يحيل مصطلح (المادية الجغرافيّة) حكماً على مصطلح (الماديّة التاريخيّة) في النظريّة الماركسيّة التي تفيد بأن الصيرورة التاريخيّة للإنسان تحكمها موازين القوى في علاقات الإنتاج بين العامل المنتج من جهة، ومالك وسيلة الإنتاج من جهة ثانية، وهي علاقة تقوم على التناقض الجدلي التاريخي والصراع الطبقي بينهما، وعلى هذه العلاقات التي تشكل البنى التحتيّة الماديّة للاجتماع البشري تتأسس البنى الفوقية الروحيّة له. على أن التجربة ستثبت فيما بعد أنَّ المنهج المادي التاريخي لم يتمكن من متابعة ما آلت اليه نتائج التناقض الجدلي المذكور في هذا المجال، فكان لا بدَّ من رفده بمنهج آخر هو المنهج المادي الجغرافي بالمعنى الماركسي لكلمة مادي.
في منطلقات الماديّة التاريخيّة
أفضت حركة التاريخ في النظريّة الماركسيّة للماديّة التاريخيّة، إلى النظام الرأسمالي الراهن، والمعمول به تقريباً على مجمل الكرة الأرضية. وهذا النظام منذ نشأته وحتى اليوم، مبني على الظلم الاجتماعي حيث إن الديناميكيّة الاقتصاديّة التي يتمتع بها الرأسمال في ظل هذا النظام، تؤدي الى تشكُل طبقي اجتماعي اقتصادي قوامه، بعد الثورة الصناعيّة الحديثة، طبقة رأسماليّة، تمتلك وسائل الإنتاج من جهة تقابلها طبقة عماليّة بروليتاريّة تكدح لها من جهة ثانية، تقع بينهما شرائح اجتماعيّة اقتصاديّة مختلفة تتحكم فيها هي الأخرى الطبقة الرأسماليّة عينها، ويجري كل ذلك في إطار دولة سُنّت قوانينها من أجل مصلحة الطبقة العليا في المجتمع الحديث. هذا وقد تناولت آلاف المراجع والدراسات سلباً وإيجاباً هذه الأمور وما يتفرع منها من قضايا وتفاصيل على الصعد الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة بالتحليلات والمجادلات الإيديولوجيّة وذلك منذ أن صيغت النظريّة الماركسيّة في منتصف القرن التاسع عشر وحتى ما بعد القرن العشرين.
إلى ذلك تكشف الماديّة التاريخيّة عن المراحل المفصليّة التي شهدتها البشريّة لا منذ ما قبل التاريخ حتى الوقت الراهن وحسب، وإنما تكشف أيضاً عن المستقبل وعن كيفية صياغته من أجل تحقيق المصلحة العليا والعامة للإنسانية بكليتها. والمراحل المذكورة تتراتب على النحو التالي:
1 – المشاعيّة، في ما قبل التاريخ حيث كانت البشرية تعتاش من الصيد واللم والقطاف.
2- الرق، وفيه تعبر البشرية إلى التاريخ، حيث يتبلور المجتمع الطبقي موزعاً على قطبي الأسياد والعبيد، وتأخذ الدولة شكلها الاستبدادي في ظل نمو اقتصاد زراعي تراكمي.
3- الإقطاع، وهو سمة العصور الوسطى الأوروبية وفيه حل الارستقراطيون ورجال الدين مكان الاسياد وحل الفلاحون مكان العبيد في ظل نظام ملكي واقتصاد زراعي تجاري أدّى إلى نمو الطبقة البرجوازية الوسطى.
4- الرأسمالية، وقد ترسخت بعد أن اطاحت البورجوازية بالإقطاعية – الاشتراكية، وهي التي ستلي، أو التي ينبغي أن تلي الرأسمالية وصولاً إلى المرحلة الأخيرة أي الشيوعية.
أولى ماركس في صياغة نظريته المادية التاريخية المرحلة الرأسمالية وما يليها أهمية كبرى، فأجرى تحليلات معمقة لمختلف آلياتها لا سيما لجهة اتساع القطاع الصناعي الرأسمالي واشتداد التناقضات الطبقية بين العمال بأعدادهم المتزايدة ومعاناتهم الاجتماعية الاقتصادية من جهة واحتكار الرأسماليين لوسائل الإنتاج وتراكم ثرواتهم على قلة أعدادهم من جهة اخرى، وهنا يُلقي ماركس المسؤولية في مجاوزة الرأسمالية، على الطبقة العمالية في الدول الصناعية المتقدمة باعتبارها هي المؤهلة للقيام بالثورة من أجل الاشتراكية حيث يجري نزع ملكية وسائل الإنتاج من القلة المحتكرة لها ووضعها بتصرف دولة ديكتاتورية العمال ، وفي هذا السياق تمضي النظرية الماركسية في بلورة مفهوم جدلية الصراع الطبقي الذي ينبني عليه تمرحل مسار البشرية من الرق إلى الاشتراكية كما أسلفنا وصولاً إلى الشيوعية حيث من المفترض أن تنتفي الملكية الفردية وتتلاشى الدولة وينتهي الصراع الطبقي كما ينتهي استغلال الإنسان للإنسان.
قصور ايديولوجي
إن إلقاء مهمة تحقيق الاشتراكية على عاتق الطبقة العمالية في الدول الصناعية المتقدمة، جعل الفكر الماركسي يتضمن بعداً ايديولوجياً سياسياً قوامه دعوة العمال ومن ورائهم سائر فئات الشعب المتضررة من النظام الرأسمالي إلى الثورة على الرأسمالية وانتزاع السلطة منها كمقدمة للقضاء على الاستغلال ثم الذهاب إلى المجتمع الشيوعي حيث يزول خضوع الأفراد المذلّ لتقسيم العمل بين منتج من جهة ومالك من جهة ثانية. هذا ولما كان هدف المادية التاريخية وفق الرؤية الماركسية يتجاوز رفع الغبن عن الطبقة العمالية إلى تحرير الإنسانية ككل فإنها سرعان ما استقطبت إلى جانب العمال أعداد وافرة من المفكرين والفنانين وآخرين من قادة الرأي ورجال السياسة في البلدان غير الصناعية، فضلاً عن قطاعات واسعة من الفئات الشعبية غير العمالية، فكان لهذا الأمر، ومن دون الدخول في التفاصيل، تداعيات مختلفة فيما خص الشأنين النظري والتطبيقي في المادية التاريخية، ذلك أن الثورات الاشتراكية الماركسية تمت فيما بعد في روسيا (1917) ثم الصين (1949) فكوبا… ثم في غيرها… وجميعها دول غير صناعية وغير متقدمة، حيث الطبقة العمالية فيها لم تكن تمتلك الشروط الموضوعية للاندفاع نحو الاشتراكية كما وردت في النظرية المادية التاريخية، مما جعل القيمين على هذه الدول يجهدون في حرق المراحل وتسريع العمليات الآيلة إلى خلق مجتمع صناعي ولو بالقوة كشرط ضروري لتحقيق الأهداف الاشتراكية. ولكن لم ينته القرن العشرون إلاّ وطرأت على هذه الثورات تحولات أخرجتها عن مسارها الذي حددته المبادئ التي انطلقت منها واستعادت الرأسمالية بشكل أو بآخر موقعها في البلدان المذكورة.
والحال إن تقدم الفكر السياسي الماركسي بأبعاده الإيديولوجية في البلدان غير الصناعية وانكفائه عن البلدان الصناعية بما يبدو وكأنه لا يتوافق مع المادية التاريخية، قد شغل المفكرين الماركسيين، حيث شكّل ذلك تحدياً نظرياً كان لا بدَّ من أن ينبري له هؤلاء بشكل أو بآخر. وبالفعل، فهم لم يوفروا جهداً في سبيل ملاءمة صعود الاشتراكية في الدول المتخلفة صناعياً مع المادية التاريخية. على أن ذلك لم يمنع الإشكال بهذا الخصوص من الاستمرار. في هذا السياق أشاع المؤرخ البريطاني الماركسي بيري اندرسون خلال السبعينات من القرن العشرين، في الأوساط المعنية، مقولة مفادها أنه إذا لم تشكل الماركسية قوة وازنة في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، باعتبار الأولى موطن أغنى طبقة رأسمالية امبريالية في العالم، والثانية منشأ الطبقة العمالية الصناعية الحديثة، فإنها أي الماركسية لن يكون بمقدورها مواجهة المشكلات الكبرى التي تطرحها الحضارة الرأسمالية في النصف الثاني من القرن العشرين.
في تلك الفترة أي خلال السبعينات المذكورة، كانت الحركات العمالية تشهد في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا تصاعداً لافتاً في قدراتها على التغيير، ما جعل الأوساط اليسارية الراديكالية تأمل تبدّل الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية لمصلحة الرؤية الاشتراكية على حساب الرأسمالية، غير أن رياح الثمانينات والتسعينات أي في الحقبة الريغانية – التاتشرية (نسبة إلى رونالد ريغان ومارغريت تاتشر)، ذهبت في الاتجاه المعاكس حيث جرى تحطيم النقابات وشل فاعلياتها تمهيداً لتهيئة الأجواء التي أدت إلى النيوليبرالية الرأسمالية المتفلتة، مما أعاد الأمور إلى المربع الأول، أي انكفاء الفكر الاشتراكي الماركسي عن الدول المتقدمة وبالتالي الإبقاء على الإشكال النظري والعملي الإيديولوجي الذي يعتري المادية التاريخية بنسختها الأصلية. فكان لا بَّد من التحري عن مكمن النقص في النظرية الماركسية الذي يمنعها من التقدم في تحقيق أهدافها انطلاقاً من المجتمعات الصناعية المتقدمة.
نحو الجغرافيا
كان الفيلسوف الفرنسي الماركسي هنري لوفيفر في السبعينات من القرن العشرين، قد طرح في كتاب له عنوانه «انتاج المجال (La production de l’espace) فكرة جديدة تتناول العلاقة بين نظم الإنتاج الاقتصادي الاجتماعي من جهة والمكان الذي تتعامل معه وتعمل فيه هذه النظم من جهة ثانية، والمكان المعني هنا هو مساحة جغرافية من سطح الكرة الأرضية تشكل مجالاً لأنشطة الإنسان الاجتماعي وهو ما ندعوه بالمجال الجغرافي. في هذا السياق بيّن لوفيفر أن الرأسمالية تنتج مجالاً جغرافياً يحمل في طياته تناقضات موازية لما تنتجه من تناقضات طبقية اجتماعية، والمجال الجغرافي هنا والذي تنتجه النظم الاقتصادية ومن بينها الرأسمالية يتكون من كل ما يخص السكان، عدداً وحركة… أنشطتهم …، المباني والمنشآت، شبكات المواصلات… المبادلات المادية وغير المادية… والاستقطابات… فضلاً عن التصورات والأفكار والمشاعر إزاء هذه المنتجات الجغرافية. وعليه فكما يؤدي النظام الرأسمالي إلى تناقضات اجتماعية حادة هكذا يؤدي أيضاً إلى تناقضات بالحدة عينها في وبين المجالات الجغرافية بمكوناتها المختلفة.
بعد صدور كتاب لوفيفر المذكور أقدم الجغرافيون الماركسيون، لا سيما في الولايات المتحدة وبريطانيا على التصدي لموضوع المجال الجغرافي وفق الرؤية الماركسية، ذلك أن نظرية المادية التاريخية بما هي مفهوم الماركسية للتاريخ بقيت مبتورة في نظرهم، إذ أنها لم تتمكن من وضع الاستراتيجية المناسبة والقادرة على تخطي الرأسمالية في الدول الصناعية المتقدمة كما أُريد لها، فكان لا بد للماركسية من استكمال المادية التاريخية بنظرية المادية الجغرافية تعبّر بها عن مفهومها للجغرافيا، وتجمع فيها إلى جانب رؤيتها الطبقية الاجتماعية، رؤية إضافية هي الرؤية المجالية الجغرافية، الأمر الذي يتيح لها تصويب منهجها على الصعيدين النظري والعملي وتجعله قادراً على تناول الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية على نحو شامل، كشرط ضروري لتوفير مستلزمات مجاوزة الرأسمالية إلى ما هو أرقى منها على الصعيد الإنساني، فلا يبقى منهجها مقتصراً على تمحوره حول الطبقة الاجتماعية دون المجال الجغرافي الاجتماعي .
في هذا الإطار انبنت الرؤية الجغرافية الماركسية الجديدة إذن على اعتبار المجال الجغرافي منتجاً اجتماعياً شأنه في ذلك شأن الطبقة الاجتماعية، وعليه فإن الرأسمالية، لا سيما بعد عولمتها، بقدر ما تشتد فاعليتها في تعميق التفاوت الطبقي، تشتد أيضاً فاعليتها في تعميق التفاوت الجغرافي أي في المجالات الجغرافية وبين بعضها البعض: بين مجال هذه المدينة أو تلك أو بين مجالات الأحياء في المدينة الواحدة… في الضواحي… بين المدن والأرياف أو الأقاليم والمناطق… بين المراكز والأطراف… وصولاً إلى التفاوت بين عالم الشمال المتقدم وعالم الجنوب المتخلف… وعليه فإن الصراع في سبيل العبور إلى الاشتراكية بات يستدعي أيضاً إلى جانب الصراع الطبقي التاريخي الأخذ بعين الاعتبار ضرورة التعبئة من أجل صراع مختلف يقع على مستوى آخر هو الصراع « المجالي الجغرافي» إذا جاز التعبير. وبذلك تستكمل المادية الجغرافية التي بدأ العمل عليها الجغرافي الانكلوأميركي ديفيد هارفي منذ سبعينات القرن العشرين، نظرية المادية التاريخية التي صاغها ماركس في القرن التاسع عشر.
هذا وقد تطلب إدراج البعد الجغرافي في الماركسية التعامل مع التحولات الأبيستمولوجية التي شهدتها الجغرافيا في النصف الثاني من القرن العشرين، على النحو المؤدي إلى جعلها أداة معرفية نظرية وتطبيقية في خدمة المظلومين والمهمشين والشرائح الاجتماعية الأخرى المتضررة من النظام الرأسمالي، طبقياً اجتماعياً و… جغرافياً، وهي شرائح يزداد اتساعها بفعل أنشطة الرأسمالية المعولمة على مجمل مساحة الكرة الأرضية.
—————————————–
**من اجل المزيد من التفصيل أنظر كتاب: معين حدّاد، المادية الجغرافية، ضرورة استكمال المادية التاريخية في الماركسية، دار الفارابي بيروت 2019.
—————————————–
تنويه: ينشر سيرجيل هذا المقال باتفاق خاص مع المؤلف، والنص سبق نشره في جريدة الديار اللبنانيّة.
لم يتسن لنا الاطلاع على الكتاب لتكوين صورة شاملة . غير أن ما قرأناه هنا ينبئ بعمل ابتكاري قائم على عرض موضوعي وتحليل علمي ونقد بناء اضافة الى محاولة هامة لردم الهوة التي اعترت النظرية الماركسية وصدمت ” تنبؤاتها “. فما يطرحه الدكتور حداد لسد الثغرة واستكمال البناء التحليلي الناقص بطرحه ” المادية الجغرافية “، كاضافة مفترض فيها ان تستكمل البناء النظري –الفلسفي والعلمي. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا بقوة: هل يستكمل البناء الماركسي بالقطبين الماديين، التاريخي والجغرافي؟ قبل اعطاء الجواب على السؤال لا بد من الاطلاع على الكتاب اولا . غير أنه بمقدورنا ان نقول ان القطبين الماديين التاريخي والجغرافي يقعان في دائرة الضروريات ولا يستوفيان شروط النهوض والارتقاء بالحياة الا بتوفر الشرط الحتمي الذي هو الانسان. التاريخ والجغرافية يقدمان الضروريات لا الحتميات. نعود ونكر شكرنا للدكتور حداد على هذا البحث القيم.