بعد انتهاء “ليلة العمر” بحلوها وتعبها، بناسها وضجتها، بطقوسها وتقاليدها… وبعد كل لحظات الفرح والضحك والجد والمزاح، والتي تمر بسرعة غير مفهومة، بعيدة عن الإدراك في زحمة الترتيبات والأشخاص، وفي زحمة الأفكار التي تتسابق في رسم صور مسبقة عن المستقبل… ذلك الزاهي والجميل والآمن… مع أننا وحين ننظر في حياة الناس حولنا وقبلنا، نستطيع بسهولة أن ندرك أنها لم تكن يوماً كذلك، وبرغم هذا فإن كلّاً منا وعندما يكون في مقتبل مشوار الحياة، وخاصة عند “محطات البداية” يظن ويؤمن ربما، أن حياته ستكون (غير).
عند وصولنا إلى منزلنا الجديد، قدّم لي أبو باسل وبصورة غير متوقعة بالفعل، باقة صغيرة من الورود، كان واضحاً جداً أنّه انتقاها ونسّقها بيديه الكريمتين، من حديقة منزلنا الريفي الأنيق، ربما صباح اليوم فقط، لأنها تبدو نضرة جداً. وقال: (أنت ورود حياتي).
لا يمكنني وصف السعادة والغبطة التي دخلت جسدي من كل جهاته، وتخللته بارتعاشة تشبه قشعريرة نسمة باردة تنعشنا في مساء يوم خريفي، معلنة نهاية الحر، وبدايةً الخصب، والماء، والعطاء.
وبالفعل بدأت أيام العمر تمر بصورة جميلة عموماً، وإن كانت تتخللها بعض الكبوات والنبوات، ولكنها كانت حلوة وزادت بريقاً يوم دخلنا عيادة طبيب النسائية الوحيد يومها في بلدتنا، والذي بشرنا بالحمل… من يومها صار أبو باسل يسميه “وجه الخير” فلا شيء يعادل الذرية عند رجال الشرق، ونساءهم ربما، إلاَّ خبر جنس الجنين… نعم، فبعد أشهر حملت زيارتنا للطبيب خبرها الأحلى، إنه ولي عهدنا الموعود، باسل، وقد صار الاسم رسمياً منذ ذلك الحين، تماماً كما كنية “أبو باسل”. فرحة الولادة تمحو آلامها وأحمال الأشهر التي تسبقها، ويبدأ مشوار جديد…
بالنسبة لي، كانت أهم محطّات التربية هي استكشاف الميزات الشخصية لأطفالنا. فهم وإن كانوا ثمرة أجسادنا، ونتاج رعايتنا نحن، ولكنهم يبدؤون بالتشكّل وإبداء صفات وطباع مختلفة عنّا وعن بعضهم البعض… كان باسل يكبر وتكبر معه الرزانة والهدوء والجديّة، فينتابني كل يوم شعور جديد من الثقة والسرور، لقد صار عندي في البيت رجلين.
أما هشام فكان الأصغر والمختلف بكل شيء، السعيد المرح، والنزق النشيط، والغاضب المنفلت… صديق الجميع في الحي والبلدة، وشعاع النور حيث يكون.
عندما “تمتلك” ابنين مثل باسل وهشام، يكملان بعضهما ويغلقان كل منافذ القلق والريبة، تظن أنك امتلكت الكون، وأنه صار طيعاً في يديك. تعود لك أوهام الشباب مجدداً، تحكي عن الخلود والبقاء، بثقة الجمال الذي في عيونهم، وبثبات الرابط المتين الذي يجمعهما، بصورة لم نكن نحن ندركها تماماً، حتى جاءت الحرب وبرهنت بطريقتها أنهما صنوان لا يفترقان.
عند ذهاب باسل لخدمة العلم، وقف الحي كلّه – أو هكذا بدا لي – باحترام لرصانة ذلك الشاب، الذي كان الهندام المنظم يليق به كثيراً… كثيراً. ولكن الجميع كانوا يفخرون به. وعندما اشتدت المعارك واشتعلت حيث كان يخدم بعيداً جداً عن المنزل، قريباً جداً من قلبي، صرت أتلقى اتصالات الجوار والأقارب بصورة دورية بالساعات والدقائق، يطمئنون وكأني كنت أنا الآمر الناهي… حتى جاءني الاتصال الذي لا يشبه شيئاً في الحياة، ولا تجرؤ كإنسان على تذكره، مع أنه يدق باب جمجمتك في كل حين بعدها… (سيدتي مبروك عليكم ارتقاء البطل) … كلمات ليست كالكلمات بالفعل… ترفعك لحدود الشمس وترميك في بقعة الألم الدائم. ازدواجية لم أستطع فك مضامينها أبداً بعد ذلك اليوم.
بدا لي في تلك اللحظات، أن أصعب ما في الحياة إيصال الخبر لقطعة قلبي الثانية هشام، والذي التحق متطوعاً في الجيش بعد أشهر من تفاقم الحرب، وعنوانه أنا لست آخرا.. أنا باسل وباسل أنا، والأرض تحتاجنا معاً… وهذا ما حصل… وبصورة كلما عدت إليها يومياً لمئات من المرات، تبدو أكثر تعقيداً وصعوبة وغموضاً… فكيف يمكن لهشام، روح المنزل، وضحكة البلدة، أن يتابع اللحاق بأخيه حتى الشهادة! كيف يمكن لهذه الحرب أن تلتهم أبنائي وأنا وهبتهم للحياة، أو هكذا كنت أظن!!
بعد ارتقاء باسل، ظننت أنني وصلت حدود المأساة والألم، وسرعان ما قالت لي الحرب… هنالك المزيد. وتركتني في محاولة دائمة لمعالجة ثنائية الفخر والوجع، وفك طلاسمها التي مازالت تزداد تعقيداً يوماً بعد يوم، وتتركني عرضة لشيزوفرانيا الأرض تأكلني على ضفتين… فتارة أنا الضحية المظلومة بثكل أبنائي، وطوراً أنا الأم المعطاء التي قدمت كل شيء، فصارت أم الوطن… هكذا تمر الأيام بين ضحية وأم تكذّب كل منهما الأخرى، ثم تعود وتهزم أمامها… وهكذا دواليك.