تصل (القوّة) في سياق تعاظمها إلى منتهاها، أي إلى كونها (قدرة) غير قابلة للإضافة، أو أنّ الإضافة التي يتم مراكمتها عليها، لم تعد ذات قيمة بفعل حالة الإشباع التي تضعها في ذروة التخمة من… ذاتها!
آنذاك، تنتهي الوظيفة الرئيسية لـ (القوة) بخروجها وانفصالها عن سياق برنامجها المفترض، وتدخل في حالة سبات طويل، لكنها تحتفظ بقدرتها التخويفية فيما تتضاءل هالتها الردعية رويداً… رويداً، خصوصاً أنها بدل أن تقوم بحراسةِ وجودِ من أنتجها و أوصلها إلى ذروتها، تبدو في حاجة ماسة إلى من يتمكن من حراستها و الإبقاء عليها دون استخدام، وفي وضع أقرب لأن يحيلها إلى (صَنَم) معبود من الجماعة التي نحتته ونصّبته، وما فتئت تمدّه بمختلف العناصر المعظمّة له، إلى الوقت الذي لم تعد تراه إلاّ وهي جاثية أمامه خاشية منه ومغتبطة به وحارسة له وخائفة عليه! من أن يصيبه مكروه فيتفكك تدميراً لجماعته وقاتلاً لها، أولاً، أو يصل إليه (غريب) – من غير دينه؟ – طاعناً له قلبه مفتتحاً تلك المنطقة / المتاهة التي تتكشف عن ذلك الحدّ الواهي ما بين وجوده من عدمه…!
على أن (القوة وهي في منتهاها) وإن أبطلت وظيفتها، إلاّ أنها تربض فوق خميرة الإفناء فتكون بمثابة (لغم العدم) على سرير الوجود، ويكون شرط عدم انفجاره مرتبطاً بالقدرة على إبقائه دون حركة جامداً، محروساً ومراقَباً… ومعبوداً!
من أجل ذلك وبسببه، تنشأ الجدران والأسوار والعوازل الفيزيائية والثقافية، وترتفع حول ما يفترض أنه (قوة)، حامية لها وحارسة لوجودها من تهديد من يفترض أنه لا يزال في حقبة امتلاك القوة البدائية التي لا يمكن بحال مقاربتها بتلك الرابضة وراء (الحائط)!
يتوائم بناء الجدران والعوازل حول (القوة) مع اكتشافها للسبيل الوحيد الذي يمكّنها من استعادة وظيفتها، ويضعها مجدداً قيد الاستخدام. وهو اكتشاف سيؤدي بـ (جماعتها) إلى الإفراط في بناء الحواجز والجدران بقصد الابتعاد بالذات أو إبعاد الآخر تلك المسافة الضرورية التي تمكّن (القوة وهي في منتهاها)، من استعادة وظيفتها في قتله، وإن كان هذه المرة على النحو الذي يؤمل منه أن تستطيع إفنائه، أو تضع وجوده قيد العدم!
في هذه المنطقة تحديداً يدور الصراع الحاسم بين الجماعات في سياق التاريخ، وفيها أيضاً تبدو اللعبة في ذروة أدائها ما بين (القوة وهي في منتهاها) التي تحاول إبعاد (الآخر) عنها كي تتمكّن من استعادة موقعها وهيبتها تجاهه، و (الآخر) الذي يحاول الاقتراب ما أمكنه ذلك عبر الجدران والعوازل والأسوار وصولاً إلى أرض (الصنم) وعرش القوة، التي لا تستطيع حراكاً إزاء هذا الاقتراب الشديد الذي يكاد أن يصل إلى حدود الالتحام!
دليلة: العبور نحو الأنسنة:
وفق سفر القضاة (الإصحاح رقم: 13 – 14 – 15 – 16) ليست دليلة(1) سوى تلك المرأة الفلسطينية، من غزة، التي تزوجها شمشون اليهودي الجبّار والخارق القوة، فتمكنت من استدراجه ودفعه للإقرار لها أين تكمن قوّته؟ حيث أرشدت (جماعتها: الفلسطينيون) الذين تمكنوا من نزع مصدر هذه (القوة)، التي لم تلبث أن استفاقت بعد حين لتدمر المكان الذي هي فيه عليها وعلى غيرها!
في السياق الرمزي، يبدو الخيار: دليلة، كتعبير مكثف عن إستراتيجية الاقتراب من منطقة (القوة وهي في منتهاها)، اقتراب يصل إلى حدود الالتحام، و ذلك بقصد تعطيلها، والعمل على تخليصها من ذاتها وتجريدها من غباوتها بـ (عقلنة جسدها: مادتها) وإخضاعها مرة أخرى للشرط الإنساني، أي إعادتها إلى النطاق الذي يمكن رؤيتها فيه كقوة منتمية إلى الشروط الإنسانية في قدرتها التي ربما تكون قاتلة و لكن غير فانية ومنتجة للعدم، كما في أخلاقياتها التي ربما تكون قابلة للانقلاب على ذاتها، و لكنها لا تفتأ تحضر في تلك اللحظات الخاصة التي يصبح فيها المصير البشري مهدداً ومنذراً بالسقوط في إنتاج (الإفناء التام)!
بهذا المعنى، يشكل الخيار: دليلة، ذلك المجال الذي تعاد فيه صناعة الإنسان بمواصفاته الثقافية وبقدراته العقلية وأنظمته الأخلاقية، بما يعيده من عالم القوة عندما تصل إلى منتهاها التي تبطل كل تلك (الصناعة)، إلى عالم القوة المنتمية إلى هذه (الصناعة) والناتجة من سياقات خطوطها الإنتاجية عبر التاريخ.
تنتمي دليلة، عمقياً، إلى ذلك النسل: الثقافي / الحضاري التي تُشَكِّل فيه عشتار / الإلهة إحدى أهم منابعه المفتوحة والموصولة مع نظام (صناعة الإنسان). ذلك لأن الحضور العشتاري في سياق الانتقال الحاسم لـ (البشرية) إلى (الإنسانية) طاغٍ في المجال الذي نتحدث فيه تماماً، المجال الذي يمكن فيه رؤية (القوة) و قد اندرجت في إطار النظام الجديد للبشر الذي هو وعيهم لأنفسهم كنوع وكذات واحدة قابضة على هذه (القوة) و متحكمة بها وموجهة لاستخداماتها واستثماراتها، كما في رؤية الإنسان منعتقاً من شروط قوته و مستسلماً لضعفٍ سيشكل، لاحقاً، في سياق التطور، المجال الأكثر قابلية للإبداع و إنتاج الثقافات الأخلاقية و الجمالية و الفنية، فضلاً عن كونه النطاق الذي يمكن فيه لـ (الصناعة الإنسانية) ترويجَ بضاعتها الفائقة الخصوصية المرتبطة بالنفس وحالاتها والمشاعر والأحاسيس المندرجة ما بين قوسي السعادة والبؤس، ما بين اللذّة و الألم، و في النهاية ما بين الموت و الحياة!.
في تنسيب (عائلي – حضاري) يمكن رؤية دليلة في نسختها الأصلية في أحد المشاهد الفائقة الأهمية من ملحمة جلجامش، ذلك المشهد(2)الذي يؤرّخ لذلك العبور العظيم لـ (القوة) إلى نطاق الإنسانية وخضوعها لشرطها. إنه المشهد الذي يُرى فيه أنكيدو في أحضان شامات (خادمة المعبد المقدسة)، حيث تجري عملية المبادلة الاستثنائية ما بين صفات القوة الجسدية وصفات القوة النفسية والعقلية. يَطرح أنكيدو بعضاً من قوته الهائلة بعيداً، فيما يكتسب وعي نفسه وفهمه لدوره بكونه في إطار المشروع الإنساني الذي سيعبّر عنه جلجامش في إطار بحثه المضني في سؤال الخلود.
شامات، المرأة / الخادمة / المومس المقدسة كانت المعبر الذي أوصل أنكيدو إلى الأنسنة، ليس فقط عبر اللذّة الجنسية، بل بإقصاء جانب من القوة بعيداً، واكتساب ذلك الضعف الذي يعبّر عنه ارتخاء الرُكَب وثقل الحركة ولكنه المستبدل بسعة الفهم وعُمقِ الإدراك!
شامات، هنا، هي دليلة غير (المنحولة) لاحقاً وفق أهواء و ثقافة (النصّ القاتل)(3) الذي سيعمل على الانتقاص من دورها، عندما يصرّ على استعادة شمشون لقوَّته الضائعة، و استخدامها على نحو تدميري / إفنائي بما تفترضه (القوة وهي في منتهاها) محبطاً عملية (الصناعة الإنسانية) التي وفّرتها دليلة لشمشون كما فعلت سابقاً مع أنكيدو.. و لكن… عبثاً!
لا تحمل (صناعة الإنسان) هنا، مدلولاً مفهومياً وحسب، بل إنها تصل في وظيفتها إلى إعادة ترتيب البيولوجيا البشرية ووضعها في سياق مواصفات المشروع الإنساني. يمكن ملاحظة ذلك بوضوح باهر في ذلك التغيير الكبير الذي طرأ على أنكيدو، الذي تمت إعادة ترتيب لـ (البيولوجيا) خاصته وفق آلية التبادل القائمة على مبدأ الحذف والإضافة. وما تم حذفه من قوّته الجسدية بدا كشرط لازم لما يصار إلى إضافته له لقوّته العقلية والنفسية التي هي وحدها الكفيلة بتمكينه من القيام بعملية العبور إلى المشروع الإنساني!
وعلى العكس من ذلك تماماً، سجّلت تلك الصناعة فشلَها الذريع مع شمشون الذي ظلّ وفيّاً لشرطه غير الإنساني محافظاً على نظامه البيولوجي الجبّار، رافضاً لآلية الحذف والإضافة. ففي محصلة مسيرته وتحوّلاته بدا صنماً لم يخسر من قوَّته شيئاً، كما لم يكتسب من خارج (البيولوجيا) خاصته شيئاً. بدا عابراً لمهنة (صناعة الإنسان)، وإن قارب في بعض اللحظات بعض مناطقها، إلاّ أنّ روحه ظلّت بعيدة عنها.
لكن المسألة لن تتوقف عند هذه الحدود، ففي الوقت الذي تُمجِّد فيه ملحمة جلجامش شامات بكونها المعبر نحو الأنسنة، فإن (النصّ القاتل) سيضع دليلة في خانة الغدر والخيانة! وستتولى لاحقاً النصوصُ الوسيطة استكمالَ عملية الانتقام من دليلة ونسلها عبر تجريدها من وظيفتها الأصلية التي أتت بشمشون إلى أحضانها، لتلصق بها بالمقابل صفات المكر والخداع والخيانة، بما جعلها تستوطن في الذاكرة الاجتماعية كمثال مرذول مكروه، فيما استوطن شمشون و لا زال تلك الذاكرة كمثال للقوة و الجبروت المقاوم لخداع دليلة ومَكْرِها! نجحت شامات فمات أنكيدو كإنسان، فيما فشلت دليلة ليموت شمشون خارج إطار المشروع الإنساني!
إرث حالة النكران:
يعبّر نجاح شمشون في الإفلات من دخول معبر (الأنسنة) عن ذلك الجانب الهائم لـ (القوة وهي في منتهاها) – عبر التاريخ الانساني – الضائع والبعيد عن الوظيفة الرئيسية لها والرابض كـ (لغم) لإنتاج العدم إذا… إذا ما تحرك… وحسب!
على أنّ ذلك النجاح ترافق، ولا زال، مع حالة النكران لدليلة ونسلها ومشروعه الحضاري. فقد نجح (النصّ القاتل) مع مختلف وسائطه بتحويل هذا المشروع إلى مجرد رواية، ودليلة فيها ليست سوى (أنثى غاوية) بقصد الحصول على المال! تم تجريدها من مشروعها وصفاتها، فتعرّضت على مدى التاريخ ولا تزال لحالة من النكران ستمارَس ضدها، وستتحول هذه الحالة إلى إرث يتم تجديده كلما استعاد نسلُها مشروعَه وتَحرَّك نحو الصنم – أيِّ صنمٍ كان – في محاولته الدائمة لدفعه نحو العبور العظيم لنظام الأنسنة، تحريراً له من ذاته، ووضع حد لـ (القوة وهي في منتهاها) في أن تكون التهديد المباشر لهذا النظام وحياته واستمراره.
كرَّس فشلُ دليلة استمرارَ الصراع مع (القوة وهي في منتهاها)، فيما أدت حالة النكران التي تعرضت وتتعرض لها دليلة، إلى (نزيف داخلي) أصاب نسلها ولا يزال مدراراً، فبدت أمام مواجهة متعددة مركبة وفي غاية الأهمية. فهي إذ تواجه ذاتها وتعود من تحقيبها المزيف لها والمشبع لصورتها كأنثى غاوية ماكرة، إلى كونها المدخل التعريفي
لـ (صناعة الانسان)، بقدرتها على إجراء عملية (الأنسنة)… إنها إزاء ذلك كله تحاول إعادة ذاتها لتكون على صورة شامات ورسالتها في النصّ الحضاري الآكادي، فيما يتربّص بها (النصّ القاتل) ويظلّ جاهزاً لعرقلة مهمتها واحتجازها في ذاكرة اجتماعية مقموعة وقابلة للانضواء في حالة النكران كلما بدت أنها في الطريق إلى الانعتاق منها.
تطرح مسألة شيوع الصورة المزيفة لدليلة، باعتبارها، المدخل المفضّي لتحقيق حالة النكران، جدوى (التاريخ) (4)كعمل يفترض أن يتجه دائماً لموقُعَة (الحدث) و تثبيته في سياق انطباقه على ذاته، في الوقت الذي لا يكون لهذا (التأريخ) مكان في (شريط الشيوع: الإعلام) المكرر على مدار الوقت و الذي ينتج ذلك (الحدث) على النحو الذي يخدم فيه الغاية الرئيسية لعملية الشيوع، فلا يأتي منطبقاً على ذاته، بل منزاحاً عنها و منحرفاً، إلى الوقت الذي يتم فيه استئصاله من موقعته و صناعته على نحو تام في دولاب التكرار ليبدو (كمنتج إعلامي) فيما يغيب (التأريخ) و يتم إقصاؤه إلى الحقل البحثي البارد أسوة بالأدراج الأكاديمية التي عادة لا تمتهن (الترويج)، بل كمثل أي ثلاّجة يمكن لها أن تحفظ (الحدث) كما هو، فيما (نار الواقع) خارجاً يتم تأجيجها بفعل (شريط الشيوع) المكرر، و المزيف…و لكنه السائد و المأخوذ به والمعمول بروحه!.
هكذا، يمكن التساؤل عن جدوى التأريخ لدليلة، أو أحدٍ من نسلها، بعد أن قَبض عليها (شريطُ الشيوع) وأودعها في الذاكرة الاجتماعية ولكن في حالة نكران لها ستلازم حضورها دائماً.
شمشون / دليلة
(في التمظهرات المعاصرة)
لا يمكن أن يتكرر التاريخ على هذا النحو الساذج الذي يمكن وفقه رؤية (اسرائيل)، وكأنها ليست سوى شمشون في تمظهره الأخير، وفي أن دليلة ليست سوى فلسطين (5) في مقاومتها لقوَّته. على أنّ الشبه والتشابه وملاحظة الارتسامات الراهنة لما هو (واقع) يضلل إلى الحدّ الذي يمكن فيه رؤية ذلك التكرار المزعوم..!
غير أنّ نفي التكرار لا يؤدي استطراداً، إلى نفي الأنساب الثقافية التي يتحدّر منها المشهد الراهن بمكوناته، حتى ليبدو وكأنه تمظهر معاصر لموجود سابق…!
إن ّ (الخيار شمشون) هو مصطلح إسرائيلي، وضع بالأصل ليعبّر عن القوة النووية الإسرائيلية المتنامية والمتراكمة على ذاتها يوماً بعد يوم منذ خمسينيات القرن الماضي. الدلالة هنا بالغة الأهمية، ذلك لأن شمشون يحمل صفتين متلازمتين: القوة الخارقة، والثقافة المغلقة غير القابلة للتعديل مهما كانت التغيرات المحيطة بها. إنها الثقافة التي تحرس (القوة وهي في منتهاها)، فيما تعمل هذه على تأكيد صدقية تلك الثقافة وادعاءاتها وأوصافها، بكونها أيضاً ناتجة من / وتنتمي إلى (نصّ وهو في منتهاه)، أي نص عابر لحركة التاريخ وهو يحمل كلّ تلك الأوهام والقصص المشوهة للروح، المبشّر دائماً (بنظام أخلاقي) لا يمكن رؤيته إلاّ في إطاره التشخيصي القائم على الثنائية المتضادة: الأنا – الآخر.
بهذا المعنى، يُنشئ (النصّ القاتل – الذي في منتهاه) فصولَه الراهنة في الواقع، أي يحاول إنتاج وقائعه المفترضة التي يتحدث عنها كتاريخ فيما يعمل على التبشير بها والوعد بتحقيقها كمستقبَل!.
من هنا، تماماً، تمكن رؤية (شمشون) مجدداً، كـ (حالة) أي كأوصاف: القوة والثقافة، وهو يجول مجدداً في فلسطين بحثاً عن مزيد من الضحايا، واشتهاءً لنزع الأعمدة لتقع السقوف على من تؤوي تحتها.
اكتسبت (إسرائيل) خبرة شمشون، في أن يكون بعيداً عن (الآخرين) مهما كانت قدراتهم (الإغوائية) عالية، ذلك لأن خصلات الشعر السبع، مصدر القوة، لا يمكن انتزاعها إلاّ إذا وضع صاحبها رأسه في أحضانهم.تبدو الخبرة المميزة في الابتعاد عن الآخرين، هنا، ليس فقط لأسباب ثقافية مرتبطة بمفاهيم (الجماعة اليهودية) عبر التاريخ، بل وأيضاً للتمكّن من استخدام (القوة وهي في منتهاها) استخداماً لا يحيل مرة ثانية إلى النهاية الشمشونية المتمثلة بتدمير المكان على الجميع بمن فيهم (هو). وعلى ذلك وفي حين اختارت هذه الجماعة (أماكنها البعيدة = الغيتو) في مرحلة ما قبل إنشاء دولتها (اسرائيل)، فإنها مع تأسيس هذه الدولة اعتمدت مبدأ إبعاد الآخرين الذي هم الشعب الفلسطيني عن الأرض التي بدأت تحتلها وتعيد صياغة المكان على النحو الذي ترى فيه نفسها وحيدة فيما الآخرون بعيدون ولكنهم تحت النظر دائماً.
في سياق واقعها المعاصر، وصلت (إسرائيل) إلى إنجاز القوة النووية لتصل إلى حالة (القوة وهي في منتهاها) فيما كُنِّي جيشها لفترة طويلة بأنه الجيش الذي لا يقهر. بدت (إسرائيل) في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين وكأنها أنجزت (الخيار شمشون) لولاّ أنها انتبهت إلى القرب الشديد التي هي عليه من الآخرين في محيطها وبالأخصّ في داخلها، فبدت حينها (قوَّتُها) رابضةً كـ (رخ) وغير قابلة للحركة، فيما بدأت تتحول إلى حامية لهذه (القوة) وحارسة لها!
تتموضع (إسرائيل) راهناً، بما هي أحد أشكال (القوة وهي في منتهاها) في المكان الذي لا يتيح لها تماماً حسم الصراع مع المشروع المقاوم لها، ذلك لأن (القُرب) بين الاثنين يحيل إلى تداخل يحمل في ذاته معطِّلاتِ الحسم. بهذا المعنى يمكن تفسير استمرار الصراع، رغم كل تلك الحروب التي حدثت منذ أكثر من ستين عاماً، والتي كانت تبدأ متجهة نحو الحسم إلاّ أنها سرعان ما تنتهي في المكان نفسه، وإن تغير تموضع الطرفين المتصارعين!
تحتاج (إسرائيل) إلى تحرير شمشونها من ذلك الاقتراب المعطِّل لقوته حتى تتمكن من استخدامها دون أن تضطر في يوم ما…. إلى ذلك مكررة فصول (السرد الشمشوني) كما جاء في (النصّ القاتل) وهي لذلك وصلت إلى إعلان الفكرة الرئيسية التي بنت عليها مشروع وجودها، أي إعلان ذاتها كدولة يهودية محض، حيث تُشكل هذه الفكرةُ المسارَ الذي يفترض فيه أن يسير مشروعها نحو أقصاه، بعيداً عن (الآخرين) و مُبعِداً لهم!. إن الدولة اليهودية بهذا المعنى، هي الرؤية الذاتية التي يحاول فيها شمشون الخروج من سيرته، بالعمل على نفي العوامل التي توصله إلى حضن دليلة، و العمل بالمقابل على قتلها!. إنها محاولة للخروج عن (النص القاتل) وأحكامه بإنتاج واقع يؤدي إلى (سرد) مختلف، لا يمكن فيه رؤية الآخرين إلاّ بعيداً وراء الجدار!
من أجل ذلك أقامت (إسرائيل) الجدار العازل، وترفض مناقشة حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وتهيء لإخراج فلسطينيي 48 من مدنهم و بلدانهم و قراهم مع أي اتفاق سلام قائم على مبدأ الدولتين التي واحدة منهما هي (إسرائيل: الدولة اليهودية).
تشكل (منطقة 48) المكان الأكثر تداخلاً مع منطقة (القوة)، التي تجد نفسها محاصرة بهذا القرب وذلك التداخل، إلى الوقت الذي اتفق فيه قادة المشروع الإسرائيلي، على اعتبار هذه المنطقة بمثابة قنبلة ديمغرافية تنفجر رويداً…. رويداً كنار بركان يحرق و يكوي ما يأتي في مجرى سيله و يؤسس لواقع آخر!.
إزاء ذلك، ومع هذا (التداخل) المذكّر بـ (السرد التوراتي)…كيف العمل؟!
لا بدّ من تغيير السرد، لا بدّ من الخروج عن (النصّ)! وبالمقابل يجب الوصول إلى نصٍّ خال من إمكانية رؤية الآخرين!
المقاومة / إستراتيجية الالتحام:
ليس الحديث عن المقاومة، هنا، بوصفها فصيلاً عسكرياً أو حزباً مقاتلاً أو دولة ممانعة للرضوخ، بل بكونها ذلك الخيار العميق بالرسوخ في المكان، والاتجاه أكثر فأكثر والاقتراب ما أمكن… وصولاً إلى حدود الالتحام بـ (القوة وهي في منتهاها) المشخصّة بـ(إسرائيل).
المقاومة، بهذا المعنى، هي: الخيار: دليلة، الذي لا يتيح لشمشون الخروج عن السرد التوراتي من الفصول الأولى، و إن كان يتجه إلى تغيير هذا (السرد) في فصله الأخير، عندما يتمكن من تفكيك (القوة) و على نحو نهائي، و عدم إفساح المجال لها باستعادة ذاتها مرة ثانية!.
إنها محاولة لا تستهدف (قتل شمشون) و تدميره بالمعنى الفيزيائي، بل تتطلع إلى انتزاع (خصلات شعره) و إعادة ترتيب (البيولــوجيا) خاصته، في عمل متأخر أكثر من ألفي عام، علّه يكتوي بمروره في منطقة (الضعف الإنساني) فيعود كواحد من الناس يتاح له امتلاك القوة، ولكنه لا يَحصر تفكيره فقط في كيف يمكنه قتل الآخرين وإبادتهم..!.
إن استراتيجية الالتحام تبغي في النهاية القيام بعملية (أنسنة) لـ (القوة وهي في منتهاها) بإجبارها على الدخول في مجرى (صناعة الانسان) على النحو الذي يعتقها من (ذاتها) المحكومة بدورها بـ (النصّ القاتل)!.
على أنّ المقاومة بما هي الخيار: دليلة، تواجه في مسعاها هذا إرثاً ثقيلاً من نكرانها و التنكر لها، و هي لذلك لا تبدو حالةً مستنسخة عن صورتها في (السرد التوراتي) حيث كانت متآلفة مع (جماعتها) و متضامنة معهم في التفكير و العمل و الطريقة التي تتمكن فيها من الوصول إلى إدراك مكامن (القوة) عند شمشون، و بالتالي العمل على نزعها!. إن ما بينها و(بعض من جماعتها) حالة من التنكر و النكران لها، في اتجاه يعرقل زحفَها نحو الالتحام و يمكّن شمشون من الابتعاد عنها و استخدام قوته ضدها!.
لم يظهر نكران المقاومة إلاّ مع انتصاراتها المدوية على (المشروع الإسرائيلي) حيث بدا أنها لا يجب أن تواصل طريقها نحو النهاية، إلى حيث (سرّ القوة ومكمنها)! فتم استحضار ذلك الإرث المشوِّه لدليلة باعتبارها متحرّشة وغاوية!. إنها تغوي (القوة) بأن تضرب وتتحرك، إنها تتحرش بالوحش الرابض بعيداً عنها، تدفعه للاقتراب! و تُمَلِّكه الأسبابَ و الذرائع كي يضرب، بإغراءاتها المتلاحقة و بتحرشاتها المتواصلة، و عدم تخليها عن مهمتها والانكفاء خلفاً والابتعاد وترك مهنة (غواية الوحش) إلى الأبد!.
هذا (أدب) إرث النكران الذي يتم فيه مواجهة المقاومة من بعض جماعتها، وهو إرث يشخّصها بكونها: دليلة الغاوية و المتحرشة بشمشون بقصد خيانته!. إنه إرث مأساوي، ولكنه قابل لـ (الطي) مع ذلك الإصرار على التقدم المتواصل، وإنهاء المسافة مع موطن (القوة) والالتحام بها والعمل على تفكيكها.
لا يؤازر التنكرُ الراهن للمقاومة (المشروعَ الاسرائيلي) على نحو تكتيكي وحسب، بل يحاول أن يقدم له خدمة استراتيجية بتمكينه من إنتاج تلك المسافة الضرورية لتحرير قوته واستخدامها عندما يريد ذلك ويحتاجه.
في أحد أوجه هذه المساهمة الخاصة، يحاول المشروع الإسرائيلي إعادة إنتاج ذلك (الخلاء) بينه والمقاومة في إطار محاولته الدائمة لإعادة إنتاج نفسه كـ (وحش) و المقاومة كـ (فريسة) في سعيه لاستعادة حالته عندما بدأ تنفيذ مهماته ابتداءٍ من فلسطين، و خصوصاً مع تأسيس دولته، عندما عمل على إنتاج الفريسة الهاربة من أرضها وبيوتها ليحل محلّها كوحش لا يمكن التفكير بالاقتراب منه أو التحرش به، وقد نجح في ذلك مؤقتاً، حيث ستتأخر (المقاومة) في إعلان ذاتها قرابة العشرين عاماً، عندما اختار الفلسطينيون أن يقتربوا مرة ثانية من أرضهم و بيوتهم حيث الوحش نفسه رابض بثقله و أخلاقه و ثقافته.
على أنّ الضربة الموجعة لـ (الوحش) سيتم توجيهها له لاحقاً عبر (المقاومة) في لبنان، التي رغم تعرضّها لـ (إرث النكران) من بعض جماعتها، تظّل على استعداد للآخذ بالخيار: دليلة والاقتراب من شمشون لتفكيك قوته.
تبقى نتيجة الصراع المعلّق حَسْمُه الآن، رهينةً بين قدرة (الخيار شمشون) على إنتاج المسافة والابتعاد كي يتمكن من استخدام قوته ضد (دليلة) التي لا خيار لديها سوى الزحف نحوه و الاقتراب أكثر فأكثر إلى حدود الالتحام التي تمكنها من السيطرة على مكامن قوته و العمل على إعادة إنتاجه كـ (واحد من الناس)!.
إن كلا الخيارين: شمشون ودليلة، يحاولان الخروج عن (السرد التوراتي)، في فصله الأخير، فحيث يريد شمشون أنّ يواصل مهنته بالتدمير وارتكاب المجازر من دون توقف، ومن دون أن يضطر إلى قتل ذاته، فإن دليلة تحاول أن تنزع مرة ثانية (خصلات شعره) ولكن من دون أن يتمكن مرة ثانية من استعادتها.
إنّ إعادة هذه الصياغة لهذه الخاتمة من أحد فصول (النصّ القاتل)، ستكون ربما، البداية الفعلية لإصلاح خطأ أدى إلى هروب وحش من عملية (الأنسنة) ولا يزال ضالعاً في حرب شعواء على محاولتها لـ (استجلابه….)!
إنها حرب خاصة صعبة وطويلة… لكن لا خيار سوى دليلة!
إشارات
1 ـ يأتي ذكر دليلة لأول مرة في إطار السرد التوراتي في سفر القضاة، (الاصحاح 16) خصوصاً، الذي يستكمل الرواية الشمشونية، وفي حين يبدأ لقاء شمشون معها بسبب حبه لها، فإن سياق السرد يعيد إنتاجها كخائنة له ومنفذة لأوامر جماعتها من الفلسطينين!. ترد على لسان شمشون عبارة (إذا أوثقوني بحبال جديدة لم تُستعمل أضعف وأصير كواحد من الناس)، بما يعني أن السرد يضعه بالأصل وبسبب من قوته كـ (واحد من غير الناس)! أي خارج إطار المواصفات والقياسات الانسانية. بهذا المعنى لم يدخل شمشون في إطار (الأنسنة)، وهو الإطار الذي كانت دليلة وحدها ممره والطريق إليه.
2ـ يرد في مقطع من ملحمة جلجامش هذا التعبير المكثّف عن عملية (إعادة ترتيب البيولوجيا)، التي تخص أنكيدو وفق الشروط الانسانية (…. خائرة كانت ركبتاه،ورفاقه ولّوا بعيداً
تعثّر أنكيدو في جريه، صار غير الذي كان
لكنه غدا عارفاً واسع الفهم…..)
3 ـ يمكن مراجعة مقالتنا (النصّ القاتل) في عدد مجلة فكر رقم ـ 104
4 ـ يمكن التساؤل مثلاً عن جدوى التأريخ لعملية إعدام أنطون سعادة في 8 تموز عام 1949 من قبل الحكومة اللبنانية، حيث شريط الشيوع سيكرّس سعادة كمتعد على الدولة وكعميل للأجنبي؟ فيما التأريخ يثبت دون أدنى لبس أن (الأجنبي نفسه) هو من وضع سيناريو اغتيال سعادة الذي نُفِّذ بأيادٍ محلية؟
5 ـ استخدمنا في سياق مقالتنا هذه اسم فلسطين في دلالته الرمزية لحركة المقاومة التي تتجاوز المعنى الفيزيائي والديمغرافي في آن.
————————–
ملاحظة: يشكل هذا البحث جانباً من كتاب سيصدر قريباً.
تستحيل القوة في اكتمالها الى نصب مقدس ينقل وظيفتة كخادم لسيده الافتراضي، فيضحي وهو الخادم اساسا، رمزاً مقدساً متعالياً ومكرساً ليُخدمَ وتحفظ عليه مكانته القدسية. يحدث هذا في لحظة حاسمة من عمر الصراع بين الجماعات المتناحرة التي تسعى اطرافها الأضعف من جهة إلى التمسك بجذر الوجود فيما تسعى الأقوى إلى التخندق في شرنقة القوة المطلقة و/أو حمل الجماعة المستضعفة إلى سرير الفناء.
هذه المقدمة السوسيوفلسفية هي استخلاص نافذ ناتج عن استقراء الكاتب لصراعات وقعت وتقع بين الجماعات البشرية. لكننا لو دققنا النظر في تاريخ الامبراطوريات الكبرى في التاريخ لوجدنا أنها تهدف غالباً إلى إخضاع/ادماج الجماعات البشرية المختلفة ضمن بوتقة صممتها قبلا وفق رؤيتها الحضارية، من هيلينية ورومانية وبيزنطية وإسلامية الخ… حتى أن بيزنطة التي أحاطت نفسها بالأسوار من جهة اليابسة وسلاح النار الإغريقية من جهة سواحلها، إنما فعلت ذلك حماية لوجودها “المقدس” المهدد من جهات كثيرة، وليس “عبادة” لقوتها القادرة المهددة للآخر.
التاريخ حافل بالأسانيد المتضادة، وهو منهل غامض وملتبس ويشبه جراب الحاوي، في كثير من الأحيان، منه نستحضر اسانيدنا ومنه يفعل الخصم الشيء ذاته.
شمشون ودليلة:
من اللافت أن تبني “اليهودية” دينا/تأريخا (بطبعاتها الثلاثة) قد أدخل شعوب وأفراد هذه البلاد الغنية بأعراقها المختلفة والمتشابهة في آن معاً، ومن بينها اليهود بالطبع (باستثناء الخزر) فهم بلا شك واحد من عديد المكونات، ذلك التبني أدخل شعوب المنطقة في تناقض سافر مع هوياتها، فعلى المصري ليس أن يتعاطف وحسب مع موسى وقومه الكارهين لأجداد المصري وبلاده، بل عليه أن يتبنى كل الترهات والخزعبلات “المقدسة” وعليه أن يقبل ما تمليه عليه الرواية التوراتية من ثنائيات الرحمن/الشيطان، المبارك/الملعون الطاهر/الدنس، حيث لا يتورع عن قبول أن تكون الثانية في هذه القسمة الجائرة من نصيب أهله الأولين، الذين لن يكف عن لعنهم وتقديس أعدائهم ليثبت أنه صالح، لا على صعيد الرمز الديني وحده، بل على الصعيد التاريخي الواقعي.
لنجرب فقط أن نسأل فلسطينياً مشردا عن موقفه من شمشون ودليلة أو من داود وجوليات لنراه ينبري لإدانة دليلة وجوليات ويقدس الأخرين رافعا اياهما إلى مصاف الأنبياء والأولياء.
ومن الطريف فعلا أن لشمشون في مدينة غزة، ضريح بقي مغلقاً، إلى أن سمحت السلطات قبل وقت قريب، بفتحه أمام أحد الصحفيين، ليتبين له أن هذا لم يكن سوى ضريح رجل مغربي صالح اسمه الشيخ محمد أبو العزم وقد بني بأمر من السلطان قنصوه الغوري عام 908 للهجرة، وليس ثمة من يفسر لنا كيف ولماذا تحول هذا المقام من بعد إغلاقه الى مقام لشمشون الجبار الذي يقدسه الغزيون أحفاد الاف من الأجداد الذين فتك بهم شمشون بتحريض من ربه العبراني حسب الرواية التوراتية.
تقول الرواية التوراتية أن شمشون تزوج امرأة فلسطينية وضاجع بغياً من غزة قبل أن يقع في غرام الفلسطينية الثالثة دليلة وهي من وادي سورق تمكنت بحيلتها وجمالها من الوصول إلى أسراره الإلهية التي منحته القوة والقدرة المخيفة على البطش. فرح الفلسطينيون بذلك لأنه كان مصدر خراب لهم. ونزلوا به إلى غزة وهناك أودعوه السجن. وَلَمَّا رَآهُ الشَّعْبُ مَجَّدُوا إِلهَهُمْ، لأَنَّهُمْ قَالُوا: «قَدْ دَفَعَ إِلهُنَا لِيَدِنَا عَدُوَّنَا الَّذِي خَرَّبَ أَرْضَنَا وَكَثَّرَ قَتْلاَنَا» (سفر القضاة ١٦).
يقول نزار ولا أوافقه في شيء قدر موافقتي له في قوله هذا:
“تنتمي دليلة، عمقياً، إلى ذلك النسل: الثقافي / الحضاري التي تُشَكِّل فيه عشتار / الإلهة إحدى أهم منابعه المفتوحة والموصولة مع نظام (صناعة الإنسان). ذلك لأن الحضور العشتاري في سياق الانتقال الحاسم لـ (البشرية) إلى (الإنسانية) طاغٍ في المجال الذي نتحدث فيه تماماً، المجال الذي يمكن فيه رؤية (القوة) و قد اندرجت في إطار النظام الجديد للبشر الذي هو وعيهم لأنفسهم كنوع وكذات واحدة قابضة على هذه (القوة) و متحكمة بها وموجهة لاستخداماتها واستثماراتها، …”
إن مقاربة نزار لهذه “الأسطورة المجهضة” هي مقاربة فريدة، يقول نزار: “يمكن رؤية دليلة في نسختها الأصلية في … المشهد الذي يُرى فيه أنكيدو في أحضان شامات (خادمة المعبد المقدسة)، حيث تجري عملية المبادلة الاستثنائية ما بين صفات القوة الجسدية وصفات القوة النفسية والعقلية”.
لقد حاول الكاتب نفض ما شان دليلة وران على اسمها من غبار التدين العرقي البغيض ورد عليها اعتبارها وعمقها الإنساني، ولو قيض لنزار أن يعيد صياغة هذه الحكاية الدرامية التي عبثت بها يد الكاتب الكهنوتي، لربما رأيناها تصير أسطورة غنية بالرمز والعمق الإنساني الملحمي.
ثمة مفارقة هنا هي أن الفلسطينيون كانوا في تلك الأيام أقوياء، متسلطين على شمشون وقومه، حتى أن شمشون الجبار ذاك، قد لاذ “بشق صخرة عيطم” هربا من الفلسطينيين وفقا للتوراة.
وأما الآن، فقد صارت حال الفلسطينيين عكس ما كانت عليه في زمن شمشون ودليلة، فها هو شمشون المعاصر يتسلط عليهم بعد أن طالت جدائله (نووية وغير نووية) برعاية الغرب الاستعماري وتوابعه من الأعراب.
(في التمظهرات المعاصرة)
هذا القسم من المقالة له أهمية كبيرة وينطوي على حساسية خاصة. حيث يحاول الكاتب أن يتلمس حدود التشابه بين لحظة ماضية (من فمها (الواحد) خرجت الحكاية)، وبين لحظة راهنة تستميت وتميت كل ما تطاله لتقلب الأمر رأساً على عقب، ولتثبت أن الحكاية أو الأسطورة هي الرحم الذي ينبثق منه التاريخ، وليس العكس. ويؤكد نزار بحق عدم امكانية التكرار الساذج للتاريخ وكأن (اسرائيل) ليست سوى شمشون، ودليلة ليست سوى فلسطين .
ويرى في الخيار: دليلة، خيار الاندماج، أنسنة الوحش، “فإن دليلة تحاول أن تنزع مرة ثانية (خصلات شعره) ولكن من دون أن يتمكن مرة ثانية من استعادتها.” وهذا لا يتحقق بأقل من تفكيك هذا البناء المختل.
تبدو هذه الرؤية التي ينتهي الكاتب إليها مخرجاً وحيدا للخلاص مما يسميه ب النص القاتل، الذي خلق واقعا يماثله ضراوة واغراقا في نكران الآخر، توطئة لاجتثاثه الكامل و قتله قتلا لا عودة منه.
هذه الرؤية هي يد الملاك الرحيمة، التي تقف دونها أظافر الشيطان. دولة الرؤيا الشمشونية المعاصرة هذه، لا أظنها ترغب أو تسمح لدليلة بذلك. إن هذه الدولة على المستوى الرمزي هي روح أسطورية ممزقة، لا ترى في أرض دليلة سوى جسد بلا روح، أو بروح ضعيفة يتحتم طردها وقتلها تماما، للحلول محلها مرة واحدة والى الابد.
لكم تبدو الكوة شديدة الضيق، لا ينفذ منها الآن، ما يكفي من الضوء، لخلق فسحة أمل ضروري لتحقيق الخيار: دليلة في المدى المنظور. إذ كلما أمد الله في عمر هذه الدولة كلما أمعنت في التوحش والانغلاق الروحي والمادي، متخذة من حيث الجوهر، صورة كائن ثنائي الجنس، “خنثى” مكتفية بذاتها داخل معزلها الذي تعود إليه إثر غزواتها، محملة بالسلب والغنائم المنهوبة من بيوت الأغيار وحقولهم.
“إنها حرب خاصة صعبة وطويلة… لكن لا خيار سوى دليلة!” يقول نزار والحق في ما يقول
مقاربة فلسفية ادبية تاريخية تحليلية على مستوى عال وملتزم قوميا بخط الصراع النهضوي. الف شكرا لك.