جماليات

“كل ما في الأمر”

حضور الغياب في أقاليم الشعر

قصائد الشاعر الفلسطيني وليد الهليس الجديدة “كل ما في الأمر” تبدو كمرايا خافتة الضوء مرّة ومشتعلة مرّة أخرى، وهي في الحالتين كمن ينحني على يومياته ليقرأ سطورها: هي قصائد البوح عن خفايا العيش في ملكوت التأمل، والإصغاء لما يمور في خلايا التأمل من وجد نتجول في حصاده الغزير بالعاطفة، بل وبالحنين الذي يستعيده الشعر على نحو فيه الكثير من اعتناء الشاعر باللغة واقتصاده في توظيفها بما يليق قصيدة النثر.
وليد الهليس في “كل ما في الأمر” (منشورات مركز سيرجيل – دمشق – 2023) ينتمي لجيل الثمانينيات في القصيدة الفلسطينية، أي تماماً “إلى القصيدة الجديدة” حيث تنفتح حدقة الشعر على الذات الفرديّة وتنتقي من تخومها وعوالمها صور الحياة الفرديّة وتناقضاتها، بل وعصفها ولا معقوليتها في كثير من الأحيان. هي قصائد تقارب الحياة برؤى حميمة تنتسب لقراءات الروح ووهج خطوطها وأبعادها:

“أنتم نداماي
وأنا الساقي، حارس الدنان
تسيل الخمر من يدي إلى شفاهكم
وأرعى سكر أرواحكم،
إلى الفجر…”

هي قصائد تذهب في حضورها إلى لغة مباشرة، بسيطة وتنتسب إلى سبك فيه الكثير من روح السرد، أو إذا شئنا تصاعده ولغته التي تأتي في صيغة مخاطبة آخرين يفترضهم الشاعر وتنتمي لهم القصائد. تلك الروح الشعرية تؤثث حضورها باستحضار مشاهد الألفة وفي القلب منها مرايا الحب البسيط والعميق في آن واحد. ووليد الهليس يكتب أو لنقل يرسم بريشة من أناه فيها ولهٌ هادئ تنبت فيه عشبة الشعر على نحو مختلف له أواره وحميميته التي تنتسب لقوة الحياة وجماليات حضورها التي تقف خمرة الأمل في مقدمة عناصرها. وفي “كل ما في الأمر” روح الشعر تُآخي روح العيش البسيط على نحو يحملهما معاً إلى مقام خافت وحميم من المشاهد الحية التي تحمل صورها الشعريّة باعتناء، بكل ما في التشكيل من عناصر ومفردات فنية تقترب من اللغة الواقعيّة البسيطة، ولكنها تأخذها وترتفع بها على نحو يجعل الشعر مغامرة جميلة:

“كل يوم أفكر فيكم بلا استئذان
وأردّد أسماءكم بلا هوادة
كل يوم لا أبكي ولا أضحك
ولا أطلق لحية في حداد…”

لوحات وليد الهليس الشعريّة في “كل ما في الأمر” أفق سردي يأخذ نموّه في حيّز المخاطبة المباشرة باستحضار صور “آخرين” نلمحهم أو نحس بغيابهم، وأقول هنا إنَّ الغياب بالذات هو الذي تتوجه القصائد نحوه، فنحن خلال قصائد المجموعة كلها نحث خطانا في رحلة حنين تقطف ثمارها وفواكهها من ذاكرة فيها الكثير من حيوية المخيلة ومن خطوطها الملّونة بتفاصيل الحياة وقوة حضورها وابتعادها. نحن طيلة هذه القصائد نلحظ أن الغياب بالذات هو “بطلها” المفقود والمتواري، بل والذي يملك مفاتيح البهجة وأسباب حضورها المبتغى وغيابها الراهن.
هي تجربة شعريّة لا نعثر خلالها على ذروة كبرى يمكن أن نعتبرها نقطة الضوء التي تذهب في اتجاهها وتأخذنا معها، لكننا نعثر على جماليات شعرية تنتبه لما في الذاكرة من حنين للآتي، فذاكرة وليد الهليس هي غياب الآتي مثلما هي الدرب المبهمة التي تحمل وعد الوصول إليه. والقصائد في حالة شعريّة كهذه تمتحن جدارتها بانتسابها إلى لغة شعرية فيها الكثير من عناصر البوح الرشيق، البسيط والمنسوج خطوطاً دراميّة تحمل عناصر تكاملها مع الحب بالذات باعتبارها سبيلاً إلى نور ساطع تتوثب القصائد للوصول إلى تخومه البعيدة الحاضرة بقوة أملها وما يحمله من جمال:

“كل ما لدي خيط ضوء لا أراه
حفنة من تراب تحمل خطواتكم
وراية تمزق الرياح…”

وليد الهليس ينتمي لجيل قصيدة الثمانينيات في الشعر الفلسطيني ويبدو أقرب إلى أفق وليد الآخر، وليد خازندار، ولكنه يمتلك روحه المختلفة مثلما يرى بحدقتين مختلفتين تجوسان في أقاليم المنفى ومنعطفاته، وتعثران على خيط الضوء البعيد بما هو عيش متناثر في الحياة الواقعيّة وفي الأمل الغائب معاً. وأعتقد أنَّ أهمَّ ما في قصائد هذه المجموعة هو بالذات شغفها وشغف شاعرها بحيويّة المشهد الشعري وامتلاكه لخطوط حضوره على نحو جذاب، وفيه شغف الرغبة في مقاربات شعريّة روحيّة تبني حضورها بمشاهدها الهادئة وما يشتعل في هدوئها من ولع ببنائيّات شعريّة لها حضور الدراما بما هي روح، ولكن أيضاً بما هي لغة وصور شعريّة متلاحقة ومتفاعلة في سياقاتها ومآلاتها الأخيرة.
هي قصائد تجربة شعريّة لها شغفها الجميل بكل ما في القادم البعيد من بهاء يزين حضوره المستتر، وإطلالته المتوارية، ونحن خلال قصائد “كل ما في الأمر” نسعى مع الكلمات والسطور الشعرية إلى “مراكمة” ما هو حار ومشتعل بالغياب الذي يؤرّق الشعر والقصائد ويشيع في روح قارئها الذي يتبع خيطها الخفي الذي ينتظمها والذي يجعل منها أقرب لقصيدة واحدة بأناشيد متعددة، وأصوات تبتعد وتقترب لكنها تظلّ في صعود جميل نحو أفق شعري مختلف:

“موجع عتب الحجارة
وأنا حجر قديم لا بيت لي
لا حزن ولا فرح
لكنني أريد أن أصعد الجبل
حاملًا في يدي، مثلكم، شعلتي
أريد عصا تنذر الطريق
وقدمًا تعرف صورة روحي
وتمشي إليها”.

————————

تنويه: مصدر المقال: ضفّة ثالثة.

راسم المدهون

شاعر من فلسطين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق