جماليات

قوافل …

من ذاكرة المدن: القامشلي وما قبلها

مطرٌ قاسٍ في ليلِ حَوشِنا العتيق … لاشيء سوى الصمت وابتلاع الأرض لصخب المطر …

بابٌ خشبيٌ يَخدعُ الريح، وقطعِ قماشٍ باليةٍ تسترُ عورةَ الخشب وترمم مخاوفنا …. يقترب الخوف من الباب … يدنو ليصغي لحكايته يرويها أبي لأسرةٍ أدمنت الخوف مِنْ كل ما يختبىءُ خلفَ سورِ البيتِ المتهالك.

(كانت القوافل تحمل في امتدادها شعباً بأكمله بات في عراءِ المنافي والصحاري والوديان والجبال على حين حقد … كانت القوافل وئيدة كأنها تنتظرُ تدخلاً إلهياً ينقذها، لكن الله أحياناً يرسم الأقدار بعناية).

لماذا لم يهاجموا جلاديهم يا أبي؟!

تنفرُ دمعة من عينيه الصامتتين دائماً …. (كانوا مؤمنين بالعناية الألهية أكثر مما يجب يا ولدي).

عندما كان الجميع يخلد إلى النوم، كان النوم يجافي عيناي الصغيرتان، فأصغي لتداخل أصواتٍ كثيرة في هدأة الليل تشبه هسيساً مخيفاً لليلٍ لا يريد أن ينتهي … المطر القاسي … الباب المترنح … قضم الفئران للجدران الترابية … أتسللُ للنافذةِ الكبيرة المطلة على الشارع، أزيحُ الستائر الثقيلة، أتلصصُ على العتمة … كانت القوافل تمر في شارعنا صامتة إلاَّ من نحيبٍ مكبوتٍ وصلواتٍ لا مستجيب لها، ووقع أقدام أحصنةِ الأوباش تقودُ القافلة … أرافقها  بنظراتي حتى تختفي، ويفِّرُ قلبي من صدري خائفاً بعمقٍ، أعودُ لأندسَ في فراشي … تتداخلُ الأصواتُ من جديد في فحيح الليل، وتغدو أكثرَ رعباً وحزناً لأنَ أصوات القافلة العابرة تحت شباكنا أُضيفت للأصواتِ المخيفة.

حكايات القوافل التي حملت أجدادي إلى الموت … إلى المجهول، رافقتني وزرعت في رأسي ذاكرة للخوف … عبثاً حاولت التخلص منها، لكن صورهم وحكاياتهم ووجعهم ظلت كإزميلٍ يثقبُ الذاكرة، ويرسمُ تضاريسها الوعرة كجبالِ وصخورِ مدنِ الأجداد التي باتت قصيّةً، ولم يبقَ منها إلا وشمٌ على جبينِ أحفادِ العابرينَ في القوافل.

أتدري يا أبي …

أن القوافل غابت من شارعنا لتصبح طقساً يومياً في شوارع وطرقات بلدنا … قوافل الهاربين في البحر يبتلعهم الأرزق الغادر … قوافل الهائمين على وجوههم في الأرض يمشون ولا تنتهي الغابات … يزحفون ولا نهاية للأسلاك الشائكة … ينامون في العراء بانتظار صباح لا يحمل السراب …  قوافل تحمل الهاربين من الموت ليبتلعهم موت آخر … قوافل تمضي إلى حتفها وكأن الخلاص في نهاية هذا الدرب الطويل … قوافل يومية لا تنتهي تقذف الناس من موت إلى موت، من جوع إلى جوع، من ظلم إلى ظلم.

أتدري يا أبي …

 أننا أيضاً ننتظر في منافينا قافلةً تحملنا ولو على عكازين لنعبر في سماء الوطن لنلّوح له بالوداع الأخير ….

ملكون ملكون

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق