الفلسفة المدرحيّة
مقاربة منهجيّة من وجهة علم الجمال
المدرحية، هذا المصطلح الفلسفي، الذي وضعه أنطون سعادة، وأثار الكثير من الكتابات والنقد والالتباسات، حيث سبقت هذا الطرح الفلسفي الفلسفة المادية والفلسفة الروحية، لكنهما لم ينجزا فكراً إنسانياً مستقبلياً صريحاً، كذلك لا يمكننا اعتبار المدرحية كتوليفة، أو توفيق بين المادية والروحية حسب ما فهمناه من كتابات سعادة، بل هي كلٌ متفاعل واحد لا فصل بينهما.
سنقارب هذه المسألة بمعناها العام عند سعادة أولاً، ثم نركّز مقاربتنا برؤيتها من وجهة علم الجمال كما يقدمه الدكتور نايف بلوز.
يقول سعادة في محاضراته:
(إن العالم قد شهد في هذه البلاد أدياناً تهبط إلى الأرض من السماء أما اليوم فيرى ديناً جديداً من الأرض رافعاً النفوس بزوبعة حمراء إلى السماء)
ويكتب سعادة في الصراع الفكري في الأدب السوري:
(العقلية الشرقية … عجزت عن فك قيود الروح المادية بنظرة إلى الحياة والكون فاهمة)
وهنا يضع سعادة الإشكالية الأساسية للنهضة والعمل في فك القيود المادية للروح ورفع النفوس، علماً أن سعادة كتب في مؤلفه نشوء الأمم، أن مركب الإنسان هو: جسم – نفس – محيط، أين هي الروح! لا توجد الروح في هذا المركب، التي يريد سعادة فك قيودها المادية.
هذا يحيلنا إلى البحث عما قصده سعادة بالروح التي لم يعتبرها من ضمن تركيبة الإنسان التاريخية.
كما يكتب سعادة في مقدمة نشوء الأمم:
/(إن الوجدان القومي هو أعظم ظاهرة اجتماعيّة في عصرنا، وهي الظّاهرة الّتي يصطبغ بها هذا العصر على هذه الدّرجة العالية من التّمدن. ولقد كان ظهور شخصيّة الفرد حادثاً عظيماً في ارتقاء النّفسيّة البشريّة وتطوّر الاجتماع الإنسانيّ. أمّا ظهور شخصيّة الجماعة فأعظم حوادث التّطوّر البسريّ شأناً وأبعدها نتيجة وأكثرها دقةً ولطافةً وأشدّها تعقّداً، إذ إنّ هذه الشّخصيّة مركّب اجتماعي ـــــ اقتصاديّ ـــــ نفسانيّ يتطلّب من الفرد أن يضيف إلى شعوره بشخصيّته شعوره بشخصيّة جماعته، أمّته، وأن يزيد على إحساسه بحاجاته إحساسه بحاجات مجتمعه وأن يجمع إلى فهمه نفسه فهمه نفسّية متّحده الاجتماعيّ وأن يربط مصالحه بمصالح قومه وأن يشعر مع ابن مجتمعه ويهتمّ به ويودّ خيره، كما يودّ الخير لنفسه).).
ففي كل ما هو مطلوب من الفرد لا نرى هنا الروح.
كلّ جماعة ترتقي إلى مرتبة الوجدان القوميّ، الشّعور بشخصيّة الجماعة، لا بدّ لأفرادها، من فهم الواقع الاجتماعيّ وظروفه وطبيعة العلاقات النّاتجة عنه. وهي هذه العلاقات الّتي تعيّن مقدار حيويّة الجماعة ومؤهّلاتها للبقاء والارتقاء، فبقاؤها غامضةً يوجد صعوبات كثيرةً تؤدّي إلى إساءة الفهم وتقوية عوامل التّصادم في المجتمع فيعرقل بعضه بعضاً ويضيّع جزءاً غير يسير من فاعليّة وحدتهه الحيويّة ويضعف فيه التّنّبه لمصالحه وما يحيط بها من أخطار من الخارج.
فلا بد من الفلسفة للوصول إلى كل الأفراد كما طرح سعادة.
إذا:
ما النفس في القومية الاجتماعية؟
ما الروح في القومية الاجتماعية؟
في هذا السياق يكتب المفكر الإسلامي الدكتور المهندس محمد شحرور موضحاً الفرق بين النفس والروح، ما يساعدنا على الاقتراب أكثر من فكرة الروح لدى سعادة:
(هناك خلط شائع بين معنيي الروح والنفس، والروح في التنزيل ليست سر الحياة، بل هي التشريع والمعرفة والأخلاق، ولا وجود موضوعي لها خارج الإنسان… والروح هي واسطة تنزيل المعلومات والأوامر إلى الإنسان….. أما النفس فهي نوعان النفس البشرية ككائن عضوي حي تنطبق عليه الحياة والموت ككل الكائنات الحية الأخرى، والنوع الثاني هو النفس الإنسانية التي تعبر عن المشاعر والأحاسيس من فرح وحزن و…… ، وهذه المشاعر لا تموت لأنها غير مادية…. والانفصال بين النفسين لا يكون إلا بالموت، أما الروح فلا تموت ولا تتوفى…….وكلما فعلت الخير في نفسك كلما فعلت الروح فيها واستحقيت إنسانيتك التي نلتها بنفحة من روح الله.
كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون – سورة العنكبوت 57… فالنفس هي التي ستموت ليحاسبها الله وليست الروح)
ويقول السيد يسوع: ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه؟
وربما تشكل موضوعة النفس مجال أو تقاطع كبير مع الفكر الديني.
نذهب إلى المحاضرة العاشرة لسعادة:
في ظل انعدام الحياة الاجتماعية، والحياة الاجتماعية المجتمعية، ومعنى الحياة المجتمعية. والشعور بالمسؤولية الفردية، ووجود الخيانة. يقول سعادة:
(هكذا كانت الروحية السائدة في هذه البلاد)
فالروحية السائدة هي التي تفرض حضورها على الروح الفردية في الممارسة فإما أن تنكفئ أو تواجه أو…..
ويكتب الدكتور نايف بلوز في كتابه علم الجمال – الصادر عام 1980 في كلية الفلسفة من جامعة دمشق:
(إن أشمل حقائق الروح لا تنفصل عن جملة علاقات الإنسان الموضوعية في هذا العالم، وبالدرجة الأولى علاقاته السياسية، والاجتماعية، والحقوقية، والأخلاقية.)
فأيا كانت حقيقة الروح، فهي على علاقة وطيدة ومباشرة مع الواقع والحياة، لهذا فالمدرحية، أو القومية الاجتماعية هي دين جديد رافع النفوس بزوبعة حمراء إلى السماء. ولنلاحظ استخدام سعادة لمصطلح: النفوس المرتفعة إلى السماء.
ما القصد من اعتبار القومية الاجتماعية: ديناً جديدا!!، جديدا!!، جديدا!!، هذا يعني أن هناك أدياناً قديمة، أو أصبحت قديمة.
فالروح موضوعة اجتماعية أرضية وليست من خارج نطاق سيطرة الإنسان والمجتمع.
ما النفس؟
يكتب سعادة في مؤلفه الصراع الفكري في الأدب السوري:
(لفظة ” النفس” التي تدل، سواء أكانت مفردة أو مجموعة، على أقوى وأسمى ما في الإنسان…
الشعور الإنساني ذاته متصل بالفكر اتصالاً وثيقاً في المركب العجيب الذي نسميه النفس
تواجه النفس الإنسانية الراقية، القضايا الأساسية، (المركبة بكل مافيها من أفكار وشعور ومطامح وميول ومثل وما تتعرض له من الصراع العنيف، الخفي أو المعلن، بين الأجمل والأقبح وبين الأسمى والأسفل وبين الأنبل والأرذل)
أن العقل والشعور، أن عمل الإحساس والفكر، هو كل نفسي لا يمكن أن يزال العقل منه)
ويقول سعادة في المحاضرات:
(يدعون أنفسهم قوميين اجتماعيين، لأنهم مسجلون رسمياً في الحزب، يتقولون في قضايا الحزب والعقيدة والحركة كما لو كانوا جماعة غرباء عن الحركة القومية الاجتماعية بالكلية)
نلاحظ أن النفس هي العامل الأهم والأسمى في الإنسان، فهي الغاية في داخل الإنسان، غاية النهضة، وترتبط بالجسم والمحيط في مركب تاريخي – ثقافي – اجتماعي. وكذلك بالعقل والشعور، وبعمل الإحساس والفكر.
ضمن حدود اطلاعي لم يوضح سعادة الروح، لكنها ترتبط بالسمو لأنها تشكل رافعة.
فالنفس موضوع فردي – شخصي – اجتماعي، أما الروح فهي حركة النفس في الحياة، في تفاعلها الاجتماعي المجتمعي، وأغلب الظن سمى سعادة نتائج الحركة العامة في الحياة، الروحية.
فيمكن لنا أن نبتدئ بفرضية، وكأن الروح محمولة على النفس، وتبقى النفس هي الأساس.
وقد ورد في القرأن الكريم، يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية ….، فالنفس هي التي تعاني في جهنم وليست الروح، فنرى البعد الديني في النفس، وغاية القومية الاجتماعية هي في الارتقاء النفسي. وقد يشكل هذا علاقة ما مع الفكر الديني…؟
يكتب سعادة في كتابه الصراع الفكري في الأدب السوري:
(…فللشرق مادية قوية وروحية منعكسة على المسائل الخفية التي لاتبرز إلى الحياة أو الوجود، وللغرب مادية قوية وروحية تعني الوجود وبتسامي الحياة ضمن الوجود الإنساني، وهي على عكس روحية الشرق التي طلبت التسامي وراء الوجود (الوجود الإنساني). ولذلك أرى من أشد الخطأ حسب ان التسامي وراء الوجود وحده “روحية” والتسامي ضمن الوجود “مادية”.) بالاستنتاج فإن الروحية هي التسامي في الوجود، وفي المجتمع.
فإن العقل السوري الذي خطط للمتوسط والغرب قواعد ثقافته المادية والروحية رأى أن الانتصار على المادة يكون بمعالجتها والقبض عليها وتسخيرها للغايات النفسية الجميلة التي تجعل الوجود الإنساني جميلاً، صريحاً، نيراً).
بهذا التوضيح لفكرة الأمة يفترض أن ترتقي النفوس، كيف…؟ أو بفك القيود المادية للروح.
يكتب سعادة في الفصل السادس من مؤلفه نشوء الأمم:
(رأينا في ما تقدّم من فصول هذا الكتاب الأسس والخطط العامّة لتطوّر البشريّة وارتقائها في ثّقافاتها الماديّة الناتجة عن تفاعل الإنسان والطّبيعة بقصد تأمين سدّ الحاجة وبقاء الذّرّيّة. ورأينا أيضاً كيف أنّ الثّقافة النّفسيّة جارت الثّقافة الماديّة وقامت عليها، إذ الحياة العقليّة لا يمكن أن تأخذ مجراها إلا حيث تستتبّ لها الأسباب والمقومات. ولذلك نجد التّطوّر الثّقافيّ بجميع مظاهره يرتقي ويسبق غيره حيث أسباب الحياة أوفر وأرقى ممّا في سواه….
تقصّينا فيما دوّناه آنفاً الأساس الماديّ للاجتماع البشريّ وأحواله وبهذا الفصل نبدأ بدرس البناء النفسيّ لهذا الاجتماع. ولعلّ الدّولة أجدر الشّؤون والمظاهر الثّقافيّة تمثيلاً للحياة العقليّة الّتي هي من خصائص الاجتماع الإنسانيّ حتى ليمكن القول إنّ الثّقافة الإنسانيّة والدّولة صنوان.)
لم يكتب سعادة هنا عن الروحية والروح ولا عن الثقافة الروحية.
يمكن لنا الاطلاع على ما كتبه الأمين انعام رعد في كراسه تحت عنوان المدرحية هو مرحلة من عدة مراحل للوصول إلى ماهية المدرحية وتطبيقاتها.
فلسفة سعادة ليست تفسيراً لما وراء الطبيعة (الكون بحد ذاته) بل فلسفة المجتمع الإنساني…. وهي بديل لعقيدة تفسير التطور الإنساني بالمبدأ الروحي وحده وعقيدة تفسير من جهة أخرى بالمبدأ المادي وحده. وهذه الفلسفة الجديدة التي يحتاج إليها العالم، فلسفة التفاعل الموحد الجامع لقوى الإنسانية…. لأن أساس الارتقاء الإنساني أساس مادي – روحي، مدرحي،.. ويقوم على مقولة التفاعل بين العوامل المادية الروحية… فالتفسير هو للإرتقاء باعتماد مقولة التفاعل.
سؤال آخر أمامنا، ما هي العوامل المادية والروحية؟
يكتب سعادة في كتابه الإسلام في رسالتيه، إن المبدأ الذي جاء به سعادة هو نظرة فلسفية شاملة تتناول قضايا العالم الاجتماعية والاقتصادية، وشرحها يقتضي كتابا على حدة يبحث في المبادئ الماركسية المادية لتنظيم المجتمع، والمبادئ الفاشية النازية الروحية لتنظيم المجتمع، والصراع بين هاتين الفئتين من المبادئ، ثم مبدأ سعادة الذي يخرج من القاعدتين المتصادمتين بقاعدة واحدة عامة يمكن أن تجمع عليها الإنسانية وهو بحث واسع، بل فلسفة كاملة في الاجتماع والتاريخ.
مقولة التفاعل هي اذن محور المدرحية ومحركها…. كمقولة أم لكل الفلسفة القومية الاجتماعية
والتفاعل هو بين الجماعة المتفاعلة داخلياً ومع البيئة الطبيعية المحيطة.
لكنني أضيف هنا، مقولة الشكل، فتصبح من وجهة نظري هناك مقولتين مركزيتين في القومية الاجتماعية.
مقولتا التفاعل والشكل
العقل، الإنتاج، الثقافة. ثلاثة عوامل نامية في سياق نشوء الأمة، ويشمل جزءً من الثقافة تنظيم المجتمع، تنظيم عملية التفاعل، تنظيم الشأن السياسي والحقوقي – الدولة، تنظيم الشعب، شرائعه، حقوقه المدنية والإنسانية.
…في درس سعادة لعملية التفاعل بين الإنسان والبيئة يقدم تفسيراً لدور العقل الإنساني ونشوئه ونموه … على قاعدة التفاعل مع البيئة، كما أنه يقدم تفسيراً لنشوء الاقتصاد بتفاعل العقل مع البيئة ومواردها. … والعقل وكل تراثه الثقافي والاقتصادي وكل تراثه العمراني يشكل جوهر الحضارة الإنسانية المادية – الروحية.. ونطاق فعل العقل هي عملية التفاعل هذه.. إن تقدم العقل البشري ونموه، إنما حصل بحافز ونتيجة التفاعل مع البيئة لبلوغ الأرب مداورة. وفي هذه العملية نشأت عمليتان عقليتان، عملية تنظيم المجتمع وعملية تنظيم علاقة المجتمع مع البيئة. عملية تنظيم المجتمع هي التي عينت الحقوق المدنية والسياسية وأبرزت كيان الدولة والشرائع والموجبات، وعملية تنظيم علاقة المجتمع مع البيئة هي التي أنتجت الاقتصاد. أي المظهرين النفسي والمادي لحضارة الإنسان… فالتفاعل لا يمكن أن يستقيم إلا بوجود العامل المادي.. والفاعل هو الإنسان، الجماعة البشرية…
لكن العقل اليوم تجاوز الحالة التقليدية لنموه وأصبح مجاله خارج الأمة، يقع في العالم كله، فالعلم وتجارب الشعوب أصبح متنوعة وواقع يمكن للعقل الاطلاع والتعرف عليها لينمو بها.
ليست الأرض منتجة الأمة.. وليست الأمة حصيلة حتمية جغرافية.. وليست الأمة حصيلة الإنسان في فراغ من الأرض والبيئة.. العلاقة الطبيعية الأساسية بين الأرض والإنسان هي محور اهتمام الفكر القومي الاجتماعي…. فالقومية الاجتماعية تنطلق من مقولة التفاعل وليس من مقولة الأرض، ولا من مقولة الإنسان في التجريد.. والأمة على هذا الأساس وحدة حياة، هي المتحد الأتم.. الذي تراز به كل العوامل الأخرى وتقاس على مدى إسهامها في تكوين وحدة الحياة هذه… إن عملية التفاعل لا يمكن أن تكون أحادية البعد، أي ليست مادية فقط ولا روحية فقط، الفلسفات الأحادية البعد لا تكون فلسفة التفاعل.
في تحديد الأمة – المجتمع الطبيعي يكتب سعادة، شرط المجتمع ليكون مجتمعاً طبيعياً، أن يكون خاضعاً للاتحاد في الحياة والوجدان الاجتماعي، أي تجري فيه حياة واحدة ذات دورة اجتماعية اقتصادية واحدة تشمل المجموع كله وتنبه الوجدان الاجتماعي…. فالاتحاد في الحياة، أي الدورة الاجتماعية الاقتصادية متلازمة مع بروز أو تنبه الوجدان الاجتماعي…. الإطار المادي الضروري للحياة لم ينظر إليه سعادة في التجريد بل من خلال ارتباطه بعملية التفاعل المولدة للدورة الاجتماعية الاقتصادية .. بنمو فعل العقل في شروط حياته المادية. … وهكذا فإن علاقة الذاتي بالموضوعي علاقة تفاعلية عضوية لا انفصام فيها.
المعادلة الأساسية هي، كلما ازدادت طاقة المجتمع على الفعل في بيئته، كلما تبدلت معادلة التفاعل بنسبة القدرة الإنسانية على الانتفاع من إمكانيات البيئة، يستتبع هذا مبدأ النسبية الاجتماعية في التفاعل، بمعنى كما هو هام معرفة ممكنات البيئة الطبيعية، فهام وأساسي أكثر معرفة مرحلة نمو الجماعة البشرية المتفاعلة معها وبلوغها مؤهلات معينة تمكنها من هذا التفاعل.
وكمثال على النسبية الاجتماعية، الجزيرة العربية قبل ظهور النفط وبعده، وكيف تمت عملية التفاعل بين الأرض والسكان…ويخضع هذا المثال وسواه لمعايير وقواعد مهمة تتعلق …. بتشريح لمختلف العوامل النفسية والعقلية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية في مرتبة التطور التي بلغها المجتمع المعني بالتفاعل مع البيئة….. فلا يكفي امتلاك الآلة إن لم تكن علاقات المجتمع وأنظمته متيحة إطلاق حيويته للتفاعل الأقصى. إن قوة الأمة أو ضعفها، تقدمها أو تأخرها إنما يكون على شرطين، ممكنات البيئة الاقتصادية (الشرط الموضوعي) وقدرتها على الانتفاع من هذه الممكنات والإمكانيات (الشرط الذاتي) …. ثنائية التفاعل هي، العقل والمادة، الذات والموضوع، الإنسان والبيئة وممكناتها على أنها علاقات التفاعل في شموله العوامل المادية والنفسية.
فالقومية الاجتماعية تنطلق من مقولة التفاعل (ذات – موضوع) وليس من مقولة الأرض، ولا من مقولة الإنسان في التجريد.. والأمة على هذا الأساس وحدة حياة، هي المتحد الأتم.
في هذا المفهوم علينا أن نعرف ما الإنسان؟، وما الأرض؟، والتفاعل بينهما.
إن ما كتبه رعد يشير إلى عناوين عريضة في المدرحية، فيما يأتي الدكتور نايف بلوز ليخوض في تفاصيل فلسفية تشير إلى القيم المدرحية، المادية، الروحية.
يقول سعادة في محاضرته السادسة:
نحن نكون الناحية السلبية، والأرض، وهذا الكون الذي أمامها الناحية الإيجابية لنا، ومن هذا يقتضي أن يكون لنا استقلال روحي……إنه استقلال فكري روحي، أي أنه استقلال نفسي بكل معنى الكلمة.
إذا كانت الأمة أساس مادي وبناء روحي وفق ماورد في محاضرة سعادة (الفلسفة الاجتماعية معنى الأمة وصفتها).
فهناك قيم مادية وقيم روحية، ليست منفصلة، بل مرتبطة ببعضها ومتفاعلة في سياق التفاعل.
لا شك من وجهة نظري أن ما كتبه د نايف بلوز يقع في صلب ديناميكة تفاصيل التشكل المدرحي في واقع الحياة، ويبين كيف هي علاقة المادة والروح الإنسانية في حباة الإنسان. ودور الفلسفة والجمال والفن. ولم أر من المناسب أن أعيد كتابة هذا وفق فهمي وأسلوبي، فللأمانة رأيت أن أنقل المقاطع كاملة للقارئ كما كتبها د بلوز، في كتابه الجامعي – كلية الفلسفة، إذ لا يمكن التصرف بها، ولا قراءتها إلا كما كتبها.
إن القضية التي قدمها سعادة ليست قضية عادية إطلاقاً، ولا يمكن قراءتها وممارستها، إلا مترابطة مع الحق والخير والجمال والنظرة إلى الحياة والكون والفن مع الغاية الأخيرة التي أرادها لنا سعادة:
الحياة وجمالها وخيرها وحسنها هو الغاية الأخيرة التي تشكل سياقاً ملزماً لسلوكنا وفكرنا وسياستنا وحياتنا، كذلك لقراءتنا للعقيدة وممارسة الدستور،
ويمكن لنا أن نفهم ما كتبه الدكتور بلوز في سياق الغاية الأخيرة التي أرادها لنا سعادة.
يكتب الدكتور نايف بلوز في كتابه علم الجمال – جامعة دمشق عام 1980:
إن العلاقة بين التفكير الفلسفي والتفكير الجمالي الفني علاقة شديدة الوثوق، والأمر لا يقتصر على كون بعض المفاهيم مثل الكمال والغائية والمثل الأعلى والانسجام والقيمة والإبداع والنظام مفاهيم فلسفية وجمالية في ذات الوقت، بل تتعداه إلى أن الفلسفة بوصفها وحدة تركيبية تجمع بين الحكمة وطلب الحقيقة والتلخيص النظري للتجربة والمعرفة الإنسانيتين، لا تستطيع أن تعالج مسائلها الكبرى مثل الحرية ومعنى الحياة ومصير الإنسان ونظام العالم والوجود والصيرورة دون أن تولي اهتماما كبيرا للحياة الجمالية والفنية التي تعبر فيها الإنسانية عن ذاتها ومستقبلها تعبيرا شاملا مبدعا حرا وتمتلك فيها، ولو إلى حين، أحلامها، إن كلا من الفلسفة والفن يقوم بأسلوبه الخاص باكتشاف الواقع ووعي حقيقة الإنسان وصراعاته وحدوده ومشاكله واقتراح مشروع لجدارته الإنسانية.
إن الثقافة الجمالية والفنية جانب من الثقافة الإنسانية يشتمل على كل المنجزات والوسائل والأساليب التي يمتلك فيها الإنسان العالم بمختلف مظاهره وأحداثه وأشيائه امتلاكا روحيا – جماليا. إن مهام الثقافة الجمالية الفنية أن تغني وتوسع المجال الروحي الإنساني وتسمو بالذوق والمشاعر النبيلة وتحرك القوى المبدعة في الإنسان.
الجمال كائن في الفكر الذاتي ويتغير بتغيره… وهو أمر متصل بطبيعة الإنسان لا بتاريخه الاجتماعي، ومعايير الجمال هي الطبيعة الإنسانية أو الإحساس الذاتي…
إذا كان دور الثقافة الفنية في العالم العربي اليوم أشد بروزا وأهمية من الأشكال الثقافية الأخرى فهذا ليس دليلا على فاعلية هذه الثقافة في تعميق إدراك جمهور المتلقين لشروط حياتهم الواقعية المحدودة وتعميق تصميمهم على الإعداد لحياة جديدة وأرقى. ومن هنا خطورة المضمون الإيديولوجي للثقافة الفنية.
يكتب سعادة في مقالته، نظرة سعاده إلى الإنسان
النظام الجديد، بيروت، المجلد 1،
العدد 2، 1/4/1948
….. يجب أن ننعم النظر في مراتب التسلسل الفكري الإغريقي الثلاث: المرتبة الأولى، التي تبتدىء في الدور السابق لسقراط، وموضوعها السؤال عن الكون، ما هو الكون وما هو مبدأه (من طاليس إلى السفسطائيين) المرتبة الثانية، التي ابتدأها الصوفستيون (السفسطائيون)، وموضوعها السؤال عن الإنسان ما أنا؟ أو ما هو الفلسفة بعد أرسطو، وموضوعها ماذا يجب على الإنسان، ماذا يجب عليّ؟ ونعرّف المرتبة الأولى بالميتافيزيقية والمرتبة الثانية بالمعرفة والمنطق والمرتبة الثالثة بالأخلاق أو السلوك الحسن.
وهنا تأتي الفلسفة المدرحية، القومية الاجتماعية، للإجابة على السؤالين الأخيرين المرتبطين بالمعرفة والأخلاق. وهي غير معنية بالسؤال الأول ما الكون.
الإنسان ما أنا؟
ماذا يجب على الإنسان، ماذا يجب عليّ؟
يكمل سعادة: سواء أكان جعل السفسطائيين الإنسان موضوع تفكيرهم، بوعي صحيح، كلي لخطورة التطور الذي أحدثوه، أم بلا وعي، فإنّ قيمة موضوعهم هي: أنه يجب على الإنسان، الذي يحاول أن يوضح أحجية “ما هو الكون؟” سؤال أسبق هو “ما هو الإنسان نفسه الذي أخذ على عاتقه حل أحجية ماهية الكون؟”
عن نايف بلوز:
…. وتقوم العلوم المعيارية بالإجابة على السؤال في هذا العصر، ماذا يجب على الإنسان، ماذا يجب عليّ؟
مفهوم العلـوم المعيارية: هي العلوم التي تهتم بوضع المعايير والمقاييس التي تحدد ما يجب أن يكون عليه التفكير كعلم المنطق، أو السلوك كعلم الأخلاق، أو الذوق الجمالي كعلم الجمال.
وموضوع هذه العلوم هو دراسة القيم ووضع المقاييس والقواعد التي تفهم على ضوئها، ففي علم المنطق ومعياره الحق ويبحث في القواعد التي ينبغي أن يكون عليها التفكير الصحيح، وفي علم الأخلاق ومعياره الخير يبحث في النموذج المثالي الذي يجب أن يكون عليه السلوك الإنساني، وعلم الجمال ومعياره الجمال ويبحث في وضع الأسس والمقاييس التي يمكن التمييز والحكم بها عن الجمال والقبح.
من هنا يمكن القول أن العلوم الإنسانية والعلوم المعيارية يلتقيان في أن جوهر موضوعهما واحد هو الإنسان، لكنهما يختلفان كليا من حيث تناول الموضوع وطريقة دراسته والتعامل المنهجي معه، فالعلوم الإنسانية تدرس ما هو كائن وموجود كواقع يمكن ملاحظته والتثبت منه بالفعل. أما العلوم المعيارية فتدرس ما يجب أن يكون وتحديد المعايير المثالية للحكم.
يتابع بلوز:
بدون الارتقاء إلى المستوى الفلسفي يظل الباحث عاجزا عن فهم طبيعة الجمالي وعن تحديد وظائف الفن في الحياة وعلاقة كل هذا بالصراعات الإيديولوجية.
يكتب د. بلوز أيضاً، أن الحق والخير والجمال من علوم القيم، العلوم المعيارية التي تضع قواعد ومعايير للسلوك الإنساني، لما ينبغي أن يكون عليه، وتتضمن علم المنطق الذي ينشئ قواعد التفكير السليم وقيمته الحق، وعلم الأخلاق الذي يحدد مبادئ العمل والسلوك الإنساني وقيمته الخير، ثم علم الجمال الذي يحدد معايير جمال وروعة الأشياء وقيمته الأساسية الجمال.
ويكتب سعادة في نشوء الأمم أن، (الحياة العقلية تشتمل على المنطق والأخلاق وسلامة الذوق) الحياة العقلية المرتبطة بالحق والخير والجمال، ونلاحظ هنا مدى أهمية حيوية العقل، وليس العقل بحد ذاته، في قيم الحق والخير والجمال.
ويكتب بلوز: لا شك أن ثمة علاقة بين الإحساس والمشاعر من جهة والجمال من جهة أخرى، فنحن نتلقى الجميل والجمالي أو الصفات الجمالية في عملية الإدراك الحسي للعالم.
إن الجمال يحدد من زاوية معينة علاقة الإنسان بالعالم وينطوي على نظرة شاملة إلى العالم. وبفضل استخدام مقولات فلسفية عامة مثل، ذاتي، وموضوعي وشكل ومحتوى وطبيعي واجتماعي وواقع ومثل أعلى…يتم التعبير عن النظرة إلى العالم وتعيين الجانب الذاتي والجانب الموضوعي والعلاقات بينهما في المجال الجمالي. وهذا وجه من أوجه علاقة الإنسان الشاملة بالعالم.
إذاً، من وجهة نظري، من يريد الكتابة في الفلسفة فعليه المرور على المصطلحات التالية:
الكمال والغائية والمثل الأعلى والانسجام والقيمة والإبداع والنظام… الحكمة وطلب الحقيقة والتلخيص النظري للتجربة والمعرفة الإنسانيتين… الحرية ومعنى الحياة ومصير الإنسان ونظام العالم والوجود والصيرورة ….. اكتشاف الواقع ووعي حقيقة الإنسان وصراعاته وحدوده ومشاكله واقتراح مشروع لجدارته الإنسانية…. ذاتي، وموضوعي وشكل ومحتوى وطبيعي واجتماعي وواقع ومثل أعلى…يتم التعبير عن النظرة إلى العالم وتعيين الجانب الذاتي والجانب الموضوعي والعلاقات بينهما في المجال الجمالي. وهذا وجه من أوجه علاقة الإنسان الشاملة بالعالم.
يكمل د. بلوز:
يقر معظم الباحثين بتأثر علم الجمال بالفلسفة والمنهجية الفلسفية. تنعكس وتحدد اتجاه الفهم الجمالي للعالم والفن وتجلياته وآفاقه وإمكانياته. إن الاختلاف الإيديولوجي لا يظهر في الدراسات التجريبية الجزئية والملاحظات الثاقبة والخصائص العينية، بل في الأحكام الكبرى والتعميمات النهائية.
إن موضوع علم الجمال هو نشاط الإنسان الجمالي أو حيازته الحياة الإنسانية وفق قانون أو مقاييس الجمال.
كذلك، يكتب سعادة في مقالته، الفلسفة الاجتماعية معنى الأمة وصفتها
المجلة، بيروت، المجلد 8، العدد 3، 1/5/1933
(رأينا أن نبحث بحثاً مستقلاً وافياً في معنى الأمة المستمد من تركيبها المادي وحياتها الروحية وفي صفتها التي هي نتيجة تفاعل مادية الأمة وروحيتها).، وسنرى فيما بعد أن سعادة لم يقصد أن مادية الأمة وروحيتها منفصلتين.
الأمة أساس مادي يقوم عليه بناء روحي ومن الغلط النظر إلى الأساس المادي والبناء الروحي كحالتي منفصلتين أو متتاليتين.
الأمم فلا تتميز إلا بروحياتها وحياتها وتقاليدها الاجتماعية التي هي نتيجة العمل العقلي ومجرى الفكر.
فالشرائع والقوانين والتقاليد الاجتماعية واللغة والأدب والتربية هي البناء الروحي الذي تشيّده الأمة على الأساس المادي المؤلف من بعض العناصر البشرية والإقليم ومزاياه. ليعود البناء الروحي وينتج الروحية السائدة في المجتمع، تنمو معه روح الأفراد.
كذلك يكتب في نشوء الأمم:
(…فالرّابطة الاقتصاديّة هي الرّابطة الاجتماعيّة الأولى في حياة الإنسان أو الأساس الماديّ الّذي يقيم الإنسان عليه عمرانه)، فكيف نعتبر الرابطة الاقتصادية أساسا ماديا؟
لنتابع مع ما كتبه د بلوز عن تصاعد العلاقة المادية الروحية، وهل يمكن الفصل بينهما:
إن تعدد اتجاهات النشاط العملي وعلاقات الإنسان بالعالم قد أدى إلى توزع المواضيع والظاهرات والأعمال حسب هذه الاتجاهات والعلاقات المتنوعة، الأمر الذي مكن الإنسان من التعرف على الطابع الخاص المميز لقيمة كل ما يتصل باتجاه معين أو علاقة معينة. وهكذا أخذ الإنسان يعي في علاقته العملية بالطبيعة القيمة الاستعمالية – الانتفاعية للأشياء أي فائدتها وما تدره عليه من نفع وما تصلح له، فهذه القيمة تشير إلى قدرة الأشياء على تلبية حاجات حياتية إنسانية معينة. وأخذ المرء يحدد بصدد مزاولة الصلات بين البشر معنى الأعمال والأفعال ويضفي عليها صفات الجودة والخير والعدالة والكرم ….، فنشأت القيم الأخلاقية. أما إدخال بعض الأعمال والأشياء في ممارسة العبادة وأداء الطقوس الشعائرية فقد أضفى عليها قيمة دينية، والقيمة السياسية لبعض الظاهرات تنجم عن انتسابها إلى العلاقات المتبادلة الناشئة بين الطبقات الاجتماعية والدول وبعض المؤسسات الأخرى.
لقد تشعبت القيم إلى زمر، وتعززت بقدر ما تحدد مجالها في النشاط الإنساني وبقدر ما انحصرت في نطاق معين من هذا النشاط.
وكي نستطيع تعيين طبيعة العلاقة الجمالية والوعي الجمالي على نحو أدق يحسن بنا أن نتوقف قليلا للمقارنة بين القيمة الأخلاقية والقيمة الجمالية. لقد ذكرنا أن الإنسان لم يميز في البداية بين القيم المادية (نفع البناء) والقيم الروحية (جمال البناء)، وذلك لأن الإنسان كان يقوم بتشخيص أشياء الطبيعة وإضفاء خصائص نشاط الإنسان الأخلاقي والجمالي. ويذكر بعضهم أنه لم يكن هناك تمييز واضح ودقيق قبل القرون الوسطى بين الخير والجمال.
وحتى اليوم، نرى عند الإنسان اليومي في علاقاته الإنسانية خلطا الأخلاق والجمال، بين الإنسان الجميل وأفعاله السيئة…
بلوز:
….. ما يميز القيم الروحية (الأخلاقية والجمالية….) إيصالها التجربة الاجتماعية للأفراد والأجيال القادمة. وهذا الأمر ضروري بالنسبة إلى ترسيخ أواصر الجماعة وتنمية الروح الاجتماعية والحضارية لدى الأفراد. فالقيم الروحية تتصف بالتأثير على شعور الأفراد، أي أنها تنظم سلوكهم وتوجهه، ولقد ظهرت الحاجة إلى ناظم أخلاقي نتيجة تشوه علاقات اجتماعية جديدة بين البشر أرقى مما يتطلبه السلوك البيولوجي الغريزي، فالصراع مع الطبيعة في العمل المنتج وتقدم الطابع الاجتماعي للعمل أخذا يتحكمان تدريجيا بالعلاقات بين الجنسين وبين الأجيال وبين الأقوياء والضعفاء في قلب الجماعة الواحدة، وفي ظل هذه الشروط الجديدة لم يعد التكيف البيولوجي قادرا على تنظيم السلوك.
إذا أضفنا إلى ما تقدم ظهور التناقضات الداخلية الاجتماعية في قلب الجماغة الواحدة اتضحت لنا ضرورة نشوء الوعي الأخلاقي ونظام المحرمات والوصايا الأخلاقية بوصفها شكلا جديدا خاصا للتحكم الروحي بسلوك الجماعة حفاظا على بقائها وردا لعوامل التهديد والإفناء. ففي الأخلاق تلبي الجماعة الحاجة إلى حلول التنظيم الاجتماعي محل الضرورة البيولوجية وإلى نشوء أشكال جديدة للسلوك الإنساني. لقد اقتصرت الأخلاق في البداية على تنظيم العلاقات داخل الجماعة، وحافظت القواعد الأخلاقية لفترة طويلة على صفة القهر أو الجزاء الخارجي الاجتماعي ولم تكتسب صفة شاملة تتخطى حدود الجماعة وتتحول إلى قوة إلزام داخلية وجدانية إلا في وقت متأخر. فالوعي الأخلاقي لم يتحول إلى شعور أخلاقي مستقل داخلي إلا عندما استطاع الإنسان أن يسيطر على ذاته وأن يختار بين الانسياق وراء الدوافع البيولوجية المباشرة والتكيف مع الحاجة الاجتماعية الجديدة ثم أن يدرك أهمية الاهتمام لا بمصلحته الأنانية فحسب، بل بمصالح الآخرين، بالمصالح الاجتماعية. عندها تحولت القواعد الأخلاقية في الوعي إلى قيم روحية مستقلة إلى عالم مثالي يهيب بالإنسان أن يصير كما ينبغي أن يكون
أما القيمة الجمالية فتختلف عن القيم الأخلاقية والدينية والسياسية في أنها لا تختص بمجال محدد مثل الأعمال الإنسانية بالنسبة إلى الأخلاق. فالجمال وسائر القيم الجمالية موجودة في كل مجال، في الطبيعة الحية وغير الحية، في الإنسان، في هيئته الخارجية وفي عالمه الداخلي، في أعماله المختلفة وفي ثمار ونتائج جميع نشاطاته التكنيكية والعلمية والفنية. إن مجال الجمال شامل لكل المجالات. فكل موضوع أضيفت عليه قيمة أخلاقية، أو انتفاعية استعمالية ،أو سياسية أو غير ذلك يصح دائما أن يقوم جماليا. لكن إذا كانت القيم الجمالية لا تتعلق بحامل موضوعي خاص كما تتعلق القيم الأخلاقية بالأعمال البشرية فكيف نعلل التقويم الجمالي ووجوده المستقل؟، وكيف نعلل موضوعيا وجود وعي جمالي متميز، مع أنه لا وجود لموضوع جمالي متميز في العالم؟ وأهمية هذا التساؤل ترجع إلى أنه ليس ثمة مجال للوعي أو ضرب من الوعي لا يعكس شيئا معينا من العالم الخارجي أي أنه ينبغي أن يكون هناك أساس موضوعي للعلاقة الجمالية. وهذا الأساس الموضوعي يلزم أن يكون صفة لموضوعات العالم الخارجي تتميز بعموميتها وشمولها من جهة وبكونها في متناول الإدراك الحسي المباشر والمعايشة التي يستحيل التقويم الجمالي بدونها من جهة أخرى، والواقع أن هذه الصفات موجودة فعلا. والوعي الإنساني قد شعر بها حدسيا مع تطور وتكامل النشاط العملي للمجتمع.
يقول سعادة:
(إن من أهم مسائل النهوض القومي بعد تأسيس فكرة الأمة وبعد تعيين المقاصد الكبرى، هي مسألة الأخلاق. هي مسألة العقلية الأخلاقية، هي مسألة الروحية الحقة التي يمكن أن تفعل في الجماعة في المجتمع).
يكمل د بلوز:
إن الوعي الأخلاقي يهتم بمضمون الأعمال الإنسانية من ناحية درجة توافقها مع المصلحة الاجتماعية، أما الوعي الجمالي فلا يحصر موضوعه في مجال الأعمال الإنسانية، بل يتعداها إلى سائر الظواهر والأشياء والحوادث، أي أنه ينظر إلى الشكل الذي يكون عليه العمل المحدد أو الشيء الفردي أو الظاهرة الجزئية. ومن الضروري أن يكون واضحا أن الوعي الجمالي لا يعني بالأشكال العامة المجردة المستقلة عن الأشياء والوقائع والمضامين المحددة، بل بشكل الشيء الجزئي المحسوس (هذا الإناء، هذه المشية، هذه الأغنية هذا الثوب، هذه القصيدة….) وهذا الشكل المتجسد في كائن معين لا يمكن تمثله وتمثل قيمته إلا باتصال فرد بالذات اتصالا حسيا بهذا الكائن فيدرك، لدى معاينته أو سماعه، قيمة الشكل أي درجة انسجامه مع مضمونه على نحو مباشر عفوي حدسي. والوعي الجمالي لا ينظر إلى الشكل بوصفه شكلا للأشياء بحد ذاتها، بل بوصفه شكلا يكشف عن أسلوب تعامل الإنسان مع العالم وعن أسلوب سيطرته على أشياء محيطه أو شكل صنعها لها. فالشكل هو شكل الإبداع الإنساني الماثل فيها والذي يتجلى في الانسجام بين صفات الموضوع ونشاط الذات. فنحن حين نحكم جماليا نحكم على درجة سيطرة الإنسان على المادة التي يعالجها ودرجة تحرره بالتالي من الضرورة الطبيعية. إن الإنسان لا يؤكد ذاته وسيادته في العالم عملياً فحسب بامتلاك الأشياء والتحكم بها ولا نظرياً فحسب، بل بمعرفتها جمالياً وانفعالياً أيضاً عبر بلوغ انسب شكل إنساني لخصائص الشيء الموضوعي والتحرر من الضرورات البيولوجية والاقتصادية و…. ولذا كان الجمال شكلا للحرية، حرية تبديل هيئة الأشياء، وإن بقي مضمونها ووظيفتها ثابتين. فالطاولة تظل طاولة إلا أن درجة براعة النجار هي التي تختلف فتكون الطاولة جميلة أو أقل جمالا. وهذه القدرة على صنع الجمال وصياغة المادة على نحو جميل ليست ثابتة، بل تتغير اجتماعيا وتاريخياً.
رأى الفلاسفة أن الجمال يكمن في التناسب والانسجام أي في التنظيم الراقي لشكل الوجود والكون والأشياء…في البداية تعرف الإنسان بالتدريج على القيمة الخاصة والمستقلة للإيقاع والتناسب والقياس المتوازن والتناظر والتنظيم البنيوي للأشياء في مصنوعات الإنسان وفي عملية الصنع والإنتاج ذاتها. لقد اكتشف الإنسان البدائي في عملية العمل أي عبر شعوره بإبداعه وبفرحه به قيمة الشكل أو الترتيب الإنساني للأشياء…. أخذ يسقط إحساسه بقيمة الشكل الذي بلغه في العمل على الطبيعة تأخذ يقيس بنفس المعايير ظاهراتها أي أن الإنسان البدائي لم يبدأ بالتعرف على الجمال في الطبيعة. فالطبيعة لا تملك صفات جمالية موضوعية، موجودة خارج الإنسان مستقلة عنه…والواقع أن الوعي الجمالي قد استقل عن ضروب الوعي القيمي الأخرى بقدر ما استثير الاهتمام بالشكل في النشاط العملي للإنسان البدائي، في منظومة توجهاته القيمية، أي أن الوعي الجمالي قد تطور بقدر ما أخذ الإنسان يلتفت واعيا قاصدا إلى قيمة الانتظام أو الترتيب الداخلي الذي ينم عن شكل الموضوعات التي يتناولها أو يهتم بها.
إن القيمة التكنيكية لآلة من الآلات تتعين عند قيامها بوظيفتها عمليا وهي حيادية إزاء شكلها أو مظهرها الخارجي. وعندما ينتبه المرء إلى الشكل يشرع بالنظر إلى الآلة كحامل لقيمة جمالية. والأحكام التي نطلقها على الصفات الخلقية لأحد الناس أو على أعماله (جيدة، نبيلة، …) أو على الدلالة السياسية لتصرفاته وأعماله (تقدمية، رجعية، وطنية، نافعة، مستنكرة…..) تتركز على معنى ما يجري تقويمه ومحتواه، وماهيته، وهي تحدد طابعها وصفتها بصورة مجردة تماما عن كيفية حصول العمل وأسلوب التصرف وطرازه. ولهذا فإنه من الممكن تحديث التقويمات الأخلاقية والسياسية في حالة غياب الموضوع، عن بعد، وبدون معاينة مباشرة للظاهرة التي يعمد إلى تقويمها، ذلك أن مايقوم هنا ليس الشكل، بل المحتوى وليس الظاهرة بل الماهية وليس المظهر أو الهيئة الخارجية بل المعدن الداخلي أو الغنى الداخلي وبكلمة ليس ما يقوم هو (الكيف) بل (ماذا).
يكتفي التقويم الأخلاقي بما هو مشترك بين الموضوع وما يماثله من مواضيع. ومع أننا نحكم على صفات الفرد الأخلاقية حسب أعماله وتصرفاته وسلوكه فليس أسلوب العمل أو التصرف في وجوده المشخص الملموس هو الحامل للقيمة الأخلاقية. إن نسف جسر مثلا يظل حياديا من الناحية الأخلاقية حتى نعرف الجهة الناسفة ودواعيها، وأين يقع الجسر. ولا نحتاج في الحكم الأخلاقي إلى معرفة كيفية حدوث الحادث ولا إلى مشاهدته، وهو الأمر الذي لاغنى عنه في الحكم الجمالي. لهذا تظهر التقويمات الأخلاقية في صيغة أحكام عامة، دساتير، وصايا، أمثال، وقواعد، ومبادئ سلوك ،ومعايير ونواه. لأن حامل القيمة الأخلاقية هو العام أو الماهية. فالحكم الأخلاقي يقع على المعنى الداخلي وليس على أسلوب الوجود والتحقق. أما القيمة الجمالية فحاملها هو الشكل الخاص.
لماذا تتمتع الصفات الشكلية الأسلوبية بأهمية كبرى في علم الجمال؟
لعل تقدم العلم الراهن يسعف في تفسير هذه المسألة، إن نظرية الإعلام تبين اليوم أن الحياة عموما بما فيها الحياة الإنسانية هي بمثابة تلق دائم للمعلومات والإشارات أو المؤثرات من العالم المحيط وهي بذات الوقت توجيه لهذه المعلومات وتحكم ذاتي بها. فإذا تلقت الشجرة مقدارا كافيا من المعلومات من عناصر التربة والمياه واستطاعت استخدامها في إيجاد التوازن الداخلي والاستقلال استمرت حياة الشجرة وإلا يبست. وواضح أن العشبة الصغيرة تتلقى من المعلومات (أو المؤثرات) أقل بكثير مما تتلقى الشجرة. اذن استمرار الحياة يتبع مدى نجاح منظومة ما، شجرة مثلا، في تخطي الميل السائد في العالم إلى التراجع أو الهدر الإعلامي. إن الانحصار في معدل قليل للإشارات أو المعلومات المرسلة يؤدي أخيرا إلى الفوضى وانعدام النظام والتلاشي (يباس الشجرة). فاستمرار الحياة يتعلق إذن ببلوغ درجة كافية من التنظيم والتوازن الداخلي في المنظومة، وهذا غير ممكن إلا في شروط خارجية مناسبة. فالنظام والتوازن وهما صفتان للشكل، يقومان بدور كبير في فعالية الحياة بكل أشكالها وبما فيها حياة الإنسان. وليست المعرفة ذاتها، أي اكتشاف القوانين التي تتحكم بالظاهرات، سوى اكتشاف لنظام وترتيب داخلي فيما كان يمكن أن يبدو فوضويا وعشوائيا بسبب عدم انتظامه وخضوعه لتعسف الصدفة.
إن الحياة هي انتقال من انتظام أدنى إلى انتظام أعلى والإنسان أرقى شكل لهذا الانتظام…. إن الشكل عندما ينقاد انقيادا مطلقا وتاما لقوة النظام والترتيب والسلامة والاطراد القانوني… يخسر ما كان يزخر به وما يختزنه من جمالية.
تتفق دراسات عديدة اليوم على أن القيمة الجمالية متصلة دوماً بوحدة جدلية متناقضة من الترتيب والفوضى، من الاطراد القانوني والمصادفة من التناظر وعدم التناظر من الحركة والسكون. إن الترتيب أو النظام المطلق يبدو على الدوام آليا باردا مملا لم تمسه لا يد الإنسان ولا يد الطبيعة، بل صنعته الآلة…. والانتظام ينطوي دوما على ميل إلى الفوضى وعدم الانتظام.
إن الوعي الجمالي الاجتماعي يتألف من تصورات جمالية مشتركة في المجتمع ومن ثوابت الذوق العام تتجلى في قوالب حسية معينة لتصور القيمة الجمالية والتعبير عنها. وتظهر في ذوق الجمهور والفئات الاجتماعية المختلفة والقواعد السائدة في النقد والنظرة الجمالية والتقاليد الفنية.
إن الشكل هو حامل القيمة الجمالية، والشكل أو ترتيب بنية أي موضوع يخضع مباشرة لما يتطلبه محتوى هذا الشكل وهكذا يكون جسم الغزال نظما تنظيما غير تنظيم الزنبقة والمباراة الرياضية غير الحفلة السينمائية وقوام الإنسان غير هيكل الحصان، ثم أن الشكل بذاته منفصلا عن المحتوى لا يملك أية قيمة جمالية لأن الشكل مبدأ التنظيم الداخلي للمحتوى، وقيمته الجمالية لا تتعين إلا بصلته بالمحتوى، ولا يستطيع المرء أن يقوم شكلا جماليا خاصا أو صفات بنيوية معزولة عن المحتوى، فالقوس المنحني قد يكون جميلا بوصفه علاقة هندسية معمارية ولكنه قبيح إذا كان شكلا لظهر محدب، وإذا كانت الأرزة جميلة فإن المرعى يستمد جماله من عدم تناظره، ونسب الجسد الإنساني الجميل تتغير بتغير المحتوى البيولوجي، رجل، امرأة، صبي، شاب… . إن الألوان والعلاقات اللونية قد تكون وحدها وبذاتها مريحة أو مزعجة من الناحية البيولوجية الخالصة، ولكنها لا تصبح جميلة أو قبيحة إلا إذا عرفنا دلالاتها المضمونية (زرقة السماء أو زرقة البحر أو رزقة الوجه..) ….. ونحن نحس في التلقي الجمالي اندماج الشكل بالمحتوى بصورة عفوية غير واعية…والواقع لا يمكن تصور التقويم الجمالي بدون معرفة خاصة بالموضوع … ذلك أن إدراك صلة الشكل بمحتواه هو فعل معرفي مهما كان مستوى هذه المعرفة.
ما هو معنى الجمال الروحي ما دام الفحوى الداخلي النفسي للإنسان لا يمسه التقويم الحدسي الجمالي؟
إن الجمال الروحي ينصب على البنية الداخلية لقوى الإنسان الروحية وعلى انسجامها وتناسبها أي على ما يماثل تناسب الشكل المحسوس وعلى ذلك يرتسم المثل الأعلى لجمال الإنسان في الشخصية المتطورة تطوراً متناسقاً وشاملاً
نحن لا ننطلق في أحكامنا الجمالية من معايير شكلية عامة مجردة، بل تستند في كل مرة إلى اكتشاف مقدار أو عمق التطابق بين الشكل والمحتوى في الموضوع الواحد العيني المدرك بالحواس. ليس ثمة في مجال الجمال جمل عامة تصلح لكل شيء ولكل زمان ومكان.
إن الصفات والخصائص الموضوعية في العالم الخارجي لا تمتلك دلالة أو معنى جمالياً إلا على صورة الإمكانية. أما تحول هذه الإمكانية إلى واقع أي تحول هذه الصفات إلى قيمة جمالية فيتطلب قيام علاقة الذات بالموضوع، ونشوء منظومة ذات – موضوع. فكي يكتسب الشكل المليء بالمحتوى دلالة جمالية يجب أن تنشأ الحالة التي تنتبه فيها الذات إلى الموضوع وتتلقى فيها الذات شكل الموضوع حسيا. لكن ما هي الحالة الجمالية وفي أية شروط يحمل الشكل قيمة جمالية؟ وكيف تتحقق الحالة الجمالية؟
تقتضي الحالة الجمالية:
الاتصال المباشر الحسي بالموضوع، والتنزه عن النفع الذاتي والغايات الخارجية، والمعايشة الانفعالية، والتقويم الشخصي، والحاجة الفكرية – الروحية.
إن الاتصال المباشر الحسي بالموضوع وهذا ما يميز الحالة الجمالية عن المعرفة العقلية المنطقية التي تنقلنا إلى العياني ومجال الماهية والقانون والاطراد الفلسفي…. فالتقويمات غير الجمالية يمكن أن تتم تأمليا بالاجتهاد النظري وبمعزل عن الحس والمعاينة. أما في المجال الجمالي فليس ثمة عمليات أو نشاطات ذهنية قادرة على الحلول محل الاتصال الحسي المباشر.
التنزه عن النفع والغرض، وتتلخص في أن الاهتمام الجمالي متحرر من تلك التصرفات الأنانية التي تعبر عن نفسها في اقتناء الموضوع أو استهلاكه أو استخدامه لأغراض معينة … يقتضي النشاط الجمالي التحرر من الحاجات الطبيعية التي تحدد كليا نمط سلوك الحيوان، وكذلك المصالح الاقتصادية. والواقع أن الحالة الجمالية إحدى علاقات الإنسان المباشرة بالعالم. ووفق شيللر فإن الجمال شكل الحرية…
المعايشة الانفعالية في العلاقة الجمالية، تقتضي علاقة الذات بالموضوع في الحالة الجمالية تجاوب نشاط الذات الروحي والنفسي مع طابع الموضوع الذي يحمل القيمة الجمالية…. إن العلاقة الجمالية انفعالية بطبيعتها والتقويم الجمالي تعبير عما يحسه الإنسان لدى الإدراك الجمالي من جذل وفرح وتعاطف…
التقويم الشخصي، إن العلاقة الجمالية تتوغل في دخيلة الفرد وتنفذ إلى صميمه وأبعد أغواره على نحو أعمق وأتم وأكمل من العلاقة المعرفية والعلاقات القيمية الأخرى، والمعايشة التي تنعقد فيها العلاقة الجمالية هي الضرب الأشد خصوصية وحميمية والأشد أصالة بالنسبة إلى الذات والشكل الذي لا يمكن أن ينفصل من الفردية. لا شك أن المعرفة تحصل بفضل الذات وكذلك العلاقة الأخلاقية والسياسية، إنها من علاقات الذات بالعالم….. محتوى الحقيقة غير شخصي وغير انفعالي. والذات العارفة هي الذات الاجتماعية، ذات النوع الإنساني، ((2+( 4=2هي معرفة إجتماعية، معرفة كل النوع الإنساني)، وليست الذات الشخصية الفردية في تشخصها العيني وطابعها الفذ الذي لا يستعاد. وفي أفعال التقويم الأخرى الانتفاعية – الاستعمالية والسياسية والحقوقية والدينية والأخلاقية تتمثل في الذات على مستوى أعلى من الفرد والشخصية، فهي تمثل أو تعبر عن جماعة معينة، الأمة، الأسرة، الطبقة، الشعب، أو زمر اجتماعية أخرى أو البشرية قاطبة، ولهذا يمكن أن تنشأ جملة معايير تقويمية ملزمة للجماعة مثل العقيدة الدينية والطقوس والشرعة الحقوقية والقواعد الخلقية والبرنامج السياسي. وهذه كلها لا تتطلب الاتصال مباشرة بحياة وخبرة الشخصية التي تصدر الحكم التقويمي، أما في العلاقة الجمالية فما لا أدركه بنفسي شخصيا ومما لا أقومه بنفسي لا يملك قيمة جمالية. وهذا يفسر عدم وجود دستور أو سنة جمالية.
الحاجة الفكرية – الروحية:
لها علاقة بما كتبه سعادة عن الاستقلال الفكري الروحي.
إننا في الحقيقة إزاء مستويين مختلفين نوعياً من التوجهات القيمية هما المستوى الفيزيولوجي والنفسي الفيزيولوجي من جهة والمستوى الفكري والنفسي الاجتماعي من جهة ثانية.
إن الملائم والمنفر يدلان على موضوعات تؤثر على جميع أعضاء الحواس بدون استثناء. وبهذين الحدين نقوم اللون والنغم والرائحة والطعم والأحاسيس الحركية والإحساس الباطني (ألم المعدة…) أما القيم الجمالية (جميل، قبيح…) فيقتصر مجالها على ما يرى ويسمع من ظاهرات، على البصر والسمع…. إذ أن الملائم يعبر تلبية حسية خالصة أما الجميل والقبيح فيعبران عن معايشة فكرية روحية لا يؤلف الإدراك الحسي فيها سوى الأساس الضروري فقط….. الفارق كبير بين الرضى البيولوجي (إثارة الأعصاب أو تهدئتها، وبين الفرح الروحي والإعجاب الجمالي.
المعايشة الانفعالية الجمالية تتميز بأن ما يولدها هو اهتمام الذات غير النفعي وغير الخاص بالموضوع أي أنها علاقة فكرية لا بيولوجية – فيزيولوجية…. أما المشاعر والعواطف الجمالية فلها مصدر آخر. انها تعبر عن حاجة فكرية – روحية وعن درجة تلبيتها، عن حاجة تأمل ومعاينة ومعايشة موضوع لا تكمن قيمته في ما يجلبه من فوائد ومنافع بل في واقعة حضوره ووجوده الواقعي الفعلي ليس غير…. فالجمالي يحول الابتسامة إلى شعور فكه والرعب أو الخوف إلى شعور مأساوي. إن هذا التمييز بين الرضى البيولوجي والرضى الجمالي يدل على قدرة الإنسان على تخطي الحاجات المباشرة النفعية، وهو أمر نشأ في ظل تطور الممارسة العملية المنتجة وما تطلبته من تقدم فكري… ما يميز البصر والسمع عن سائر الحواس هو أنهما مرتبطان بنشاط الإنسان الروحي وبحياة الفكر. أما اللمس والشم والذوق (الطعم) فليس لها صلة بالوعي والحياة الروحية والإحساس بالعالم…. والواقع أن للإحساس البصري أهمية أكبر من أي إحساس آخر في النشاط العملي والعمل الجماعي، ولقد نما في عملية العمل نفسها وارتقى إلى مستوى التمتع بشكل العمل المنتج ومنجزاته. والأذن هي عضو إدراك الكلام البشري المنطوق أي الوسيلة الرئيسية والأساسية في تبادل الأفكار، هذا التبادل الذي لا يمكن تصوره خارج الوجود الاجتماعي والعمل الاجتماعي الذي يقوم على وجود المجتمع…. العين والأذن هما الأساس الحسي لحيازة الإنسان الجمالية للعالم.
إن الطابع الروحي والمنزه عن النفع الخاص والغرض الذاتي في المعايشة الجمالية يفسره أمران:
الأول، كون الشكل موضوع الإدراك والتقويم الجماليين وحامل القيمة الجمالية. وبما أن الشكل لا يعبر عن المصالح النفعية والأخلاقية والسياسية … ولا يمكن أن يقتنى وحده وأن يستهلك ويجلب الفوائد فإن الانفعالات التي يثيرها تأمله أو معاينته هي انفعالات غيرية لا أنانية، انفعالات تشير إلى سمو الإنسان على التكيف البيولوجي وظهور حاجات اجتماعية فكرية راقية. إنها تشير إلى قيمة في الموضوع لا تمت بصلة إلى استهلاكه أو إنفاقه وهي حاجة روحية فكرية خالصة لا تدر أية منافع.
الثاني، كيف يمكن أن تعايش أمور لا نفع منها عمليا؟
إن المعايشة الروحية المنزهة عن النفع والغرض لا تقتصر على تحريرنا من الاهتمام النفعي المباشر، بل تشدنا إلى عوالم عليا، إلى أهداف حياتنا الكبرى وإلى ما ينبغي أن يكون. وهذا يعني أن المعايشة الروحية لا تنجم عن تأمل الموضوع من حيث هو موضوع واقعي فحسب، بل من حيث دخوله في علاقة مع المثل الأعلى. ففي العلاقة بين الواقع والمثل الأعلى، بين الواقع والأهداف البعيدة المرتسمة في الفكر تكمن آخر أسرار الوعي الجمالي.
لا زلنا في الموضوع الفلسفي.
الواقع والمثل الأعلى في التقويم الجمالي:
إن غرائز الحيوانات المرتبطة بالحاجة البيولوجية تقدم لها الحوافز كافية في مختلف نشاطات حياتها، ولكن الأمر ليس على هذا النحو بالنسبة إلى الإنسان الذي يتصف نمط وجوده بصفة اجتماعية كما تتصف فعالية ونشاطاته بالوعي والتوجيه الهادف. والصفة الاجتماعية الهادفة للنشاط الإنساني تحتم نشوء دليل فكري للتوجه. ومن هنا ولادة حاجة غير بيولوجية، حاجة فكرية هي بمثابة دافع أو محرك جديد لنشاط الإنسان ومنظم يتحكم بكل تصرفاته، لقد تكونت تاريخيا قدرة الإنسان على خلق المثل العليا وهي قدرة لا يمكن إلا أن تكون اجتماعية بطبيعتها. والواقع أن حياة الإنسان الروحية كلها تتميز بكونها اجتماعية.
إن صنع المثل الأعلى نمط وجود الفكر من حيث هو نشاط روحي عام، إنه أسلوب خاص لنشاط الوعي وحركته يتصل بعدد من القدرات النفسية مثل ملكة التصور والتخيل، والتفكير والانفعالات والإرادة. والمثل الأعلى وظيفة خاصة وبنية خاصة فهو يتكون بفضل ملكة التصور الخيالي المنتج ويمثل شيئا ذهنيا متخيلا، يشبه الواقع من جهة ويختلف عنه من جهة أخرى.
ينبثق المثل الأعلى عن تلك العملية الفكرية التي تحول ما هو موجود إلى أساس ينشأ فوقه ما هو غير موجود ومرغوب فيه أو واجب الوجود.
قد يكون المثل الأعلى ممكناً أو ممتنعاً خيالياً، أسطورياً أو طوباوياً، لكن أهم ما يميزه أنه يتمتع بكل ملامح التشخص والتعيين التي تتسم بها ثمرات المخيلة. غير أنه يختلف عن سائر التصورات والأخيلة في أنه ليس موضوعا ذهنيا خالصا لا واقعيا مثل النموذج العلمي أو الصورة الفنية، بل ينطوي على وعي للهدف، على قصدية وطموح إلى تحقيق ما ليس موجودا وما يمكن أو ينبغي أن يوجد، حتى وإن كان يتعذر، بل يمتنع وجوده الآن.
تنبع المثل العليا من استياء الإنسان الشديد وعدم اكتفائه بما هو عليه وبما في وسعه أن يفعله، من طموحه الأفضل وتطلعه إلى العلاء ومن قدرته على أنه يتصور في خياله ما يتمنى أن يكون، وأن يتصور وجودا أفضل من وجوده.
إن عدم رضى الإنسان بما له وعدم قناعته بما بلغه وشعوره بالنقص والفجوات وتبرمه الجامح المستمر أمور لا يمكن القضاء عليها….. فحلم الكمال والتطلع إلى الأفضل والرغبة في الحصول على ما لم نحصل عليه والانفتاح على المستقبل وآفاقه تمثل مطامح أبدية لا نهائية لا يمكن إطفاء جذوتها وتطمينها تماما، إن ثمة حركة لا تتوقف أبدا تضع على الدوام أهدافاً أكمل وأعلى وأبعد وترسم لنا المثل الأعلى.
لكل من الأفراد والفئات والطبقات والأمم والعصور والحضارات مثل عليا خاصة تنشأ في شروط ملموسة وظروف تاريخية واجتماعية معينة.
والمثل الأعلى يجمع بين الفردي والعام والواقعي والخيالي والموجود وممكن الوجود ومعرفة الواقع وتخطي حدوده. إنه يصل الإنسان بالواقع وبذات الوقت يقطع الصلة بنداء تغيير الأمر الواقع أو الهرب من معطياته الاختبارية إلى مجال آخر. وهو على كل حال يعبئ طاقات المشاعر الإنسانية ويحفز الإرادة ويوجه النشاط ويمنحه قيمة.
والمثل الأعلى هو الوسيط بين الحاجات الإنسانية الاجتماعية والأسلوب العيني لتلبيتها وهو بمثابة حافز لتصرفات الإنسان الاجتماعي الهادفة والقاصدة. ولهذا نعد المثل الأعلى معياراً لقيمة كل ما يحيط بالإنسان وكل ما يدخل في دائرة اهتماماته العملية الاجتماعية. وبكلمة أخرى إن شيئا غير موجود لكن مرغوبا بوجوده ومتصورا في الذهن يصبح معيارا لتقويم ما هو موجود، وهكذا يتصل الواقع بالمثل الأعلى ويقاس بمقياسه….. إن الصلة التي يقيمها البشر بين الواقع والمثل الأعلى في تعاملهم اليومي مع العالم الخارجي المحيط بهم هي أساس الحيازة الجمالية للعالم وأساس الوعي الجمالي. والتقويم الجمالي الملموس لموضوع ما ( جميل، قبيح، هزلي…) يتبع طبيعة هذه العلاقة. إن العالم الواقعي لا يملك خارج هذه الصلة بالمثل الأعلى أية قيمة جمالية. …. خارج هذه الصلة يظل عالما ماديا واقعيا تتحكم به قوانين فيزيائية وكيميائية وبيولوجية، ويدركه الإنسان والحيوان بحواسهما، ويستهلك من قبلهما. إن الطبيعة لا تشرق إشراقا جماليا إلا عندما يدخل الإنسان استيعابها الفكري في تيار دورة تصل الطبيعة بما يعلو عليها، بالمثل الأعلى.
إن انتظام الشكل وترتيبه الداخلي لا يتضمنان بذاتهما أي شيء جمالي، إنهما ببساطة أحد جوانب الاطراد القانوني النظامي في الوجود المادي ويؤلفان موضوعا للمعرفة العلمية والفلسفية والرياضية والسبرنطيقية. وصفات الشكل هذه، وهي بالأساس كمية، لا تكتسب قيمة جمالية إلا عندما تدخل في تصورات الإنسان عن المثل الأعلى، عندما ترتسم في المثل الأعلى نموذجا لهدف راق يسعى إليه المرء دائما وأبدا وحيثما كان، أي أن هذه الصفات الشكلية تكتسب قيمة جمالية عندما تصاغ في قالب المثل الأعلى فتغدو نموذجا للطموح الإنساني، عندها يصبح الشكل إنسانيا أو أمنية يتحقق فيها الانسجام الحر والانطلاق الإنساني والقوة الإنسانية….. إن الشكل يمر في أفق المثل الأعلى فيثير الإعجاب والرضى والمتعة أو يفعل عكس ذلك.
طبعاً إن الفهم المشخص العيني لقوانين هذا الانتظام ومبادئه يمكن أن تتغير تاريخيا وأن تتعدل وفق الظروف القومية والطبقية والتاريخية وأن تختلف باختلاف الأفراد، ولكن الانتظام والترتيب الداخلي والانسجام أمور تظل شيئا ثابتا لا يتغير في المثل العليا الإنسانية…. ورغم ذلك ففي كل الحالات يقوم جماليا ما يحسه المرء كقبس من المثل الأعلى الإنساني الشامل للاكتمال والاتساق في البنية وللتناسق الكلي التام وللانسجام.
إنه مثل أعلى لهذا العالم البديع النظام…الذي يستبعد الفوضى ويطرد النشاز، والتعارض بين القيمة الجمالية من جهة والقيم الاستعمالية والسياسية والأخلاقية يرجع إلى تعارض الشكل والمحتوى الذي يدمر اكتمال الموضوع أو الظاهرة أو الحدث فينشأ الصراع بين قيمة المحتوى النفعية أو الأخلاقية أو السياسية وقيمة الشكل الجمالي. إن بعض الأشياء التي لا نفع يرجى منها، بل قد تعتبر ضارة فعلا قد تمتلك فتنة جمالية آسرة …. القيمة الجمالية للأشياء لا تصدر تلقائياً عن وظيفتها العملية….. إن دور المثل الأعلى في المجال الجمالي أكبر منه في مجالات التقويم الأخرى الأخلاقية والدينية والسياسية…ويصح القول أن المثل الأعلى هو بمعنى ما، دائما مثل أعلى جمالي، وهذا يرجع إلى أن المثل الأعلى لا يوجد في الوعي إلا كتصورات خيالية…وليس التعميم سوى ضرب من ضروب خلق المثل الأعلى. بل أن هدف الفن ما هو سوى تجسيد ملموس للمثل الأعلى.
إن المثل العليا تنمو وتترعرع وتفعل فعلها في مجال الوعي اليومي وهي بالتالي ليست ظاهرة إيديولوجية بقدر ما هي ظاهرة نفسية – اجتماعية، ومهما كان دور الإيديولوجية في المثل العليا كبيرا فإنها تحمل طابعا نفسيا – اجتماعيا. فالمثل الأعلى صورة الأماني أو صورة حية عما نحلم به. والارتسام النموذجي لما ينبغي أن يكون وهو لذلك ثروة مشتركة وملك للجميع ويعيش في ضمير ووجدان كل فرد. إن تشخص المثل الأعلى يضفي عليه طابعا شموليا جامعا لا يسمح بتقسيمه في الوعي الإنساني إلى زمر…. مستقل بعضها عن بعض…أما الوعي اليومي فلا يعمد أبدا إلى تقسيم المثل العليا إلى زمر.
والواقع أن العلاقة الجمالية إدراك وتقويم للعالم من موشور المثل الأعلى، من موشور الصيغة النفسية الخاصة التي تفعل فعلها بذاتها بدون العمليات المنطقية والفهم. إنها تفعل على نحو حدسي مباشر دون أن تفقد مع ذلك صفتها المعرفية.
المطلق والنسبي في التقويم الجمالي
إذا قبلنا الرأي القائل بأن الجمال هو إحساس الفرد المستقل عن كل شيء. فإننا لا نعثر على معيار لأحكام الذوق أو التقويم. فكل حكم جمالي للذوق بغدو مطلقا لا تقل أحقيته في الوجود عن سائر الأحكام. لكل ذوقه، ولا جدال في الذوق وبالتالي ليس هناك ذوق جيد وذوق سيء ، رديء، سليم، مشوه، متخلف.
ولكن إلى جانب هذه النسبية الفردية في أحكام الذوق نواجه أيضا نسبية اجتماعية تمنح ذوق أي عصر من العصور قيمة مطلقة ولا يعود من الممكن مقارنة ذوق عصر بذوق عصر آخر. ومثل هذه الآراء تفترض تحرر الفرد من المجتمع وانفصاله عنه وعدم وجود أساس واحد للتاريخ الإنساني. إن الشخصية تبدو هنا وكأنها شيء مضاد للمجتمع وليست حاملا فرديا للمضمون الاجتماعي نفذ بسبل مختلفة إلى وعي الشخصية وأثر في نشاطها. والواقع أن المجتمع الذي تنمو فيه الشخصية وتتكامل روحيا ثم تمارس فيه تأثيرها يؤلف حقلا مغناطيسيا لا تستطيع هذه الشخصية الانفكاك من تأثيره أو التحرر من جذبه. وهذا المضمون الاجتماعي لا يؤثر في النفس الواعية فحسب، بل في اللاوعي أيضاً.
أما وسيط هذا التأثير الاجتماعي فهو بالذات المثل الأعلى. ففي المثل الأعلى ترسم الشخصية برنامج نشاط اجتماعي معين وتجعله ملكا روحيا خاصا بها. والفردية تتكيف معه بعكسها أياه من خلال أناه الخاصة التي لا يمكن أن نجد نسخة ثانية منها مطابقة تماما لها. وسيان معرفة المرء وعدم معرفته تبعية أحكامه الجمالية لبرنامجه المثالي ذي الجذور الاجتماعية، فالمهم أن ذوقه مطبوع بطابع هذا البرنامج…. يعني أن النسبية الفردية والتاريخية للذوق سواء في ما يتعلق بالفرد أو بالفئة الاجتماعية تتصل جدليا بشيء مطلق غير نسبي، والواقع أننا نتجادل في أمور الذوق ونحكم على ذوق فلان بأنه رديء وآخر بأنه جيد… وهذا يدل على أن معايير الذوق تمكن الإنسان من تقدير ذوق فرد من الأفراد … وهذه المعايير تنشأ في وعي المجتمع الجمالي… وتتخذ كمقياس عام لذوق الأفراد. وهكذا تغدو هنا علاقة النسبي بالمطلق علاقة بين الفرد والمجتمع أو بين الفردي والاجتماعي…
نعم هناك جانب مطلق …يعتمد على ما يسمى العنصر الإنساني الشامل العام أو القيم الإنسانية المطلقة. إلا أنه لا يجوز أن ينظر إلى هذا الجانب المطلق كشيء مستقل عن التاريخ والمجتمع….
لقد كانت معايير الوعي الجمالي في تاريخ الحضارة نسبية ومتفاوتة في مقدار احتوائها على العنصر الإنساني المطلق… إلا أن الفحوى الاجتماعي النسبي والمطلق لا يبرز في التقويم الجمالي كمبادئ عامة، بل يتجلى في الشخصية الفردية من خلال المعايشة التي تستهدي بالمثل الأعلى … فالوعي الجمالي يتيح للشخصية أن تصوغ أحكامها الجمالية بوصفها تقويمات صادرة عنها بكل حرية…
إن الوعي الجمالي هو بالأساس وعي لمنجزات إبداعه في العمل المنتج وفي الحياة.. وكل تقويم جمالي ذو طبيعة تاريخية تتفاوت في نسبيتها. وهو يجمع بين الغائية الداخلية وتحقيق المثل الأعلى في الانسجام الحر. انه تعبير عن الحرية بوصفها مطمحاً إنسانياً شاملاً. وقد يغدو النشاط الجمالي ولاسيما في الفن لا تعبيراً عن الحرية فحسب، بل دعوة إلى الكفاح من أجل إحرازها.
علمياً، لا نستطيع أن نفصل بين الفلسفة والفن فصلاً صريحاً.
بهذا المعنى دخلت المدرحيّة عالم الفلسفة بمختلف تنويعاته.