة (الساحة السوريّة) بعيداً عن المواجهة مع روسيا، وتكتفي بما يؤمنه تواجد جيشها فوق آبار النفط وحقول القمح، وما تسببه عقوباتها من نتائج اقتصادية واجتماعية وسياسية، في الوقت الذي يمكن فيه المحاولة مرة جديدة للعودة إلى الخيار الأول الذي يستهدف وضع (الساحة السورية) من بابها إلى محرابها في إطار النفوذ الاستراتيجي الأميركي.
ثمّة مؤشرات تعزز هذه الفرضية:
1-منذ أسابيع قليلة أصدرت السي آي أيه – وكالة المخابرات المركزيّة الأميركية تقريراً جديداً بعنوان: التهديدات الجديدة لعالمنا. اعتبرت فيه (سورية) وعلى نحوٍ واضح مكاناً يهدد الأمن القومي الأميركي.
يتجدد الحديث الأميركي عن عودة تنظيم داعش إلى الساحة عبر عمليات ستظهر مستقبلاً، حيث لن يتخلّى عن محاولة تحرير 10000 من عناصره يتم احتجازهم في شرق سورية.
يأخذ التقرير ومضمونه أهمية خاصة نظراً لصدوره بعد بداية الحرب في أوكرانيا بعدة أسابيع. أي أن رؤيته للأخطار التي تهدد العالم، تتأسس بشكل رئيسي إلى رؤيته للحرب وسياقها وإلى أين يمكن أن تصل وما يمكن أن تؤدي إليه.
2-أعلنت الحكومة التركيّة منذ أيام قليلة عن عملية خاصة تم في نهايتها اعتقال الزعيم الجديد لتنظيم داعش في أحد أحياء مدينة استنبول؟
3- سبق ذلك إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن عزم تركيا على بدء عملية عسكرية في الشمال السوري، بغاية إنجاز المنطقة الآمنة وتوطين لاجئين سوريين فيها.
4- كانت زيارة وزير الخارجية التركي تشاووش أوغلو لـ (إسرائيل) في 25 أيار 2022، لافتة في توقيتها كما في نتائجها وأيضاً في النشاطات ذات الطابع الرمزي التي قام بها الوفد التركي (زيارة متحف يادفاشيم لتخليد ذكرى ضحايا المحرقة). الزيارة وإن كانت بجدول أعمال يؤكد خصوصية العلاقة بين الطرفين، إلاَّ أنها تأتي في سياق تنسيق المواقف وترتيب البرامج المرتبطة برؤية الطرفين إلى الساحة السورية في ضوء الحرب في أوكرانيا.
5- كانت تركيا، في وقت سابق قد أجرت تسوية لعلاقاتها مع الامارات العربية المتحدة كما مع السعودية، في ظل تنامٍ متسارع لعلاقة الدول الخليجية مع (إسرائيل – سيبلغ حجم التبادل التجاري بين إسرائيل والامارات 10 مليارات دولار خلال السنوات الخمس القادمة).
الخلاصة هنا تشير إلى نشوء تحالف تركي – إسرائيلي – خليجي برعاية الولايات المتحدة، تبدو (الساحة السوريّة) بواقعها وبالطيف الاستراتيجي الروسي الذي يغطيها، المكان الأكثر قابلية لاستثمارات قوة هذا الحلف واتجاه فعله، وإن كان على نحوٍ مختلف عما اعتمدته أطراف هذا الحلف مع بداية الأحداث في آذار 2011.
تبدو تركيا في هذه المؤشرات الجهة الواضحة التي يمكن أن تتدخل لتغيير (الستاتيكو) الراهن وفرض واقع جديد في الشمال قوامه الهدف الذي تعمل له منذ سنوات، وتسميه المنطقة الآمنة.
لكن ثمة تساؤلات متعددة تفرض نفسها هنا:
كيف يمكن أن يخدم هذا الواقع الجديد (المنطقة الآمنة) رؤية الولايات المتحدة في استهداف الحضور الروسي في سورية؟ وما هو موقف روسيا نفسها من (الشريك التركي) مع خروجه على تفاهماته واتفاقاته معها؟ أو ستجد روسيا نفسها مدفوعة للقبول بالأمر الواقع مقابل موقف تركيا من الحرب في أوكرانيا (الاتصال الهاتفي بين آردوغان وبوتين يوم الثلاثاء 31 أيار 2022، رشح عنه طلب الرئيس التركي بالموافقة الروسية على العملية التركية في الشمال السوري، لكن لم يتضح حقيقة جواب الرئيس بوتين).
دون شك سياسة الاحتواء المزدوج التي تمارسها الولايات المتحدة مع طرفين متناقضين (تركيا – قسد) ستتعرض لاختلال واضح تقرر مقداره واشنطن نفسها، أي هي من تقرر في النهاية حجم الخسائر التي ستدفعها قسد، ولكن ما هو المقابل الذي ستحصل عليه من تركيا ويخدم صراعها مع روسيا؟
يبدو الاشتباك هنا في غاية التعقيد، مع عدم وجود مؤشرات كافية على استعداد تركيا للانقلاب تماماً على روسيا، وإن كانت تفترض أن الموقف الروسي من محاولتها فرض واقع جديد في الشمال سيبقى تحت درجة الوصول إلى المواجهة معها، وذلك في المناطق التي تسيطر عليها الدولة السوريّة، والتي سيكون من الصعوبة البالغة لديها – أي الدولة – اتخاذ قرار بالمواجهة العسكرية المباشرة دون تنسيق كامل مع القيادة الروسية.
على التوازي، يمكن التساؤل أيضاً عن قدرة الدولة السورية وحلفائها على الوقوف في وجه الهجوم التركي، وخصوصاً في مناطق ليست تحت سيطرتها، بل تحت سيطرة (قوات سورية الديمقراطية – قسد) وبغطاء أميركي؟
بالمقابل، ماذا عن الدور الإسرائيلي؟
هل سيحافظ على الدرجة التي هو عليها وتعبّر عنها الهجمات الصاروخية المعتادة، أم سيتجاوز هذه الدرجة في تناغم مع التجاوز التركي؟
ما يستلفت الانتباه هنا، إشارة الملك الأردني عبد الله عن أن الانسحاب الروسي من مواقع في الجنوب السوري يتم تغطيته بوجود إيراني. هل سيكون التدخل الإسرائيلي هنا على وجه التحديد؟
كل هذا السيناريو المتشعب والمعقّد، لا يستبعد اللجوء مجدداً إلى الخيار التقليدي المتمثل بتفعيل مكنات التنظيمات الإرهابية: داعش خصوصاً، وجبهة النصرة إن أرادت تركيا فتح جبهة نازفة في الشمال الغربي.
العملية التركية التي تستهدف الوصول إلى منطقة بعرض 30 كيلو متراً على طول الحدود، ستشكّل امتداداً لعمليات (سيفو) التي قامت بها الإمبراطورية العثمانية من أكثر من قرن: تطهير عرقي واستبدالات سكانية واسعة، ستكرسها كأرض تركية تضاف إلى الشمال السوري التاريخي المحتل الذي مساحته ستتجاوز الـ 250 ألف كم مربع.
الخيار: سيفو. هو الطريقة التركية المعتادة تطل برأسها مجدداً في ظل استثمار تركيا لموقفها من الحرب في أوكرانيا.
كيف ستدير واشنطن هذا الاستثمار ليصبّ في خانة مواجهتها الشاملة مع روسيا؟
ثمة من يرجّح عودة استراتيجية (أنابيب الغاز: من الخليج إلى المتوسط) كبديل عن الأنابيب الروسية.
ألذلك تعود (الساحة السوريّة) إلى لعبة الأمم وبهذه الدرجة؟
الكماشة التركيّة – الاسرائيليّة تفتح شدقيها على أقصى اتساع استعداداً للقضم. هل سنكون لقمة سائغة أم شوكة في حلق الكماشة؟
سورية مجدداً أمام مصيرها.
عزيزي نزار.
شكرًا على هذا التحليل.
اعتقد ان الاعتماد على روسيا ومنذ الستينات افقرناوادخلنا بمتاهاتلافائدة منها.
يجب اعادة النظر بالتحالفات مابين المتبقي من سوريا! والعالم الغربي الغني والمتطور.