المسافة بين فرساي وسيفر في باريس ليست طويلة، ومع ذلك تم اختيار قصر فرساي لتوقيع معاهدة السلام (حزيران 1919) التي بموجب شروطها استسلمت ألمانيا، فيما تم اختيار قاعة المعارض في معمل الصناعة الوطنية للخزف في سيفر(آب 1920) لتوقيع المعاهدة التي بموجب شروطها استسلمت الإمبراطورية العثمانية.
وفي الوقت الذي أدت فيه معاهدة فرساي إلى تغييرات سياسية في ألمانيا جاءت في نتيجتها بأدولف هتلر وحزبه إلى السلطة، وليدخل العالم معه في حرب عالمية ثانية (1939 – 1945) كان من نتيجتها هزيمة ثانية لألمانيا واستسلام آخر لشروط الحلفاء ومعهم الاتحاد السوفيتي. فإن معاهدة سيفر واجهت عدم اعتراف مباشر بها من قبل الحركة القومية التركية، بقيادة مصطفى كمال، فيما تم تجاوزها مع الوصول إلى اتفاقية لوزان في تموز 1923، ومن ثم محوها تماماً مع استلام مصطفى كمال للسلطة في تشرين أول 1923.
انتهت الحرب العالمية الأولى بهزيمة ساحقة لألمانيا والامبراطورية العثمانية، وتم التوصّل إلى (هدنة مدروز في تشرين أول 1918)، حيث سيطر الحلفاء على إسطنبول مع المضائق البحرية، التي دخلتها القوات الإنكليزية وحدها، لتجد حكومة الاتحاد والترقي نفسها، مع السلطان محمد وحيد الدين، أمام واقع الهزيمة.
في هذه اللحظة، ستبدأ الإمبراطورية العثمانية الدخول في مشهد تفككها، فيما البلاد التي كانت تحت سلطتها، ستدخل في حقبة جديدة، مرسومة مسبقاً، وبالنسبة لسورية تحديداً، في اتفاقية سرية مبرمة بين الحلفاء (سايكس – بيكو 1916) سيتم استكمالها وتعديلها وتشّريعها في مؤتمر دولي (سان – ريمو 1920). في الوقت الذي ستنتج العثمانية نسختها القومية التي ستشكل الجمهورية التركية.
مع بداية هذا المشهد، الذي هو تماماً: إعادة صياغة الجغرافيا السياسية للإمبراطورية العثمانية، ثمة مفارقة ملفتة تتمثل بالوجود الإنكليزي وحيداً في عاصمة السلطنة والمضائق البحرية، مع أنَّ المنطق العسكري كان يفترض أن يكون الروس في إسطنبول لا الإنكليز؟ وتزداد المفارقة حدةً مع دخول الجنرال الإنكليزي اللنبي إلى إسطنبول والضغط الذي مارسه على السلطان من أجل تعيين مصطفى كمال قائداً للجيش السادس الذي يتمركز قرب الموصل؟ وتستكمل المفارقة نفسها مع ملاحظة أنَّ الحكومة البلشفية الروسية هي من أمدت مصطفى كمال بالأسلحة والعتاد العسكري عندما خاض معركة الاستقلال التركية!
الإشارة إلى هذه المفارقة هنا، تعود إلى استلفات الانتباه إلى طبيعة التدخلات الخارجية وتأثيرها في تقوية الحركة القومية التي يقودها مصطفى كمال، والذي تمكّن من الانفصال عن السلطنة في العام 1919، ليتمكن لاحقاً، في ربيع 1920، من تنظيم انتخابات في منطقة أنقرة وتشكيل حكومة موازية للسلطنة في إسطنبول، فأصبحت السلطنة مجزأة بين مركزين، وذلك قبل توقيع معاهدة سيفر بعدّة أشهر.
معاهدة سيفر(موجز):
المكان والزمان: فرنسا – سيفر- 10 آب 1920.
الموقّعون: – الإمبراطورية العثمانية. ممثلة بوفد من السلطان في إسطنبول، فيما رفضت حكومة أنقرة الحضور والتوقيع.
– الحلفاء: فرنسا، بريطانيا، إيطاليا، اليابان، وغيرهم.(المجموع 27 دولة).
نص المعاهدة: (إطار عام):
[ تتضمن المعاهدة الكثير من البنود التي تفرض قيوداً اقتصادية ومالية على تركيا، كما تحدد عدد أفراد جيشها بـ – 50,700 – ألف عسكري، إلى شروط أخرى في حقول متعددة، غير أننا هنا، ولاختصاص البحث، سنكتفي بذكر المضمون العام والمتعلق بسورية خصوصاً ]
القاعدة الرئيسية للمعاهدة:
انسحاب الدولة العثمانيّة من جميع المناطق التي لا تنطق باللّغة التركيّة لغة أمّاً، مقابل إعطاء الحق لدول الحلفاء (فرنسا وبريطانيا وإيطاليا) بوضع يدها على المناطق التي انسحبت منها الدولة العثمانيّة.
وعلى ذلك يؤدي تطبيق هذه القاعدة إلى النتائج السياسية التالية:
- – إعادة تيراقيا والجزر الواقعة في بحر إيجة لليونان.
- – الاعتراف بمقررات مؤتمر سان ريمو الذي أقرّ مبدأ الانتداب الإنكليزي والفرنسي على بلاد الشام والعراق (الهلال الخصيب).
- – استقلال شبه الجزيرة العربيّة.
- – استقلال أرمينيا.
- – وضع مضائق البوسفور والدردنيل، تحت إدارة عصبة الأمم.
- – حصول كردستان على الاستقلال وفقاً للبندين (62) و(63) من الفقرة الثالثة، وإتاحة المجال لولاية الموصل بالانضمام إلى كردستان استناداً إلى البند (62) : (إذا حدث خلال سنة من تصديق هذه الاتفاقيّة أن تقدّم السكان الأكراد القاطنون في المنطقة التي حدّدتها المادّة (62) إلى عصبة الأمم قائلين إنّ غالبيّة سكان هذه المنطقة ينشدون الاستقلال عن تركيّا، وفي حال اعتراف عصبة الأمم بأنّ هؤلاء السكان أكفاء للعيش في حياة مستقلّة، وتوصيتها بمنح هذا الاستقلال، فإنّ تركيا تتعهّد بقبول هذه التوصية، وتتخلّى عن كلّ حقّ في هذه المنطقة، وستكون الإجراءات التفصيليّة لتخلّي تركيّا عن هذه الحقوق موضوعاً لاتفاقيّة منفصلة تعقد بين كبار الحلفاء وبين تركيّا).
الحدود الشمالية كما تبدو في معاهدة سيفر:
إذا كانت معاهدة سيفر قد استهدفت تفكيك الإمبراطورية العثمانية، استناداً إلى قاعدة انسحاب الجيش العثماني / التركي، من جميع المناطق التي سكانها لا يتكلمون اللغة التركية، باعتبارها اللغة الأم… إذا كانت هذه هي القاعدة، التي في النهاية نقلت الهلال الخصيب من تحت السيطرة العثمانية، لتضعه تحت سيطرة بريطانيا وفرنسا وفق خريطة سياسية جديدة، فكيف، وفقاً إليها تم تفكيك هذا الهلال عن الإمبراطورية في منطقة الالتحام؟ أي كيف نرى الحدود الشمالية لسورية في ضوء تطبيقها؟
تُظهر الخريطة المرفقة، أنَّ منطقة الانتداب الفرنسي، مع المنطقة التي سيكون لفرنسا فيها سيطرة ونفوذ (المنطقة البنفسجية مع البيضاء المخططة باللون البنفسجي مع الصفراء المخططة باللون البنفسجي)، تشمل مختلف مناطق كيليكيا وعينتاب وأورفة وماردين وأضنة وديار بكر وصولاً إلى سيواس ( أعلى المنطقة المخططة)، وإذا أضفنا المنطقة التي سيكون لبريطانيا عليها نفوذ (المنطقة الصفراء المخططة بالأحمر)، يمكننا التيّقن بسهولة أنَّ شمال سورية بحدوده الطبيعية في جبال طوروس، بقي حتى العام 1920 محافظاً على نفسه واختلافه عن دولة حكمته لأكثر من أربعة قرون متواصلة.
متلازمة سيفر:(خلاصة):
أثار توقيع معاهدة سيفر، من قبل وفد حكومة إسطنبول غضباً شديداً لدى مصطفى كمال وحكومة أنقرة، التي رفضت الاتفاقية ومزّقتها وتوّصلت بعد حرب الاستقلال إلى معاهدة جديدة (لوزان 1923). ومنذ توقيع سيفر ورد الفعل التركي المباشر عليها، نشأت ظاهرة سياسية تركية استُعير المصطلح الطبي (متلازمة) لتعريفها، فأصبحت متلازمة سيفر، التي تعني: الرفض المطلق والغضب الشديد (الهياج) الملازم لوقوع حدث سياسي معين أو تذكّره.
هذه المتلازمة موجودة في التاريخ المعاصر لتركيا، وتعبّر عن نفسها بشكل بارز، في أداء الرئيس رجب طيب أردوغان على نحوٍ خاص، الذي يقول بأن تركيا التي مزقت معاهدة سيفر، تستطيع أن تمزق غيرها، أي معاهدة لوزان، بعد أقلِّ من ثلاث سنوات من الآن.؟
مقالة رائعة لا فُض فوك
شكراً جزيلاً لتقديركم ولحضوركم
دروس هامة من التاريخ المحفور في ارضنا في بلاد الشام وتناستها كتب التاريخ الحديث رغم اهميتها لما يجري في وقتنا الحالي ..كل الاحترام لجهودكم
نحاول أن نخوض ما نسميه معركة الوعي، فهناك العديد من القضايا التي يتم التستّر عليها وتضليل الوعي العام بمع\يات خاطئة حولها
مع خالص التقدير