ثمة من يحاول دائماً، ويتمكن من تسلّق (الجدار) ليطلّ على من في (الداخل)، فلا تعدو إطلالته كونها اقتحاماً لـ (وجودٍ) مسترخٍ في فيء جدار عالٍ…. عالٍ، ولكنه قابل للتسلّق دائماً وكأنه واطئ…. واطئ! لا يكفي ارتفاعه/ بنيته، كما يفترض، لعزل هذه (الذات) التي اجتهدت وكرَّست عملَها ووقتها وتفكيرها وثقافتها وأخلاقها، وكلَّ ما يعبِّر عنها، في سبيل رفع جدارها شاهقاً، وإذ بـ (آخر) قادر دائماً، وفي كل وقت، وبجهده وتفكيره وثقافته، وبما يعبِّر عنه ويصدر منه، على (التسلّق) وإبطال وظيفة الجدار وثقافته، ودبّ الذعر في وجودِ مَن يقيم بداخله، حين يكون تسلّقه لجداره، فقط تسلقه، هو بمثابة نسف كامل لتاريخه الذي ليس سوى جداره وحسب!
في هذه (السيزيفية المعدّلة)(1) أي الناجحة، ذات المسار الخطي، لا الدائري التكراري (كما هو حالها في نصّها الأصلي)، يبدو (صراع الوجود) مقيماً كناموس حاكمٍ لتوازن القوى في علاقات الجماعات عبر التاريخ، منذ تلك اللحظة التي أصبح كل منها (آخر) بالنسبة للأخرى، في تبادل متوازنٍ وعادلٍ للصفة النافية نفسها، تبادلٍ سيكون مسؤولاً دائماً عن رسوخها، رغم تعرّض المسافة الفاصلة، الفيزيائية أو الثقافية، بين الجماعات لعوامل وعناصر تاريخية كانت السبب في تقريب بعضها من بعضها الآخر، كما كانت أيضاً، وفي مرات أخرى، منتِجةً ذلك البعد السحيق الذي يفصل بينها!. و(التقريب) و(التبعيد) إنما يحصلان دائماً في (المكان نفسه) الذي لا يتغير، والذي تارة يتسع للجماعات كلها، وفي مرات كثيرة لا يبدو متسعاً إلاّ لبعضها أو لواحدة فقط منها، فتبدو إذ ذاك فعالية (صراع الوجود) في أكثر مظاهرها حدة وتجلياً وتعبيراً عن رسوخها مناخاً يُظَلِّلُ تاريخَ الإنسانية الذي لم يغادر (مكانه) أبداً، وإن استطاع في العصور الحديثة تسلّقَ الفضاء واستراقَ النظر إلى جوار الإنسانية الرهيب!
تأسس الإحساس بـ (ضيق المكان) من تلك اللحظة التي بدأت فيها الجماعات تتجه في نظرها نحو المشهد الأفقي، فلا ترى إلاّ بعضها، فلاح لها وجود (الآخر) في (المكان) نفسه/ الذي هو الأفق/ كوجود متاخم، مزاحمٍ، قابل للفيض، إلى حدود غمر (الآخر) منها بـ (الآخر) غيره الذي بدوره يرى نفسه (ذاتاً) وغيره (آخر)!
على أنّ الإنسان، ولا في مرة كفَّ عن أن ينظر في المشهد الأفقي، كما كفَّ عن أن يتطلع (عمودياً)، غير أنَّ الجماعات في بعض من مراحل عمرها/ تاريخها تطيل النظر في الأفق الموازي، والذي يحدُّ وجودها أكثر من تملّيها في ذلك البحث اللانهائي/ العمودي حول أفقها المفتوح. وفي هذا التفحّص الفاجر للأفق، يبدأ الآخر بالتحول إلى (عدو) تقتضي السلامة الوجودية القضاءَ عليه، بأي معنى كان، فيزيائياً، أو مجازياً. وفي الحالات كلّها، يكون الصراع القائم معه وجودياً يستهدف إبطالَ فعاليته وقدرته على أن يكون مجاوراً في المشهد الأفقي لـ (الجماعة) التي بوجوده رأت كيف (المكان يضيق) إلى حدود الاختناق!
تفحّص الأفقي/ العمودي
في تجاوز للملاحقة الزمنية المتسلسلة لصراع الوجود في سياق التاريخ الإنساني، يبدو النص الهوميري في الإلياذة (2)، كمثال عن أحد التعبيرات المتكاملة عن (ازدحام الأفق) و(ضيق المكان) بجماعتين لا بدّ لإحداهما من الانتصار على الأخرى، فيما يبدو النصّ البابلي، في جلجامش، كمثال عن أحد التعبيرات المتكاملة عن ذلك التبحُّر في البحث المفتوح حول مصير الانسان وقدرته على تجاوز طاقاته الموصوفة، والمفترض أنها محدودة بحكم قابليتها للموت!
والمفارقة هنا، تبدو في أسبقية النصّ البابلي (1800 ق.م) على النصّ الإغريقي (800 ق. م) بما يعني، على نحوٍ ما، أن نشوء (ضيق المكان) مرتبط حتماً بذلك التطور الذي قاد الإنسان للتوضّع كـ(جماعات) أخذت تنتج (جدرانها) الفيزيائية والثقافية، وإن كانت هذه الجدران في كثير من الأحيان تجد تعبيراتِها في صراع الوجود الذي خاضته الآلهة المتعددة قبل أن تتوحَّد، فيما تشير المفارقة من ناحية أخرى، بصورة قاطعة، إلى ذلك التفجّر الفكري الفلسفي البكر العمودي الاتجاه الذي مّيز حضارة ما بين النهرين.
كل ما هو في الإلياذة لا أثر يدل عليه في جلجامش، حيث لا تقاطع بين الاثنتين، وكأنهما سياقان منفصلان أحدهما يتجه أفقياً، فيما الآخر يتطلع عامودياً.
في النصّ البابلي/ جلجامش، لا توجد (جماعات) متواجهة ومتصارعة، وأفق (المكان) مفتوح وقادر على استيلاد (وجود آخر ــ أنكيدو). كما سيكون قادراً على مقاربة الإجابة المحتملة حول سؤال الخلود؟ وفي هذا الأفق، حدثت مواجهتان رئيستان، الأولى بين جلجامش وأنكيدو، وانتهت سلاماً وصداقة عميقة، وحلفاً وثيقاً سيشكل الطرف الأقوى في المواجهة الثانية الرهيبة مع خمبابا ــ الذي يمثل الطبيعة ــ والتي ستنتهي إلى انتصار الحلف، في مواجهة من طبيعة عامودية، ستؤدي استطراداً إلى إنتاج المزيد من الأسئلة حول مآل الوجود ومصير الإنسان؟
في الإلياذة، تحدث المواجهة الكبرى المتعددة الفصول، بين الإغريق والطرواديين، وتَحمل في طياتها مشاهدَ المواجهات الفردية، وكلّها مجتمعة تحدث لأن الطرفين المتواجهين، سواء عندما يكونان جماعتين، أو فردين/ بطلين، يتصارعان للاستحواذ أو للظفر بـ (غرض فريد) غير قابل للتعدد، لا بديل له، ولا نسخة إضافية عنه. إنه (المكان) بمعناه الواقعي، أو المكان بمعناه المجازي (موقع النفس في خارطة النفس الأخرى التي تعود إلى: الحبيب)، ولذلك تمتلئ التراجيديا الإغريقية بالضحايا، كما لا تكون قابلة للانتهاء سلاماً وحلفاً بين جماعتين، ففي الوقت الذي تم فيه الإيحاء بحلول (السلام) بينهما، كان حصان طروادة الشهير كفيلاً بإعادة الدماء إلى الخاتمة، وإغلاق مسرح التراجيديا على نصر إغريقي حاسم!!
لا نلمح أثراً لـ (آخر) في جلجامش، بعد فشل محاولة إنتاجه عن طريق استجلاب أنكيدو الذي دخل بَدَلَ ذلك في تشكيل (الذات) التي خاضت صراعها العمودي حتى النهاية. فيما تحفل الإلياذة بالآخر الجمعي الثنائي: طروادة ــ أسبرطة، وبالآخرين غير القابلين للإحصاء على المستوى الفردي!
وفي حين كان دخول حصان طروادة إيذاناً بسقوط جدار طروادة = سورها، فإنه آل في النهاية إلى ارتفاع جدار أثينا عندما وصل فكرُها إلى إنتاج تلك الثنائية غير القابلة للتوحّد: الأثيني من جهة، وغير الأثيني (البربري)، أي (الآخر)، من جهة مقابلة.
إلى هذا (الأصل) سيمتد، لاحقاً، الإنتاج الأخير للثنائية الذي يرى (مركزية أوروبية) (3)، خاصة ومتميزة، ستكّرس النظر إلى غيرها كآخر غير قابل للانضواء فيها كأحد مكوِّناتها في سياق التاريخ، وسيبقى موقعه يتأرجح بين كونه عدواً أو تابعاً لها، وفي أقصى حد مشترك معها في حلف غير متوازن يبقي عليها كـ (ذات) وعليه كـ (آخر)!
على أن النصّ الأثيني، وأحفاده من النصوص الأوروبية، ستعرف في سياق تطورها كيف تواجه الأسئلة الكبرى التي كان الأدب البابلي، والسوري عموماً، قد طرح الكثير منها في طفولته وفتوته. وبذلك احترفت النصوص الأثينية والأوروبية، عموماً، صناعةَ الفلسفة، ولاحقاً، مختلف العلوم التي جعلت الجماعات الأوروبية، واستطراداً الأميركية، تحرز النصر تلو الآخر في مواجهاتها العمودية، دون أن تتخلى عن مواجهات أفقية ستميز تاريخها، وتاريخ الإنسانية عموماً.
النصّ القاتل/ النسخة الأصلّية
تسببت ثنائية (الذات ــ الآخر) بتوفير كل العوامل التي تقود إلى المواجهات التي لا تنتهي بين الجماعات البشرية، إلاّ أنها وبتوسعاتها المفهومية حاولت مدَّ جسور متعددة بين طرفيها في إطار النظر المتجاوز لـ (الأسوار)، والذي يرى اشتراكاً ما في المصير الإنساني، وإن كان لا يمكنه الدفاع عن هذا الموقف دائماً تجاه عودة العوامل المنبثقة أساساً، والمتجددة دائماً من عودة المكان إلى ضِيْقِه، والجماعات إلى ازدحامها فيه ووصولها إلى حدود الاختناق، حيث تعود المواجهات بين الجماعات في إطار آلية (صراع الوجود) في أي درجة جاء عليها، فيعود المصير الإنساني من حقل المشاركة إلى حقل الصراع، فيؤول إلى كونه (مصير جماعة محددة) قادرة على الانتصار على جماعة (أخرى)؟! على أنّ (النصّ القاتل) المدجج بمختلف أنواع الأسلحة/ المفاهيم، والرؤى والنظم الأخلاقية/ لم يُنتَج على نحوٍ خاص ونهائي إلاّ في (التوراة)، التي لا تزال تشكل نموذجاً مُعاشاً، وجاهزاً على مدار التاريخ لإطلاق النار وإشعال الحرائق وتدمير العمران، وسدّ منافذ الأفق بـ (جدران) يتم بناؤها بحجارة من تعاليم احترفت صناعة القتل مذ أوجدت تبريراً ما لـ قايين الذي سفح دم أخيه هابيل، و(لُعن) من إلهه الذي عاد وأورَثَ ذريتَه الأرض!
لا يُستدلّ على (النصّ القاتل) المتوطن في التوراة، فقط من تلك الدماء السيّالة من حروفه ومن مجازره، بل أيضاً، وعلى نحو أكثر أهمية، من تلك الجدران المتوالية، وغير القابلة للعدّ، المرتفعة حول الجماعة وأفرادها، والتي تتشكَّل حجارتها من: الحقد والحسد والبغض وسواد الروح والزنى والشهوات المفتوحة والشاذة، والأرض المدمرة والمحروقة، والأشخاص المشوّهين والمنحرفين…. إنها الحجارة التي تمَّ بها بناءُ تلك الجدران التي خَنقت الأفقَ وأقفلته تماماً، فلم تعد (الجماعة) ترى غيرها، وما دونها ليسوا سوى (غوييم) غير قابلين للتشارك بأي معنى، وإنما وظيفتهم أن يبقوا مرفوعي الأيدي أمام نصٍّ قاتل جاهز لإطلاق النار في كل لحظة يحاول فيها (الغوييم) خفض أيديهم المرفوعة استسلاماً لإراحتها من تعب ٍ مضنٍ وشاق!
أنتج (النصّ القاتل) وكرّس على نحو نهائي ثنائيةَ (الذات ــ الآخر)، فأقام (الجدار المفهومي المطلق) بين طرفيها، ليصبح مفهوم (الحماية الوجودية) مرتبطاً بإقامة العازل عن الآخر، وبتأمين وجود مسافة تقصيه عنه؟
وفي حالات القرب بين الطرفين، والمرهونة بضعف الأول، أحياناً، أو غفلته عن ذاته وخصائصها في أحيانٍ أخرى، يعود (النصّ القاتل) ليقدم (الخيار شمشون: عليَّ وعلى أعدائي)، الذي ليس سوى اختزال مكثف عن تفضيل العدم على الوجود التشاركي مع الآخرين = الغوييم؟
يحمل (الخيار شمشون)، في ذاته، الحماية الأخيرة، أو الوجه الأخير للنصّ القاتل، فبمقدار ما يمنحه قوةً ضد الغير، فإنه بالمقابل يلغمه بـ (لقاح) الفناء والعدم، وهو في الأصل لقاح ثقافي ــ أخلاقي، فقبل أن يقرر شمشون (هدمَ الأعمدة) عليه وعلى الآخرين، فإن هذه الأعمدة نفسها تعتبر بحكم المهدومة والمدمَّرة منذ الوقت الذي دخل إلى جنباتها (آخرُ) مهيأ للتشارك الوجودي مع شمشون وجماعته؟
هنا، لا يقرر شمشون شيئاً، ولا يشوع بن نون، ولا غيره أيضاً، ولا في مكان وزمان! إنَّ من يقرر وحيداً هو (النصّ القاتل) المستمر على حاله في التاريخ دون أن يثنيه التقادمُ الزمني، ولا الثقافة والقواعد الأخلاقية والاكتشافات العلمية الإنسانية المتوالية والمتراكمة قبل وجوده وما بعد.
أنتجت النسخةُ الأصلية للنصّ القاتل، ولا تزال، في سياق التاريخ، نسخاً متعددة ارتهن مصيرها إلى حالات وشروط خاصة، كما أثَّرت في نسخ أخرى يمكن ملاحظة بعضها في العصور الحديثة مثل (النسخة النازية) التي تواجهت مع النسخة الأصلية في سياق تاريخي أدى لاحقاً إلى إنتاج ثقافة إرهابية حملتها وشهرتها النسخة الأصلية وأتباعها. كما يمكن ملاحظة مختلف الثنائيات المتوالدة والمتعددة مثل (شرق ــ غرب)، (أميركا ــ العالم)، إلى (الإسلام ــ الغرب)، وصولاً إلى النسخة المعنونة بـ (صدام الحضارات)، مروراً بالنسخة (الإسلاموية التكفيرية) القائمة على ثنائية متضادة (مؤمن ــ كافر)، إلى مختلف النسخ الأخرى المحكومة بالفكر الثنوي. كلها تدين بأخلاقياتها ونظمها ومنهجها إلى جذرها في النسخة الأصلية التي تقيم راهناً ليس في بنية أخلاقية موزعة على عدد جماعاتها في مختلف مناطق العالم، بل وعلى نحو خاص في (مكان محدد: فلسطين) تقول إنه يشكل مكانها المسوّر والمعزول وغير القابل للتشارك مع (الغوييم ــ الفلسطينيين)، وفي سبيل حماية مكانها هذا تُشهِر كل ما تحمله وتقتلعه من أسلحة مدمرة وفتاكة.
المسافة (الكتاب: الوطن)
بمقدار ما يشكّل (الجدارُ) العازلَ الشاقولي الفاصل بين الجماعات، ينتج في الوقت نفسه المسافة الكفيلة بإبعاد (الجماعة) عن (الآخرين). وهذه المسافة هي ما تعطي الاطمئنان لهذه الجماعة بأنها محصّنة ومحمية ضد الغير!
وقد استخدمت الجماعة اليهودية مفهوم (المسافة)، في مسارها التاريخي، استخداماً أبقاها أمينة لروح النسخة الأصلية لـ (النصّ القاتل). حتى في تلك الحالات التي كانت تجد نفسها فيها تعيش في شروط جماعة الآخرين الأقوى والمهيمنة!
شكّل (الغيتو اليهودي) إقصاءً للجماعة من المكان، وتوطيناً في (النصّ)، فكأنها لا تقيم في (أرض فيزيائية ذات وجود مادي)، وإنما في (كتاب) عابر لـ (المكان) وشروطه، محتفظاً بنفسه كـ (وطن نهائي) للجماعة اليهودية عبر التاريخ، التي احتارت في اختيار الأرض التي ستسمى وطنها قبل أن تقرر أنّ فلسطين هي مكان (الكتاب) القابل لإعادة تكرار كتابته القاتلة فصلاً بعد فصل، من جريمة قايين الأولى، إلى مجازر يشوع بن نون، إلى معركة مجدو، ملغّماً نسخته المعاصرة بالخيار شمشون، الذي يعدّ إلى الآن حوالي 300 رأس نووي لا تستطيع الانتقال من تحت (أعمدة إسرائيل) دون أن تدمرها!!
والمسافة المفترض أنها تؤمن (السلامة الوجودية)، كما يمكن إنتاجها ثقافياً عبر الإقامة في (كتاب)، يمكن أيضاً إنتاجها واقعياً/ فيزيائياً، فحيث لا تريد أو تتمكن من الابتعاد عن الآخرين، عليك بإبعاد هؤلاء عنك؟
وفق هذه الفلسفة، تقدَّم (المشروع الإسرائيلي) في فلسطين، مبعداً سكان المدن والقرى، ومهجّراً لهم، ومرتكباً المجازر بحقهم من أجل الحلول محلهم، في (المكان نفسه)، دون التساؤل لمرة واحدة إن كان يمكن مشاركتهم (4) الحياة؟ ذلك لأن فعل المشاركة نقيض لكل ما جاء في الكتاب (النصّ القاتل)، الذي بمقدار ما يهدد الآخرين بأسلحته، فإنه في الوقت نفسه لا يبيح لـ (قتلته/ جنوده/ أتباعه) التفكير بالانزياح قليلاً عنه، أو تأويله على نحو يجعل التاريخ حاضراً فيه ليحفظه وثيقةً ويلغيه فعلاً حياتياً!!
و(التبعيد)، أو إنتاج (المسافة) في (الأماكن الضيقة)، كما هي حال فلسطين، يمكن تحقيقه عبر تصنيع ما يمكن تسميته بـ (فرط القوة) التي تفترس (الوجود الآخري) وتشلّ فعاليته، وتحوله ما أمكنها ذلك إلى محض (وجود بيولوجي ــ لا ثقافي)! فتكون بذلك قد أقصته بعيداً عن (ذاتها هي). هذا هو مآل الجدار الحديدي الذي صممه المهندس التوراتي زئيف جابوتنسكي عام 1925، والذي يحاول بنَّاؤوه تشييدَه منذ ذلك الوقت، في محاولة مهووسة لإبعاد الفلسطينيين، الذين لم يغادروا المكان، إلى المنطقة التي تقع تحت مرمى استراتيجية القوة المفرطة، والتي ليست سوى منطقة الخوف والهلع! التي تجعل من المقيم فيها أسيرَ صمتٍ مطلَق، أو حركة مشلولة، لأن أي إيحاء بـ (الحياة) في المجال الاستراتيجي الذي تحكمه القوة المفرطة يحرّك الوحش المفترس فيها ليعيد (إخلاء منطقته) من الآخرين، عبر تحويله الدائم لهم إلى فريسة مسكونة بالهلع!
وفي الوقت الذي تغامر فيه الفريسة، وتغادر خوفَها، ثم تعتاد أن ترى نفسها دونه، كما هو حال الفلسطينيين عبر مقاومتهم، فإن المسافة الخالية التي أنتجتها القوة المفرطة لا تزول وحسب، بل ربما يمكن ملاحظة امتدادها وتوسّعها يوماً بعد يوم في منطقة (الوحش) نفسه!
هكذا، اخترقت المقاومة، وتخترق الجدار الحديدي لزئيف جابوتنسكي، الذي سيصار إلى تدعيمه راهناً بجدار إسمنتي عملاق مزود بالأسلحة الكهربائية والإلكترونية التي يأمل منها أن تعيد (المسافة) المفتقدة والضائعة، بفعل المقاومة، كي تشكل الحدود مع الآخرين = الفلسطينيين، كما مع غيرهم.
جدار طروادة معدّل، ولكن حصانها يقيم في الداخل!
إزاء ارتفاع (الجدار) مرة ثانية، وعلى هذا النحو، يفترض فيه بناء قوة مفرطة بمعنيين، ينتج الأول من عدم قابليته للاختراق من الآخر المقيم أمامه، وينتج الثاني من قدرة من يقبع خلفه على الهجوم على هذا الآخر دائماً وفي ساحته، ومن ثم العودة إلى الاحتماء بالجدار؟!
من المؤكد أننا لا نشير إلى صناعة حديثة للإلياذة الهوميرية، التي في حالاتها كلّها لم تكن لتتأسس أحداثها على (نصّ قاتل)، وإنما التدرج التراجيدي هو من كان ينتجها. على أننا نرى في (الجدار الإسرائيلي) الراهن استعارة معدّلة للجدّار الطروادي (المعدّل افتراضاً)، والذي تم بناؤه مع الضمان المسبق بأن أي حصان لا يمكنه اختراقه، ومن ثم إبطال وظيفته الأسطورية في عزل وحماية وإبعاد (أصحابه) عن (الآخرين)!
وهذا الضمان لا يتأتى فقط من حجم الجدار وأبعاده ونوعية تسليحه، بل وبالدرجة الأولى من عدم اقتراف الخطيئة الطروادية مرة ثانية، بالوصول إلى أية حالة سلام بين من هم داخل الأسوار، ومن هم خارجها! لأن السلام، بأية حالة كان، يمكّن الآخرين ــ الفلسطينيين من الاقتراب أكثر على النحو الذي يجعلهم يملؤون (المكان)!!
بهذا المعنى، لا يمكن أن توجد (إسرائيل) إلاّ في حالة حرب، أي لا يمكن رؤيتها منبسطة، ممتدة، مسترخية في (سهل التاريخ الواسع)، بل ترى فقط كحالةٍ محشورة بين جدران وأسوار عالية، تارة تجد (مكاناً لها) لتقيم فيه، وغالباً لا تستوطن سوى (كتابها: نصّها القاتل)!
في تتبع معرفي لمسيرة ومسار (النصّ القاتل)، يمكن ملاحظة حركته وإقامته المتأرجحة ما بين الهزيمة والانكفاء والاكتفاء بأن يكون حاكماً لأتباعه فقط، والانتصار والتمدد والتوسّع إلى جوار، وفي نصوص الآخرين الذين رويداً رويداً سيتأثرون به وصولاً للقبول بـ (حُكْمِه)!
شكلت المسيحية، بظهورها في (المكان نفسه)، الذي كان فيه (النصّ القاتل) مستوطناً، الضربة الأولى التي تلقاها هذا النصّ، إذ بدأ (المكان الضيّق)، والذي تم تضييقه، يعود إلى وسعه، ويفتح لنفسه آفاقاً أخرى جديدة. هكذا قوّض المسيح (جدران الهيكل وأعمدته) ونسف الأسوار الخانقة للحياة، والمضيِّقة للمكان الذي لم يكن يحتمل التشارك والشراكة، قبل أن ترتقي قدراته إلى احتمال إنجاز الوحدة الانسانية!! فلم يعد المنظر الأفقي محتشداً بالجماعات المتعددة، بل أصبح موحداً بـ (الإنسان) الذي كانت الفلسفة الرواقية قد رأته سابقاً، ناسفة الرؤية الثنائية الأثينية (أثيني ــ بربري)، ثم عادت هذه الثنائية لتنتهي من المنصة التي نظر فيها المسيح إلى الأفق.
فأصبح المكان لا يتسع فقط لـ (الذات المؤمنة) إلى جانب (الذات الخاطئة)، بل وصل في اتساعه ورحابته إلى القدرة على رؤية الأعداء فيه مبارَكين في نهج يجعل من وحدة الحياة مصهراً لإذابة جدار العداوة، الذي هو الأكثر رسوخاً في تاريخ الجماعات الانسانية!
وقع (النصّ القاتل) مهزوماً في أرض المعركة، منذ تلك اللحظة التي أشرف فيها المسيح على (المكان) من أعلى صليبه، فوجده متسعاً لتلامذته وصالبيه في آن، وبدلاً من الطلب من الجماعة الأولى الانتقام له من الآخرين فتح باب الغفران لهم، ليس لأنهم (آخر) غير تلامذته، بل لأنهم [جهّال (فقط جهّال – أي خارج نظام المعرفة -): لا يدرون ماذا يفعلون!!].
انهدمت الأسوار، ودُمِّرت الجدران، وسقطت الأعمدة من حول (الذات) المحشورة، التي استعادت حريتها كما استعادت مكانها التي جالت فيه وسارت، فلم تجد آخر متاخِماً لوجودها، ولم تخف من آخر مهددٍ لسلامتها. لم تجد سوى ذاتها ــ التي هي الكّل ممتدة منتشرة تملأ المكان وتفيض على حواف الأفق.
على أنّ (النصّ القاتل) المهزوم، وبفعل عماه وانطفاء بصيرته، لم يستسلم، بل بدأ مسيرة هجومه المضاد، ليس فقط بعودته إلى عادة رفع الجدران والأسوار، بل محاولة إجبار من هزمه على المشاركة في هذه الصناعة، عبر التسلل إلى (نصّه) تارةً، ومجاورته تارة أخرى، وصولاً، وفي مرات كثيرة، إلى الحلول محلّه!!
بهذا المعنى، يسجل لـ (النصّ القاتل) ذلك التقدم الملحوظ في النصوص الدينية الأخرى، المسيحية والإسلامية على السواء، مؤثراً فيها، ودون أن يدعها تؤثر فيه في حرفٍ واحد!
ومثلما تغلغل في النصّ المحمدي مربكاً له بسردياته كما بمنهجه (الثنوي)، فضلاً عن احتلاله أسبقية توحيدية مزعومة له، منحته أبوَّة رسمية في سلالة الأديان التوحيدية، تغلغل أيضاً في النصّ المسيحي، إلى المرحلة التي التصق فيها بـ (الإنجيل) محتلاً فاتحة (الكتاب المقدس)، على نحوٍ جعله يشكل (سوراً خانقاً) له، وقاتلاً لحريته، فإذا بالإنجيل (محرر المكان والموسع له) يتم إلقاء القبض عليه من قبل (النصّ القاتل)، وسجنه، وجعل الدرب إليه، والوصول إلى فسحاته، يمرّ عبر الجدران المتوالية، فلا تكاد تقطعها حتى تنقطع أنفاسك. ولذلك، فإن الواصل للإنجيل عبر (التوراة) يسقط عليه من أعلى جدارها فاقداً وعيه، أو لا يصل، ويبقى مسجوناً داخل أسوارها!
يحتلّ النصّ القاتل الآن، بـ تفاصيله ودهاليزه ومتاهاته المساحةَ الدينية في الفكر الأنكلو ــ ساكسوني عموماً، وغالباً ما يتم تطويع هذا الفكر للبرنامج المعاصر والراهن لهذا (النصّ)، والمتمثل بـ (إسرائيل) التي شكّلت الحالة الأكثر تجلياً له في التاريخ، والتي من المفترض حسب المنطق الداخلي له، أن تواصل رفع الجدران وبناء الأسوار، وإنشاء المتاهات، وتلغيم وجودها بالخيار شمشون، إلى الوقت الذي تغلق فيه (مكانها)، ويبدأ وجودها المحشور والمحاصر بنفسه، بالانتفاخ فيه، فيبدو مصيرها معلقاً على قدرتها على البقاء جاثمة/ جامدة ضمن جدرانه، وإلاّ فإن تحركت هي من (الداخل)، أو (غيرها) من (الخارج)، فإن الأسوار والجدران والأعمدة ستسقط مدمِّرةً (الحالة وتجلياتها)، ويحقق (النصّ القاتل)، إذ ذاك، مقتضيات أحد فصوله المسمى (سدوم وعمورة) التي ربما تكون الخاتمة اللائقة به!!
إشــارات
1 ــ السيزيفية المعدّلة التي نقصدها، تلك التي تشير إلى ظهور (حركة ما) قائمة أساساً على أسباب تتكرر، ليس بالضرورة في مواقيت ثابتة. وهي أسباب تتصل بحياة الجماعات وسياقاتها وقوانينها، وبهذا المعنى تبقى إشارتنا مختصة بـ (التاريخ ومعناه)، وإن استعرنا المصطلح من حقل الأسطورة الذي يشير بالأصل إلى (حركة أبدية) يقوم بمقتضاها سيزيف بحمل الصخرة إلى أعلى القمة، حيث تقع منه إلى الأسفل ليعود (كرة أخرى) لحملها في حركة دورانية لا تنتهي، لأنها (عقاب إلهي) أنزله (زيوس) وليس من يلغيه غيره!
2 ــ لا ننظر إلى الإلياذة، هنا، بوصفها تمثل قيم البطولة والنبالة، وتنطوي على اكتناه مأساوية الصراع، كما ينظر إليها الأدب الكلاسيكي عموماً، بل نشير إليها هنا باعتبارها مثالاً خاصاً لذلك الصراع الذي يؤول إلى هزيمة ساحقة لأحد أطرافه، مثلما يؤول إلى نصر كبير للطرف الآخر.
بالنسبة إلينا، هنا، لا نجد هيكتور وآخيل وهيلين وآغممنون، وغيرهم في الإلياذة، معزولين في (مشاهد) فردية، للوصول إلى خلاصات أخلاقية لقيم البطولة في معناها المثالي… بل إننا نراهم في إطار آخر يضعهم في معسكرين، أو جماعتين متصارعتين/ أسبرطة/ طروادة. وفي هذا الإطار، نرى كيف أن بطولاتهم ومنازلاتهم قد آلت في النهاية إلى انتصار (الإغريق)، كجماعة، وهزيمة طروادة كـ (جماعة) أيضاً.
3 ــ يمكن مقاربة مفاهيم الثنائيات والمركزية الأوروبية، وغيرها، بالعودة إلى بحث نزار سلوم في مجلة فكر العدد 69 سنة 1990، والذي جاء بعنوان: تأسيس التاريخ.
4 ــ ربما علينا أن نلحظ الفرق بين (الآخر الشريك أو المشارك)، و(الآخر المحتل والمغتصب)، وبذلك يأتي اعتمادنا لمصطلح (التشارك) بعيداً عن أي معنى لمصطلح (الاحتلال)، حيث يمكن حصول الالتقاء و(الدمج) بين جماعتين في حالتي (التشارك) أو (الاحتلال) وكل (حالة) تقتضي (رد فعل) مختلف عليها.
—————————–
تنويه: نُشر هذا النصّ، بالأصل، في مجلة فكر، العدد 104 ربيع 2009، ونُعيد نشره الآن، بسبب من راهنيته كما نعتقد.
القراءة المتجددة للنص تؤكد استثنائيته التاريخية والتحليلية ، ربطاً بتواصُل العذاب الأبدي السيزيفي في الميثولوجيا الاغريقية المنطبقة على حشرجاتنا الراهنة المُهلٍكة.