العالم من حولنا يترنّح وكأنه على حافة الانهيار، أو بالأحرى على شفير انهيارات بالجملة: انهيار المؤسسات الأممية والقانون الدولي، وقد كشفت حرب غزة وكل التطورات الإقليمية والعالمية أن المنظومة الغربية وأدواتها من المنظمات الدولية فقدت مصداقيتها وباتت شرعيتها ومرجعيتها الأخلاقية والقيمية موضع شكوك مشروعة، وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة وإدارتها التي جعلوا من ميثاقها حبراً على ورق.
انهيار سياسي مع تحوّل الدول إلى مجرد واجهة عاجزة عن إدارة وحماية مواطنيها ومجتمعاتها. فالهوّة تتسع يوماً بعد يوم بين الدول التي تنظّم سياساتها المحلية وبين السلطات التي أصبحت هي التي تقرّر فعلياً في مجالات المال والاقتصاد والصحة والتربية والثقافة والأمن، متجاهلة الحدود والسيادات. سلطات تعاقب، تبيد شعوباً وتستعمر. فبعدما استهدفت قرون استعمارية العقول عبر الإغواء أو الترهيب باسم غزو الأسواق وربحية الشركات والسيطرة على المستهلكين، أصبحت قدرة السلطات الاستعمارية الجديدة مع التكنولوجيات الحديثة، أكثر تعقيداً وفعالية عبر تحوّلها إلى شكل غير مادي، فها هي تشنّ معركتها الجديدة على الإنسان عقلاً وجسداً كساحة لمعركة القرن الحادي والعشرين.
من الإنسان المستهلك وما يحمل المصطلح من هلاك، ننتقل إلى مرحلة الإنسان الافتراضي، وقد فرض عليه بكامل إرادته أن يصبح إنساناً خارج المكان والزمان وربما خارج الإنسانية. ومع انهيار الإنسان، تنهار المجتمعات وتتآكل الروابط وتزول المتّحدات الاجتماعية لمصلحة تجمعات آنية (Hors sol) لتصبح مجتمعات سائلة بحسب تعبير عالم الاجتماع زيغمن بومن، تتشابه فيها كل المكونات بلا تنوع ولا روح وكأنها مستنسخة، وتتلاشى الهويات الفردية والجماعية.
نحن نعيش في هذا العالم الرقمي، زمن الانهيارات والنهايات والإبادات. إنه عالم الم VUCA** (ضبابي، غامض، سائل ومبهم: Volatility, Uncertainty, Complexity, Ambiguity)، هذه الإستراتيجيا الغربية السارية منذ ما بعد سقوط جدار برلين والمرتكزة على طاقة التكنولوجيا الرقمية وما وراءها من أيديولوجيا.
إنه زمن نهايات العقل الذي يُستبدل بالذكاء الاصطناعي، فمنذ بداية العالم الرقمي وبواسطة شبكة الإنترنت ووسائل التواصل، حصلت عملية استيلاء طوعية لا قسرية على أكبر كمّ من المعلومات (data) تمّ تحويلها إلى big data ثم إلى ذكاء اصطناعي يتخطى بآلاف المرّات القدرات الفردية.
إنها نهايات اليد التي تُستبدل كلياً بالآلة، ونهاية العمل الذي يُستبدل بالروبوتات لنصبح جميعنا بروليتاريا محرومة من المعرفة كما توقّع كارل ماركس.
نحن في زمن ما بعد الحقيقة مع شبكات التواصل اللااجتماعية والأخبار المزيّفة وطمس الحدود بين العالم الحقيقي والفضاء الافتراضي. مع تجريد الإنسان المستعمَر افتراضياً من إنسانيته كما كان الحال مع الإنسان الملوّن والعامل والفقير، والمختلف دينياً أو عرقياً باسم عالم أفضل، يحلم الإنسان المعزّز بالتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي بأن يكون أمامه «إنسان متضائل» محروم من الذكاء فتُرسم جدران من نوع آخر بين البشر. أصبح العالم يشبه سفينة يكتشف ركابها فجأة وهم في خضم البحر أنها من دون قبطان.
ثم ينتبه هؤلاء الركاب أن القبطان افتراضي تحكمه الآلة والذكاء الاصطناعي. تختار الآلة والسلطة التي تديرها من منظورها لما بعد الإنسانية (Transhumanisme)، من يبقى آمناً وحيّاً، “وسيقسَّم الركاب بين المختارين، أولئك الذين ستزيدهم التقنية والذين ستكون لديهم فرصة للبقاء على قيد الحياة، والساقطين، أي الآخرين، فينظمون في مجموعات غير متمايزة في سجن افتراضي”.
ما نشهده حالياً هو أبعد من تحوّلات. فالتحوّل هو حركة طبيعية لكل جسم كمؤشر لحيويته وتنوعه، أمّا اليوم وقد اقتربت الآلة من الانتصار في معركتها في وجه الإنسان مع التكنولوجيات الحديثة، تقترب البشرية من عالم اللاحياة. وعالم اللاحياة ليس عالم الموت لأن عكس الحياة ليس الموت بل العدم.
عالمٌ تديره سلطة تملك القدرات المالية والإمكانات التكنولوجية والإعلامية، سلطة تعمل بمنهجية لتجعل من الإنسان مادة تستخدمها كما تشاء، تخفّض من عددها، تتلاعب بجندريتها، تراقب تحركاتها، تتحكّم بنسلها ونوعية أجنّتها، تفرض برامجها التربوية، وتمسك بمؤسساتها المحلية والدولية.
إنّ البشرية تحتاج إلى إعلان حالة طوارئ.
مواجهة هذا الاستعمار الجديد
لأننا نفهم المشرق مجتمعات ودولاً متكاملة حضارياً ومادياً وروحياً وأخلاقياً، نتساءل أين يقف المشرق من هذا المشروع المدمّر للحضارات والمجتمعات والإنسان؟ وبما أن دول المشرق ضعيفة حالياً، أنهكتها الصراعات والأطماع والسياسات الاستعمارية والفساد والأنظمة الطائفية، دول مجتمعاتها متآكلة، إنسانها مشرّد، جائع، جريح، أنظمتها فاسدة واقتصادها غير منتج… ما هي قدرتها على مواجهة هذا المشروع المتوحّش منفردة؟
إن مفهوم «المدرحية» [المادة + الروح] الذي اقترحه الفيلسوف أنطون سعادة كعلاقة المادة بالروح وقد دمجهما بكلمة واحدة، من الممكن أن يشكل إطاراً صلباً يمكننا أن نرتكز عليه لإحياء مشرق إنساني اجتماعي ومعرفي وأخلاقي، ومفتاحاً لابتداع نموذج جديد مستمدّ من حضارتنا المشرقية ومجتمعاتنا المتنوعة.
كيف؟
على سبيل المثال: بناء نموذج اقتصادي مدرحي بعيد من النماذج التي فرضتها علينا العولمة والنيوليبرالية المدمّرة للإنسان والمجتمعات والدول والبيئة، لبناء نموذج اقتصادي منتج تُعدّ فيه البيئة هبة إلهية نسهم في تحرير روحها من فوقية الإنسان وغطرسته، اقتصاد تضامني يعيد الترابط بين الإنسان والمجتمع لتحرير الفرد من أنانيته، والمجتمعات من سلطة المال والأسواق، ويطوي نهائياً صفحة الرأسمالية والليبرالية.
إنّ المنهج المدرحي الذي اقترحه سعادة هو منهج شمولي تتشابك فيه العوامل المادية والنفسية وتتكامل وتترابط بشكل عضوي في عملية تفاعل مستمر. إن جذور هذا المشرق عميقة بما فيه الكفاية لتشكّل قاعدة صلبة ومتينة لبناء هذا النموذج، فنعيد تأسيس مجتمع نفكر فيه مجدداً: ماذا نأكل وكيف نلبس وكيف نفكر وكيف نكتب وكيف نربي وكيف ندرس وكيف نتعلم.
نحن مدعوون، إلى جانب المقاومات العسكرية، إلى إعادة تصوّر وإبداع مدرحية اقتصادية ومدرحية تربوية ومدرحية بيئية، فيتمسّك مجدداً الفرد بالعائلة، والحي بالقرية والوطن، والمواطن بالدولة والبيئة الطبيعية، والدولة بالقيم والإيمان بالأخلاق. نموذج تعود فيه التكنولوجيا آلة في يد الإنسان لخدمته لا لاستعباده، تماماً كما كانت في يد المزارع والحرفي المشرقي في جبيل وأوغاريت وسومر وبابل وصور. نموذج يثبّت أن الذكاء الاصطناعي الذي يُخضِع العقول لا يمكنه أن يتفوّق على عبقرية الأبجدية التي تأقلمت وأبدعت وحرّرت المعرفة في خدمة البشرية، كل البشرية.
ما العمل؟
لنطلق ورشة بناء المشرق. ورشة جماعية يعمل فيها معاً مثقفون واقتصاديون وعمّال وطلاب، وإعلاميون وفنانون وكل أصحاب الكفايات والإرادات، كفريق لبناء نموذج مشرق الغد. نموذج مدرحي متكامل لمشرق حي أصبح حاجة لا بل ضرورة ملحّة في وجه عالم اللاحياة، سنهبه إلى عالم يفقد بوصلته كنموذج حضاري كما وُهبنا الأبجدية، والأنبياء، والتنوّع، والانفتاح.
——————————
تنويه: يُنشر هذا النص باتفاق مسبق مع الكاتبة، وهو منشور في جريدة الأخبار اللبنانيّة، الجمعة 30 آب 2024.