“إنَّ أعظم عقبة في سبيل تحقيق وحدتنا القومية وفلاحنا القومي هي تعلق المؤسسات الدينية بالسلطة الزمنية، وتشبث المراجع الدينية بوجوب كونها مراجع السيادة في الدولة، وقبضها على زمام سلطاتها أو بعض سلطاتها، على الأقل. والحقيقة أنَّ معارك التحرر البشري الكبرى كانت تلك التي قامت بين مصالح الأمم ومصالح المؤسسات الدينية المتشبثة بمبدأ الحق الالهي والشرع الالهي في حكم الشعوب والقضاء فيها، وهو مبدأ خطر استعبد الشعوب استعبادا أرهقها”. (أنطون سعادة -الأعمال الكاملة، الجزء الثامن، صفحة 88).
مع انتهاء الحرب العالمية الأولى رأى أنطون سعاده أنَّ العلمنة غير ممكنة دون إعادة توحيد المنطقة التي تمت تجزئتها من قبل الاستعمار الغربي بناء لاتفاقيات سايكس-بيكو عام 1916، ذلك أنَّ تحديد العلمنة على أساس “فصل الدين عن الدولة” يستتبع بالضرورة وجود دولة وطنية/ قومية، أو دولة – أمة ((nation-state، وهو بذلك يخالف منحى التيارات الشيوعية التي حاربت الدين على أساس أنَّه “افيون الشعوب”، وحاولت الغاءه. فسعادة قدًر الدور الهام الذي لعبه الدين في مسار حضارتنا المشرقية، لكنه حدد أهميته في المجال الروحي، فهذه هي رسالة الدين الاساسية التي لا ينافسه عليها أحد. المعضلة هي في لعب رجال الدين أدواراً تتعدى المنحى الروحي باتجاه الاستيلاء على السلطة الزمنية، وطموحاتهم بالعودة إلى امبراطوريات دينية تتحكم بمصير شعوب متعددة. حصل هذا في الغرب مع سيطرة الامبراطورية الكاثوليكية البابوية على اوروبا، كما تحقق في غرب آسيا، مع الخلافة العباسية وما تلاها، انتهاء بالسلطنة العثمانية التي بسطت سيطرتها على مجمل البلدان العربية المطلة على البحر الابيض المتوسط.
نشوء الدولة الحديثة، أي نشوء الدولة الوطنية/القومية غيًر المعادلات؛ صحيح أن تبلور فكرة الدولة-الأمة حصل بداية في الغرب، إلاَّ أنَّه انتشر خلال قرن من الزمن ليعم العالم كله، ومن تخلف عن الركب فاته القطار، وذوى حضوره، وأصبح مصيره مهدداً، حتى أنَّ بعض المجتمعات البدائية انقرضت نهائياً من الوجود.
في العالم العربي، فرض الغرب الاوروبي الاستعماري تقاسيم دول مصطنعة على أنقاض السلطنة العثمانية التي نُعتت بـ “الرجل المريض”، وحل استعمار محل آخر. فكيف واجهت دول العالم العربي هذا التحدي الغربي؟
استجابة أنطون سعادة السريعة والواضحة هي بتبني النظام الجديد ومؤامته مع حضارتنا؛ فكما نحتاج إلى بندقية لمواجهة بندقية، يتطلب منا الأمر بناء دول وطنية/قومية لدحر المستعمر، إذ إنه لا يمكننا استعمال السيف لمواجهة بندقية، والاعتقاد بأن الانتصار ممكن! ومن أجل بناء دولة-امة لم يكن من مناص الفصل بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية (أنطون سعادة – الأعمال الكاملة، الجزء الثالث (نشوء الامم): صفحة 110). في مواجهة ذلك، نشأ تيار كبير رفض التخلي عن الدولة الدينية تحت عنوان: الاسلام السياسي، أي رفض الفصل بين الدين والدولة.
إزاء هذا الوضع، انصب اهتمام سعادة على دراسة الأهداف المضمرة في ترسيخ الطائفية من قبل الدول الغربية، كما التفت إلى النتائج الوخيمة المتأتية من التعصب الديني الطائفي.
اتفاق سايكس-بيكو التقسيمي 1916
من أهم الاسباب التي دفعت بسعادة الى تأسيس حزب توحيدي لسوراقيا، هو التقسيمات الطائفية والتفتيتية التي قامت بها بريطانيا وفرنسا للمنطقة إثر انتصارها في الحرب العالمية الأولى عبر اتفاقية سايكس-بيكو، حيث تم سلخ المناطق بعضها عن البعض الآخر باسم الطائفة والمذهب. فلقد استغل الغرب وجود الملل الدينية على أرض المشرق العربي، للتفرقة وإثارة الفتن بين المكونات الطائفية تبعاً لشعار “فرّق تسد”. مارس الغرب هذه السياسة أيام الحكم العثماني، من خلال النظام الملي بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر، حيث عمد القناصل الأوروبيون إلى الادعاء بأنهم يحمون الأقليات الدينية في الشرق، فبادرت فرنسا عبر قناصلها إلى التكلم باسم الموارنة، فيما سعت بريطانيا لمؤازرة الدروز. وفي الحقيقة لم تكن هاتان الدولتان المستعمرتان تأبهان لا للدروز ولا للموارنة المتواجدين فيما كان يسمى آنذاك “جبل لبنان”، بل كانت كمنت مصالحهما في الاستيلاء على مناطق نفوذ عبر وكلائهم وقناصلهم في أرجاء السلطنة العثمانية. فعدا عن سيطرتهما على الأرض عبر دعم ملل معينة، واحتكار المواد الأولية، وعلى رأسها النفط، ترافقت هذه الهجمة مع الثورة الصناعية في أوروبا الغربية وحاجتها لتصريف الفائض من بضاعتها إلى الخارج لمراكمة الارباح. وهذه كانت إحدى الأسباب الرئيسية لانهيار الاقتصاد المشرقي المحلي المبني على الانتاج اليدوي لا على الآلة.
وكما اتكل الغرب الاستعماري على نظام الملل الطائفي العثماني للتغلغل ضمن الامبراطورية العثمانية، تابع السياسة نفسها بعد انتصاره في نهاية الحرب العالمية الأولى. فسوراقيا، ما عدا مصر، هي المنطقة العربية الأكثر تقدماً وحضارة وحداثة من بين جميع الاقاليم العربية المتواجدة في الجزيرة العربية وشمال إفريقيا، لذلك انصب اهتمام الاستعمار عليها، فعمدت بريطانيا وفرنسا عبر اتفاقية سايكس-بيكو السريّة على تقسيم المنطقة فيما بينهما على أسس طائفية، فاخترعت فرنسا دولة لبنان الكبير كدولة تهيمن عليها الطائفة المارونية الخائفة من جوارها الاسلامي، كما باشرت إلى تقسيم سورية إلى دويلات طائفية دينية كدولة جبل الدروز ودولة العلويين، ودولة للسنة، إلاَّ أنَّ السوريين رفضوا الخطة الفرنسية، وواجهها سلطان باشا الاطرش مطالباً بوحدة سوريا (الاعمال الكاملة، ج8: 253).
سمّى الفرنسي لبنان دولة وجمهورية، لكن في حقيقة الأمر لم يكن دولة أو جمهورية لأنه لم يستوف شروط أي منهما. فجل ما حصل هو الصاق طوائف بعضها إلى جانب بعض، ضمن حدود معينة، ومطالبتها بتدبير أمورها بناء على نظام “الميثاقية” أو التمثيل الطائفي على الأصعدة كافة. اعتبر الفرنسي أنَّ وجوده هو اللاصق بين هذه المجموعات، أي أنَّه المتحكم بقراراتها.
والسبب الأهم لهذه التقسيمات الطائفية، دور بريطانيا العظمى في زرع جسم غريب رأت أنّه لن يستطيع البقاء إلاَّ إذا كان المشرق العربي بأكمله على شاكلته، ألا وهو الكيان الصهيوني، وللمفارقة، العقيدة الصهيونية عقيدة قومية عنصرية تقوم على إنشاء وطن قومي لليهود، أي أنها تريد تحويل الدين اليهودي إلى قومية يهودية على أرض فلسطين، فمن دون أرض لا مكان لأي قومية.
هنا ايضاً، أهمية فصل الدين عن الدولة بالنسبة لسعادة، لأن فصل الدين يفتح الباب أمام وحدة المجتمع القادر حينئذ على مجابهة الصهيونية، لذلك رأى الغرب أن التهديد الأكبر لمشروعه يكمن في الفكر الوطني/ القومي الجامع للطوائف كما وضعه سعادة.
العامل الديني في الفتن الداخلية
أحد أهم أسباب ادراج سعادة لبند فصل الدين عن الدولة هو الدور المدمر الذي تلعبه الطوائف والمذاهب في منطقة الهلال الخصيب، إذ إن هذه الطوائف تقف سداً منيعاً أمام تطور المجتمع باتجاه الوحدة الوطنية. فبالنسبة للطائفيين والمذهبيين ملتهم أعلى من الوطن، وهم على استعداد لبيع وطنهم في مقابل سيطرة طائفتهم. نجد أمثلة صارخة لهذا الوضع خاصة في لبنان لأن نظامه الطائفي يفتح الباب واسعاً أمام الاحتراب الديني، فالفتن الطائفية تتكرر دون هوادة ولا أحد يتعلم أي شيء منها. وفي عام 1936 اندلعت فتنة من هذه الفتن بين حزب النجادة السني، والكتائب اللبنانية المارونية، فكان نداء سعادة الشاجب: “إنَّ تحويل الوطن إلى ميدان ينقسم فيه الشعب الواحد، الموحد المصير إلى جيشين يتناطحان للوصول إلى غاية واحدة، هي الخراب القومي، عمل شائن لا يليق إلاَّ بالشعوب البربرية” (الأعمال الكاملة، الجزء الثاني، صفحة 55). والمعضلة في الأحزاب الطائفية/الدينية أن “لا برامج سياسية ولا اجتماعية ولا اقتصادية عندها” (الأعمال الكاملة، الجزء الثاني، صفحة 282)، بل جل ما تفعله هو نشر بذور الكراهية والتفرقة بين أبناء الشعب الواحد: “صارت “النجادة” حزباً سياسياً طائفياً على غرار “الوحدة الوطنية” و”الكتائب”، وباتت هذه الاحزاب الطائفية الثلاثة خطراً على مصلحة البلاد ووحدتها، وسبباً في تقوية العصبيات الطائفية الهدامة” (الاعمال الكاملة، الجزء الثاني، صفحة 323). ويرفض سعادة الحلول التي يقدمها البطريرك الماروني، ومنها مثلاً توزيع غنائم السلطة على الطوائف كما أكد في خطبته عام 1937: “نظراً للتعصب الديني والطائفي عند أغلب الناس، لا يرتاح لبنان إلاَّ إذا أعطيت كل طائفة حقها من الوظائف والمنافع العامة بموجب نظام مفصل” (الأعمال الكاملة، الجزء الثاني، صفحة 355). واستنكر سعادة موقف البطريرك قائلاً أن حركته القومية “تحارب جميع الحزبيات الدينية التي تلغي الرابطة الوطنية وتمحو العصبية القومية، وتفسد الايمان الديني الحقيقي، لأن مهمتها الكبرى العمل على فلاح الأمّة السورية وارتقائها” (الاعمال الكاملة، الجزء السادس، صفحة 8)، كما رفض إنشاء أي مركز ديني في الدولة السورية يشارك الوزراء في قراراتهم لأنه يفتح الباب لازدواجية القرارات والنزاعات التي ستنتج بسبب تدخل رجال الدين في السلطة (الأعمال الكاملة، الجزء السادس، صفحة 150).
السبب الرئيس لأهمية الفصل ما بين الدين والدولة “إن الوحدة القومية لا يمكن أن تتم على أساس جعل الدولة القومية دولة دينية، لأن الحقوق والمصالح تظل حقوقاً ومصالح دينية، أي حقوق ومصالح الجماعة الدينية المسيطرة، وحيث تكون المصالح والحقوق مصالح وحقوق الجماعة الدينية تنتفي الحقوق والمصالح القومية التي تعتبر أبناء الأمة الواحدة مشتركين في مصالح واحدة وحقوق واحدة. وبدون وحدة المصالح ووحدة الحقوق لا يمكن أن تتولد وحدة الواجبات ووحدة الإرادة القومية” (الاعمال الكاملة، الجزء الثامن، صفحة 92).
لقد توقع سعادة مصائب كبرى ستحل بالمشرق العربي إذا لم يتم الفصل ما بين الدين والدولة، والغاء الطائفية في كل مؤسسات الدولة، والتوجه نحو حصر الدين بشؤون الفرد الخاصة، واحترام خيارات المواطنين فيما يختص بحياتهم الروحية. فما الذي حصل فيما بعد؟
بدأت الحروب الطائفية مع تقسيمات جغرافية بحسب الدين والمعتقد، بعد عقد من استشهاد سعادة، ففي 1958 اشتعلت الحرب بين طرفين مسلم ومسيحي حول مصير لبنان إزاء المد الناصري العربي، لتعود وتستعر في حرب كبرى امتدت خمسة عشر عاماً (1975-1990).
مقارنة بين الدولة الدينية والدولة العلمانية
لنقارن كيفية إدارة الدولة الدينية/الطائفية واختلافها عن الدولة العلمانية، (القصد بالعلمانية الفصل بين الدين والدولة لا الالحاد):
أولاً، في دولة الطوائف يتحكم رجال الدين بكل أفراد المجتمع في الشأن العام كما الخاص أيضاً، فيأمر رجال الدين الناس باتباع نظام واحد شمولي في المأكل والملبس والعبادة والفكر، ويفتون في كل مناحي الحياة ويلِجون إلى أتفه التفاصيل ما يمنع أي حرية أو مبادرة من قبل الافراد، فيما الدولة العلمانية لا تتدخل في شؤون المواطن الخاصة، وتترك له حرية ممارسة معتقداته.
ثانياً، لأن دولة الطوائف الدينية لا تفصل بين الشأن العام والخاص، يستتبع ذلك انتشار الفساد والمحسوبيات والمحاصصات والقفز فوق القانون الوضعي. فالطوائف/الأديان في النهاية، مسألة تختص بمصالح كل طائفة/دين على حدا لا بالكل المكون للوطن/الامة، ونحن نستطيع أن نتكلم عن الشأن العام فقط ضمن نطاق الدولة القومية العلمانية، أي اتخاذ قرارات تختص بشؤون عامة الشعب بشكل متساو، وبدون تمييز أو تحيز.
ثالثاً، تفرض الدولة الدينية/الطائفية الأحوال الشخصية الدينية على الجميع بالولادة، فلا خيار أمام الفرد، تعلّبه وتملي عليه القيود الواجب اتباعها وتجبره على البقاء ضمن الطائفة والولاء لها، ولا تسمح له بالتغيير والتقدم، فيما تتبع الدولة العلمانية القانون الوطني/ المدني المتحرك والذي يتغير بناء على إرادة الشعب. ويخضع جميع المواطنين للقانون المدني دون أي استثناء في الدولة العلمانية بينما يفرق قانون الأحوال الشخصية بين المواطنين فتتبع كل فئة قانوناً مغايراً لفئة أخرى وقد يكون مناقضاً لها، ويتلاشى مفهوم المواطنة. ثم إن القوانين الدينية تفتح الباب أمام رجال الدين للسيطرة على الدولة، فبدل أن يكون الزواج والطلاق والارث والوفاة تبعاً لقانون مدني، يتحكم رجال الدين بأفراد المجتمع، وهم يتحكمون أيضاً بالمدارس التي هي طائفية في غالبيتها المطلقة بما فيها الإرساليات الأجنبية، والمستشفيات، والجمعيات الخيرية، والمقابر، ولرجال الدين الحق في وضع المناهج المدرسية والموافقة عليها، كما أنهم يقررون مَن مِن الأساتذة يُقبلون في المدارس والجامعات. وتصبح الدولة ألعوبة في يد الطوائف التي تهدد الحكومات بإثارة الناس عليها إذا لم تنصاع لإرادتها، أما الدولة العلمانية فهي تحيّد الدين وتجعله شأناً خاصاً، وتُعلي من شأن الدولة القومية والمواطن، فهدف الفصل بين الدين والدولة وحدة المجتمع، وجعل حياة المواطنين وقوانينهم واحدة كي يجسدوا مجتمعاً متجانساً منسجماً مع بعضه.
رابعاً، تعطي دولة الطوائف/الأديان الأولوية للدين والمذهب، وبالتالي هي تابع لأوامر خارجية بحسب انتماءاتها الدينية، فانحاز الموارنة تاريخياً لفرنسا، وانحاز السنة للسعودية، بينما تؤازر الدولة العلمانية مفهوم الاستقلال القومي والسيادة القومية، فرجل الدين الفرنسي ولو كان كاردينالا هو فرنسي قبل كل شيء وينصاع للقوانين الفرنسية لا لقوانين روما، ويحاكم بتهمة الخيانة إذا عصى على القانون الفرنسي. هذا الوضع ليس حاصلاً في سوراقيا حيث يتبع السكان قوانين وافتاءات رجال الدين يحرضونهم على القتل، ولا يلتزمون بقانون دولتهم.
خامساً، قوانين الأحوال الشخصية هي قوانين دينية تفرض على التابعين لها التقيد بها حيثما كانوا شرقاً أو غرباً، بينما القوانين الوضعية مختصة بكل دولة على حدا، وينتج عن ذلك أن كل طائفة أو ملة تتبع قرارات مرجعياتها الدينية المتواجدة خارج حدود كيانات الدولة المدنية، ما يشكل عائقاً أساسياً في توحيد المجتمع وصياغة دولة القانون.
سادساً، يختلف الوضع دراماتيكياً بين مجتمع علماني ومجتمع طوائف دينية فيما يختص بحرية الفكر والعلم والمعرفة، فلا حرية للفكر حيث تهيمن الدولة الدينية، ونصبح في وضع نجد فيه رجال دين شبه أميين، ولا اختصاص لديهم، يقررون الحقائق المعرفية فيصعد أحدهم على منبر المسجد ليؤكد أن الارض مسطحة، ويصدقه المؤمنون لأن عدم تصديقه يعني الكفر بدينهم!!
يقودنا ذلك إلى تقهقر العقل والمعرفة كما هو حاصل في العالم العربي حيث تراجعت المعرفة وحرية الفكر تراجعاً هائلاً عما كانت عليه منذ نصف قرن! لقد انهار المستوى الفكري العلمي المبتكر والمحلل والمستنبط لقواعد الكون بسبب تدخل رجال الدين في العلوم الوضعية، وهذا ما لم يحصل في الدولة الأموية وبداية الدولة العباسية حيث كان الدين مفصولاً فصلاً تاماً عن العلوم. لقد تبنت السلفية الوهابية تجربة الامبراطورية الكاثوليكية في القرون الوسطى والتي كانت تحتكر العلم وتضطهد العلماء، بينما حافظت إيران الاسلامية على التراث الحضاري القائم على فصل الدين عن العلوم الوضعية ما أدى الى تطورها السريع في التكنولوجيا، هذا التطور هو بالضبط ما تريد “اسرائيل” وأده لأنه يهدد وجودها العائم على بحر من التخلف. “اسرائيل” تستعمل الفالق المذهبي السني-الشيعي لتسعر النار ضد إيران لأنها تخاف من تقدمها العلمي والقومي، لا من توجهها الديني، والبرهان على ذلك أنها تتحالف مع أشد الدول في تطرفها الديني التكفيري ألا وهو السعودية الوهابية.
سابعاً، تراجع وضع المرأة نتيجة اضمحلال القوانين الوضعية التي تواكب التطور واستبدالها بالقوانين الدينية التي تعتمد على النظام البطريركي المذل للمرأة كما كان سائداً في المجتمعات التي تولدت فيها الأديان منذ قرون بعيدة. ما يحصل اليوم هو قمع للمرأة ومنعها من الحصول على حقوقها كمواطنة أسوة بالرجل، وتتحكم بها قوانين الأحوال الشخصية الدينية التي تعطي الأفضلية للرجل في الزواج والطلاق والإرث وحضانة الأطفال.
أما في السياسة، فالتمثيل النيابي لا يمثل الشعب، بل الطوائف في لبنان وكذلك في العراق بعد الاحتلال الاميركي عام 2003، ونرجو ألاَّ يتحول نظام سورية إلى طائف لبناني آخر بفعل شن الولايات المتحدة الاميركية الحرب عليها، فالترشح للانتخابات أساسه ديني لا وطني، والناخب يذهب إلى صناديق اقتراع مختلفة حسب انتماؤه الديني كما يظهر على هويته التي تسمى زوراً هوية وطنية، إذ أنها في الحقيقة هوية طائفية مبنية على قوانين الأحوال الشخصية الدينية. واخفاء الطائفة عن الهوية في لبنان ما بعد الحرب الاهلية لا يعني إلغاؤها إذ أن قانون الانتخاب والتقسيمات الإدارية لا تزال قائمة على الهوية الدينية.
الانتقال من الطائفي/الديني إلى العلماني في سوراقيا
لا تزال دول المشرق العربي تعيش في ظل نظام الملل الديني الذي وضعه العثمانيون منذ ما يناهز الستة قرون. جل ما حدث حين قسمنا البريطاني والفرنسي في سايكس-بيكو الى دويلات، هو تصغير الإطار الجغرافي لكن إبقاء الصراعات الطائفية من ضمنه لديمومة السيطرة الغربية.
ما هي الحلول الممكنة لتغيير الانظمة الطائفية؟
غالباً ما يقوم المثقفون ببث اليأس في قلوب الناس مؤكدين أن التغيير مستحيل. بالطبع التغيير مستحيل إذا رفضنا العمل باتجاه التغيير واكتفينا بالمقالات والديباجات. الهدف من إنشاء الأحزاب العلمانية هو تطبيق هذا الفكر وتحويله إلى عمل دؤوب وتضحيات في اتجاه التغيير، وإلاَّ ليس من سبب لإنشاء الأحزاب، فلقد أرسى انطون سعاده مثلاً في المادة الاولى من دستوره أن غاية الحزب هو بعث نهضة في سورية الطبيعية أو سوراقيا. فهل نستطيع بعث نهضة؟
يؤكد كثر بأن الولوج في الدولة العلمانية لن يحصل قبل قرن أو قرون، وها قد مضى قرن على سايكس-بيكو ولم نتقدم خطوة واحدة لا بل أصبحنا أشد طائفية وأكثر تخلفاً مما كنا. هذا يدل أن الزمن ليس كفيلاً بتغيير الظروف، وأننا إذا لم نبادر نحن إلى العمل باتجاه الدولة الديمقراطية التي تساوي بين جميع المواطنين بمعزل عن دينهم، فلن يتحول الوضع إلاَّ عكس ما نشتهي لأن غيرنا يعمل بالاتجاه المعاكس.
لقد توصلت السعودية إلى إنجاز كبير عبر عملها المتواصل لمدة ثلاثين عاماً، إذا لم يكن أكثر، في نشر التعاليم الوهابية المتطرفة والتكفيرية والرافضة للعلم والمنطق وللتطور الإنساني بشكل خاص في دول سوراقيا، لأن سوراقيا أصبحت لقمة سائغة بعد تقسيمها إلى دويلات سايكس-بيكو. داعش والنصرة ليسا إلاّ نقطة النهاية في سلسلة طويلة من العمل اليومي لاحتواء المجتمع السوراقي وتدجينه وإلحاقه بالمشيئة السعودية عبر التبشير الديني. أذكر هنا كيف انتشر الدعاة بالآلاف في لبنان، وفي سورية، وفي العراق والأردن وفلسطين، في ثمانينات القرن الماضي، يزورون البيوت ليليا، ويبشرون في المساجد والمدارس بالدين الوهابي، فهل فعل القوميون العلمانيون الأمر ذاته؟
ماذا كانت النتيجة؟ تحولت كل كيانات سوراقيا من السير في مفاهيم القومية والوطنية والعلمانية والتطور الحضاري، والبناء على أسس علمية، إلى نبذ العلم والمنطق بكل أشكاله، فأول ما استهدفته الوهابية هو إلغاء التربية الوطنية من المدارس واستبدالها بالدين (الوهابي). لقد استولى الوهابيون على عقول الأطفال والمراهقين في سورية والعراق ولبنان والأردن وفلسطين وجندوهم لأيديولوجيتهم عبر التدريس الديني في المدارس والجامعات وليس فقط المساجد.
يتفاجأ كثيرون ومنهم من كان وزيراً في رئاسة سليم الحص للوزارة عام 1998 حين أخبرهم أنه هو الذي ألغى مادة التربية الوطنية من المدارس الرسمية واستبدلها بالتربية الدينية! لم يستطع الحريري أن يفعل ذلك، لكنه تم على أيدي من يُعتبر وطنياً قومياً عربياً، وكان آنذاك وزير التربية محمد يوسف بيضون الذي يُنظر إليه أيضاً على أساس أنه معتدل ووطني. فكيف يحصل ذلك منذ 17 عاماً ولم يتحرك وطني علماني واحد للاستنكار، ولم تتحرك أي من الأحزاب الوطنية العلمانية لهذه الكارثة المحققة والتي ستخرٍج في بضع سنوات السلفيين الارهابيين الذين يدمروننا اليوم؟
الأمر نفسه حصل في العراق وسورية والأردن وحتى فلسطين، ففيها جميعها أُلغيت التربية الوطنية لصالح الدين، وطالب الاخوان المسلمون بحقيبة واحدة في سورية، ألا وهي وزارة التربية والتعليم العالي. فهل نتعجب اليوم لما نراه من أعمال لداعش والنصرة وغيرها، ولمئات الالوف من السوراقيين الذين تحولوا الى متطرفين دينيين همهم إقامة الدولة الاسلامية على الطريقة الوهابية؟
لا حل أمامنا إذا لم نربِّ جيلاً جديداً على القيم الوطنية، فهنا يكمن التغيير الحقيقي، وللدلالة على ذلك سأعطي أمثلة من لبنان وسوريا. ففي خمسينات القرن الماضي أُنشئت مدارس قومية في لبنان وسورية، خرًجت جيلاً قومياً/وطنياً من جميع الطوائف دون استثناء. وما إن توقف عمل هذه المدارس حتى تلاشى هذا الوجود وتحول الجيل الجديد إلى تعصب طائفي جراء المدارس الدينية المسيحية والاسلامية.
لقد تنبهت الولايات المتحدة الاميركية لهذا الموضوع الاساسي لوجودها فمنعت المدارس الخاصة في البدء، ثم سمحت لبعضها بالتواجد بسبب وجود جاليات أجنبية، وهي قليلة جداً بالنسبة لعدد السكان الذي يتجاوز الثلاثمائة مليون نسمة. ركزت أميركا كل تعليمها الابتدائي الرسمي على ترسيخ فكرة الولاء لأميركا، ومثلت هذه الاخيرة المهمة الأولى والأساسية للتعليم في المدارس الرسمية.
إن عدم فصل الدين عن الدولة أدى الى كارثتين: الاولى، تصدع المجتمعات العربية إلى مذاهب وملل وأديان تتصارع وتتحارب، والكارثة الثانية تجلت في السماح لرجال الدين بالسيطرة على التعليم، أي التحكم بمآل عقول الناشئة والجيل الجديد من الشباب. فتحكم رجال الدين بالتعليم في المدارس أدى إلى إرساء التطرف الديني في الجامعات أيضاً، فهذه الاخيرة ليست إلاَّ التكملة المنطقية لتعليم المدارس، حيث تمً اللجوء إلى التفسير الديني بدلاً من التنقيب العلمي، فنرى مثلاً أنَّ الأساتذة في العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية أصبحوا يبشرون في صفوفهم بالإيديولوجية الدينية فيُلقن الطالب “ان الاتحاد السوفياتي سقط لأنه شرًع الكحول والرقص والمسرح والموسيقى”، و”أن الاقتصاد الاوروبي فاشل لأنه غير ملتزم بالاقتصاد الاسلامي”، وتُمنع دراسة النظريات السياسية اليسارية على أنها تدعو إلى الالحاد، وتُحجب النظريات القومية لأنها تتعارض والدين الاسلامي الشمولي. (راجع ماهر الخشن، “في الجامعة اللبنانية إن سُئلت عن ماركس تحدث عن أفلاطون”، جريدة الأخبار في 16 آب 2016).
هذا الوضع يؤدي إلى استلاب العلم والمعرفة واستبدالهما بتعصب ديني قاتل خاصة أن ذلك لا يتطلب علماً أو جهداً بل على العكس من ذلك، تعتبر ايديولوجية داعش والنصرة أن لا لزوم للعلم وللدرس والتمحيص، فالأجوبة حاضرة جميعها في الدين ، ويصبح رجال الدين هم أولياء المجتمع، وهذا ما يحصل اليوم، فهم الذين يقررون عنا أي كتاب نقرأ، وأي فيلم يُعرض أو لا يُعرض، وأي لباس بحري نرتدي: البو ركيني أو غيره، وأي طعام نأكل (حرام أو حلال)، وإن لم نفعل فتهديد بالتكفير والقتل.
ترسيخ مفهوم الدولة القومية العلمانية ممكن على الصعيد التربوي إذا ما انصبت جهودنا في هذا المضمار لمواجهة التعليم الديني السلفي، كما هو ممكن على الصعيد السياسي عبر التشديد بأن طرح فصل الدين عن الدولة يوحد المجتمع، بينما لا تؤدي المطالبة بالدولة الدينية إلاَّ إلى حروب لا نهاية لها، لأن بلادنا هي نتاج أديان ومذاهب مختلفة ومتنوعة. لا تستطيع دول العالم العربي أن تتوحد داخلياً إلاَّ إذا فصلت بين الدين والدولة، ومن أجل ذلك عليها أن تقف بوجه الخطط الاستعمارية الغربية التي تريد القضاء على الدولة القومية/الوطنية، لأن هذه الاخيرة تؤمٍن الاستقلال السياسي والاقتصادي والاجتماعي لشعبها بمعزل عن أهواء الدول الخارجية.
مع بدء الألفية الثالثة، هدفت مخططات الولايات المتحدة الاميركية بالنسبة إلى دعم الدولة الدينية: إما اخوانية أو سلفية، فالإخوانية مرجعيتها تركيا الحليف الموثوق في حلف شمال الاطلسي، والسلفية مرجعها السعودية، وآل سعود عائلة لا تحيد عن السياسة الأميركية قيد أنملة، إذ أن وجودها منوط بالإرادة الاميركية، وفي كلا الحالتين تمنع الولايات المتحدة الأميركية أي تقارب أو تنسيق بين كيانات المشرق العربي، لأن تفاهمها وتعاونها يعني القضاء المبرم على “اسرائيل” التي هي رأس الحربة الاميركية في المنطقة، والطريقة الوحيدة لمنع كيانات سوراقيا من التعاون هو إدخالها في حروب طائفية دينية مذهبية واثنية.
الصراع بين المبدأ القومي العلماني من جهة، ومبدأ الدولة الدينية من جهة أخرى لن يختص بدول سوراقيا فقط، بل ستعمد الولايات المتحدة الأميركية إلى تطبيقه في دول آسيا التي ستهدد هيمنتها، وخاصة في الصين وروسيا حيث تتواجد أعداد كبيرة من السنة عبأتها المملكة السعودية، وحولتها إلى المذهب الوهابي التكفيري الحاضر لإلغاء الآخر بقوة السلاح.
تدور الحرب إذاً بين اتجاهين ومقولتين: المقولة الاميركية التي تريد إلغاء الدول الوطنية/القومية التي تقف عائقاً أمام الامبراطورية الاميركية، ومن أجل ذلك تدعم التيارات الدينية السنية المتطرفة، والاتجاه المعاكس الذي يدافع عن مبدأ استقلال الأمم وحقها في الوجود، وفي تحقيق مصالح شعبها، والمكون من الدولة السورية وإيران وروسيا وحزب الله، والمقاومة الشعبية في العراق وسورية ولبنان وفلسطين.
نخلص للقول إن لا علمنة إلاَّ بوحدة المشرق العربي، لأن الذي يعطل الوحدة داخلياً وخارجياً هو النظام الطائفي/الديني، والعكس صحيح أيضاً: سوراقيا لا تستطيع أن تكون موجودة فعلياً إلاَّ إذا كانت علمانية.