مسار جلجامش

معركة الوعي / تجفيف الهلال الخصيب!

منابع الأنهار تحت الاحتلال التركي

الحسكة عطشى! بلى، لمَ العجب طالما أن الأتراك يحتلون رأس العين ويتحكمون بمحطة علوك، ويستعيدون عثمانيتهم بانتشاءٍ وجنونٍ قد يعيدهم، إن لم يتم وقفهم، إلى هواية البناء بالجماجم!

الحسكة الآن، وقبلها حلب، التي جفف الأتراك نهرها (قويق) وأحالوه إلى مستنقع آسنٍ، منذ العام 1950، إلى أن تمكنت الحكومة السورية من (بلِّ ريقه) بتمديد قناة إسعافية من أخيه الأكبر: نهر الفرات، الذي يعاني الآن وجع التجفيف وآلام اليباس.

لا تتوقف حرب التجفيف والتعطيش التي تمارسها تركيا، على مدينة هنا، وأخرى هناك، بل إنها تستهدف تجفيف الهلال الخصيب الذي يعاني جنوبه، وعلى التوازي، من محنة التصحّر التي تلاحقه منذ بداية تاريخ الحضارة فيه.

بلاد ما بين النهرين / وادي الرافدين، هي أقدم نظام حضاري قائم بشكل كلي على نظام طبيعي وبيئي نموذجي مُشكّلٍ من مسارين شبه متوازيين لنهري دجلة والفرات الذين يتلاحمان في النهاية في نهر واحد ومصب موحد. شكّل هذا الوادي أحد أكثر المواقع استثنائية لنشوء التاريخ الإنساني، وبداية عمر الحضارة بفصولها المتتابعة وعناوينها المتنوعة، العلمية والدينية والقانونية والأدبية…إلى الآن لا تزال مئات المواقع الأثرية، المنتشرة في مختلف جوانب هذا الوادي، غير مكتشفة على نحو نهائي. على ضفاف الفرات الأعلى نشأت الزراعة، وبدأ الانسان يبني ركائز الاستقرار الذي وحده جعل التراكم ممكناً، لتولد الحضارة وتأخذ لنفسها مكاناً.

على التوازي مع مسار النهرين واتجاههما، ارتسم مسار الانسان السوري من الأعلى حيث الجبال والهضاب، نزولاً نحو السهول مع تطور قدرته على التعامل والتحكم بمياه النهر المتدفقة، التي ستكون بحالة فيضان مع بداية الربيع. الفيضان الذي سيشكل أحد فصول الأدب البابلي مع (زيوسودا) وسفينته، ثم ليستولي عليه القصّ التوراتي مع نوح وسفينته، ومن ثم القصّ القرآني.

توالت فصول الحضارات، وقامت الشواهد العمرانية في هذا الوادي منذ ستة آلاف عام. وما بين البناء والتدمير، يبقى وادي الرافدين المثال الأوضح عن بداية تاريخ الحضارة الإنسانية واستمرارها، ومن المؤكد أن التدمير البيئي / الطبيعي مع العمراني مع الأثري لوادي الرافدين سيحيل الإنسانية برمتها إلى حالة لقيطة، شاردة، ضائعة!

الآن: وادي الرافدين مهدد بتدمير نظامه الطبيعي القائم على استمرار حياة نهري دجلة والفرات، حيث تواجه حياة هذين النهرين خطر الموت جفافاً، الذي تقوم به تركيا وفق عملية ممنهجة ومتكاملة، تشير معطياتها الراهنة إلى نجاحها في تدمير 60% من مستوى وجود هذا النظام الطبيعي، الذي فقد، بسبب ذلك، صفاته وقدراته وميزاته.

نهر قويق 1921: قبل معاهدة لوزان.

مرةً جديدة، تبدو نتائج الحرب العالمية الأولى ومن ثم معاهدة لوزان 1923، هي الأساس الذي ترتكز عليه المنهجية التركية في بناء عمليات تجفيف وادي الرافدين ابتداء من الحدود السياسية مع جمهوريتي العراق وسورية. منذ ذلك التاريخ تم تدمير المجال الواحد لمسار النهرين بتقسيمه إلى ثلاثة مجالات. الفرات الذي يمتد من منبعه في بحيرة وان والبحيرة السوداء في أعالي طوروس إلى التقائه بدجلة في شط العرب، يمتد على مسافة تقارب 2856 كم: 1176 في تركيا بحدودها الراهنة، 610 في الجمهورية السورية، 1060 في الجمهورية العراقية.

دجلة الذي منبعه من بحيرة هزار ويبعد عن منبع الفرات قرابة 80 كم، يمتد مساره الإجمالي ليصل إلى حوالي 1850 كم: 400 كم في تركيا، 43 كم على الحدود السورية / العراقية، والباقي في العراق.

يشكل مشروع (غاب) الذي نفذته تركيا على نهري دجلة والفرات، والذي تشارك فيه على نحو كامل عشرات المؤسسات الإسرائيلية من التخطيط إلى التنفيذ إلى التدريب ونقل تكنولوجيا الزراعة وما إلى ذلك. يشكل هذا المشروع بسدوده (22) سد، ومحطات توليد الطاقة (19) الخطر الأكبر الذي يحمل الجفاف إلى وادي الرافدين مع اكتماله والعمل بطاقته القصوى. بالنسبة لتركيا، المسألة واضحة ومنتهية: دجلة ليس نهراً دولياً، كما الفرات ليصار إلى تطبيق القانون الدولي حول تقاسم المياه. عند تدشين سدّ أتاتورك عام 1992، قال الرئيس التركي سليمان ديميرل بما معناه: مياه دجلة والفرات سلعة سيادية تركية موازية لسلعة النفط العراقية / السورية. احتاجت تركيا حينها إلى آلاف الجنود كي تتمكن من حماية السد من هجمات محتملة لكتائب حزب العمال الكردستاني. حينها كانت دمشق قادرة على التأثير وامتلاك أوراق قوة إقليمية. ومعركة تركيا هنالك ستظل مصدر عدم استقرار لما يعتبر أكبر مشروع زراعي في العالم.

معاهدة لوزان، أعطت تركيا وادي الرافدين الأعلى ومكنتها من السيطرة على منابع الأنهر السورية، وإقامة المشاريع العملاقة، فيما وادي الرافدين الأوسط والأدنى مهدد بالجفاف واليباس والموت مع غير منطقة في هذا الهلال الخصيب المنكوب.

ما الحل؟

هو واحد في مختلف المستويات: إسقاط معاهدة لوزان، في معركة الوعي أولاً، ومن ثم تمكين هذا الوعي من إدراج تحرير منابع الأنهر السورية، في طريقة تفكيره ومنهجه واستراتيجيته.

‫5 تعليقات

  1. تحياتي امين نزار
    كلما نضعف اكثر كلما فتكت فينا السبوف المسلطة علينا من كل حدب وصوب. ان امتنا، رغم وقوفها بين الحياة والموت في كثير من الاوقات، استطاعت ان تصرع التنين وتبدا من جديد بسبب انسانها الخلاق ومواردها الطبيعية. العدوان التركي اليوم هو من نوع آخر فهو يقطع اهم مورد طبيعي الذي لولاه لما استطاعت سوريا ان تغني البشرية بثقافتها وخيرها وجمالها. لقد كتبت عن هذا الموضوع في شبه دراسة بعنوان “من هلال خصيب الى هلال نضيب” في 2009 ( https://www.ssnp.info/index.php?article=48100 ) وطرحت المشكلة وبعض الحلول الممكنة آنذاك لكن لا من من يسمع وان سمع فلا ارادة للتصدي. نامل ان يسمعوا النداء لان عدم الفعل هو نهاية سوريا الحضارة

  2. كان من أحلامنا وجود كيان اسمه الهلال الخصيب ، عندما كانت مكونان هذا الهلال بايدينا وكان تحقيق ذلك يسيراً وفي متناول أيدينا ، ولكن الغباء في الفكر القومي العربي الأعمى وقف عائقاً وحجرة عثرة كبيرة في سبيل تحقيق ذلك، ومن ناحية أخرى استطاع الغرب بذكائه واعتماده على رد فعل الشارع الأهوج أن يشوه صورة الفكرة القومية السورية ويحاربها على انها مستمدة من الفكر النازي ،،
    أما الآن وفي وضعنا الحالي فمكونات الهلال بدأت تتلاشى بالتدريج أرضاً وشعباً ، فالاحتلال الصهيوني اقتطع أهم الأجزاء من سوريا الكبرى فلسطين والجولان والأكراد وبدعم عالمي صهيوني يقتطعون الشمال العراقي والسوري بيد الأكراد (وهو مكون دخيل على المنطقة بعد أن هُجّروا من كردستان شمال ايران الى تركيا ثم الى الشمال السوري)والحبل على الجرار، وأما شعب سوريا وبعد أحداث التهجير الممنهج عالمياً وفتح أبواب اللجوء لهم واعمال التصفي، لا لسواد أعينهم ، بل لإفراغ سوريا من محتواها ومكوناتها الإجتماعية لتبدأ عملية تغيير التكوين السكاني الأصلي للمنطقة ( التغيير الديمغرافي) وإحلال جنسيات اخرى إيرانية وأفغانية و. ..الخ ، على أسس طائفية وقومية ، وقد تم منحهم الهويات السورية وحق التملك العقاري في اي بقعة من سوريا إبتداءً من دمشق حتى شرق الفرات والشمال السوري ، بالاضافة الى الاحتلال الروسي والأمريكي والإيراني ، لا أدري لماذا كل تركيزك على تركيا دون غيرها، تركيا مثل غيرها لها مطامع في المنطقة ، وفي الوقت نفسه من حق تركيا الحفاظ على كيانها القومي وحماية جنوبها من التهديد الكردي.
    لماذا تسكت عن الأكراد ولا تتطرق لهم ، بالرغم مما قاموا به من أفعال شنيعة وابادة وتهجير السكان الأصليين للقرى في منطقة شمال وشرق الفرات، ونهجوا النهج الصهيوني في محاولة خلق لهم جذور قومية تاريخية في المنطقة انهم يتبعون النهج الصهيوني وبدعم من الصهيونية والعالم الغربي الاستعماري بكل اشكاله والوانه ،، العداء لتركيا لايبرر لنا السكوت على اعتداءات الاكراد ولا يبرر لنا السكوت عمن يقف وراء كل ما جرى في سوريا من جرائم وتدمير

    1. مما لا شكّ فيه أن منصة الهلال الخصيب بوضعها الراهن مزدحمة بمختلف الارادات والاستراتيجيات الدولية والاقليمية، على أن منهجية التفكير التاريخي تقتضي النظر في هذه المنصة وفق أوليات الخطر وطبيعته ومدى حضوره، من هذا الباب جاء التركيز هنا على الخطر التركي، باعتباره حاضراً بما لايقاس عن غيره، باستثناء الخطر الصهيوني، على المنصة السورية.
      المسألة الكردية مختلفة من حيث طبيعتها وسنناقشها لاحقاً في مقالات مستقلة
      آمل أن ترافقنا في هذه المقالات لنناقش مضمونها سوية
      مع الشكر الجزيل لاهتمامك

  3. اعتد عن الأخطاء الكتابية في سقوط بعض الأحرف من خلال كتابتي السريعة من الحوال والذي يتصرف آليا في إسقاط او اضافة الاحرف
    مع الشكر والتقدير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق