من بين كل الرسائل المعروفة لسعاده، والتي صدرت قبل أسابيع في سبعة مجلدات، يقف القارئ المتتبع أمام رسالة بعينها تاريخها 13 تموز سنة 1938، موجهة إلى نصوح الخطيب (الاسم السرّي لفخري معلوف رئيس المجلس الأعلى آنذاك). كان الزعيم قد وصل إلى قبرص مبحراً من فلسطين، بعدما تمكن من إحباط مؤامرة المستعمرين الفرنسيين للقضاء عليه وعلى الحزب. يُضاف إلى ذلك أنه شعر بالخطر الجدّي أثناء وجوده في منطقة الانتداب البريطاني، فغادر شرقي الأردن إلى فلسطين ومنها إلى قبرص في طريقه إلى أوروبا ثم القارة الأميركية.
كانت قبرص محطة للراحة المؤقتة تمهيداً لترتيب مستلزمات الرحلة الأساسية. ولذلك أتيح لسعاده أن يعيد التفكير في سلسلة من الحوادث الغامضة التي وقعت له في الوطن، وكشفت أمامه مخططات السلطات الاستعمارية. وشيئاً فشيئاً أخذت تتوضح أبعاد المؤامرة الفرنسية المتواطئة مع بعض العناصر الحزبية التي تمكنت من الوصول إلى مراكز حساسة في تراتبية القيادة العليا، خصوصاً الأمنية والعسكرية منها. وعلى مدى عدة رسائل متلاحقة، موجهة إلى فخري معلوف رئيس المجلس الأعلى وإلى وليم سابا رئيس الدائرة التنفيذية في “المكتب الأعلى المختص” (جهاز مخابرات الحزب) يُحدد سعاده أسماء الخونة داعياً إلى الحيطة والحذر، والضرب بيد من حديد!
يكتب سعاده في رسالة إلى معلوف بتاريخ 9 تموز 1938 قائلاً: ” … ويترجح عندي الآن أننا تجاه عصابة جاسوسية خطرة مؤلفة من جورج حداد – صبحي فؤاد الرئيس ـ محمد الباشا المناصفي ـ يوسف شقير ـ جان جلخ ـ وغيرهم.
التدبير: إن هذه العصابة قد أصبحت خطراً عظيماً على حياة رجال النهضة القومية وعلى حركة الحزب السوري القومي، ولذلك يجب معالجتها بدقة وسرعة على الوجه التالي:
“يُعقد المجلس الأعلى وتُتلى عليه هذه الرسالة ويسمع الملاحظات عن وصول خبر عزمي على اجتياز الحدود عن طريق جبل الدروز إلى الدوائر الحكومية وأعداء الحزب، وهو لا يمكن أن يتسرّب إلا عن طريق محمد الباشا المناصفي للأسباب التي ذكرتها في رسالة قديمة. ويتداول المجلس الأعلى في الأمر ويوصي بتنبيه أركان الحزب القائمين على التدريب والأعمال الهامة إلى خيانة الباشا المناصفي (بتكتّم شديد وكتمان)…”.
وبعد ثلاثة أيام يوجه سعاده رسالة إلى وليم سابا داعياً إلى: “الاهتمام بإنشاء فرقة فدائية، أو عدة فرق، يكون لها إدارة مركزية معروفة من المجلس الأعلى وأعضاء “العدد المجهول”، ولا تعرف الواحدة منها بوجود الأخرى. وكذلك يجب تنظيم لوائح صفراء للخونة وزرقاء للأعداء الألداء”. ويقترح لعضوية الفرقة الفدائية وليم سابا، وفكتور أسعد لترؤسها. ثم يقول في مكان آخر: “سأرسل تعليماتي إلى الدوائر التنفيذية في صدد المناصفي”.
وتأتي الرسالة “الغريبة المثيرة للتساؤلات” بعد تلك المراسلات المكثفة، وتاريخها 13 تموز 1938، وهذا نصها (التشديد على بعض العبارات مني أنا):
عزيزي نصّوح،
بعد إرسال كتابي إليك بالبريد الجوّي الأخير كثر تفكيري حول الصراع بين الصلاح والشر، وقد حلمت أمس حلماً غريباً رأيت أن أروي لك قصته. فقد رأيت في منامي أن جماعة رأت الفساد يعمّ البلاد فاجتمعت على محاربته وجعل الصلاح سائداً.
وأنشأت هذه الجماعة حزباً. أما الفساد فكان له شركات تعمل لتأييد دولته، وابتدأت هاتان القوتان تتصارعان. فما إن أحست شركات الشر بنشوء حزب الصلاح حتى أخذت المؤامرات السرية تدبّر ﻹهلاك هذا الحزب. واتفق أن انخرط في سلك جماعة الصلاح رجل من أهل السوء باشا في الخديعة والنميمة. فبعد الاحتكاكات الأولى بين جماعة الخير وجماعة الشر، تحرّكت في رجل السوء عوامل الانحطاط الأصلي فباع نفسه لشركات الفساد وظلّ يتظاهر بالصلاح ليكيد لجماعته سراً. ولما كانت جماعة الصلاح تعدّه واحداً منها ولم يكن أظهر في السابق شيئاً من طويته السيئة لم تشك به وسلّمت إليه شيئاً كثيراً من أسرارها. ولكن أعمال هذه الجماعة أخذت تسوء في المدّة الأخيرة وأصبحت في مأزق حرج. فخططها التي كان يتحتّم نجاحها كانت تصاب بالشلل، فتعود الجماعة إلى فحص الخطط ودرسها فتجدها محكمة غير قابلة الفشل، ولكن لا يصبح الصباح حتى تفاجأ بحركة جديدة من جانب شركات الفساد تعطّل هذه الخطط. وقد سبّب هذا الأمر نكبات عظيمة وقاست جماعة الصلاح الأهوال. وأخيراً تنبّه واحد من جماعة الصلاح إلى هذا السيئ المندس بينهم واكتشف سوء طويته وبعض أعماله الأثيمة. فحالاً اجتمع ثلاثة رجال من أهل الصلاح وتداولوا في الأمر. فقال واحد: يُؤنّب السيئ ويُقصى. وقال الثاني: بل يُقتل غيلة ونمشي في جنازته، إذ يكون قد سقط في سبيل الواجب. وقال الثالث: بل يُرسل إليه واحد يراه في الطريق وحده فيدعوه لمقابلة أحد المسؤولين في الحال ولا يترك له مجالاً للاتصال بأحد، وعند مجيئه يُقبض عليه ويُنقل سراً في الليل إلى مكان معيّن، ويكون فاقد الوعي فيصحو ليجد هيئة محكمة مهيبة جالسة لتحاكمه، فتوجه إليه تهمة خيانة الجماعة وإيقاعها في يد شركات الفساد وإعطائها جميع معلومات الحركة، فإذا أنكر يحرج مركزه بالسؤالات ثم يعذّب حتى يعترف بكل شيء وحينئذ تحكم عليه المحكمة بإلاعدام فيقتل رمياً بالمسدس وتخفى جثته في مكان لا يمكن الاهتداء إليه.
وكان وجه أحد الثلاثة يشبه وجه القائم في الساحل الشمالي، ووجه الثاني كوجه رئيس الدائرة التنفيذية في المكتب المختص، ووجه الثالث وديعاً. وفيما الثلاثة لا يزالون يقلبون المسألة، والقائلان بالعقاب الأقصى يشدّدان بوجوب قطع دابر الشر من جماعة الصلاح على الخصوص، وأن اﻹجراءات الضعيفة الناقصة لا تفيد شيئاً، استفقت من حلمي، وقد فكّرت كثيراً في هذه الرؤيا الغريبة وما هي علاقتها بالحوادث الجارية. فما رأيك وما رأي الثلاثة في هذه المسألة أو هذا اللغز؟ ولماذا يجب أن أرى هذا الحلم الآن؟ وأنا أعتقد أن المسألة تافهة فولّع سيجارة بهذه الورقة!
معظم الرفقاء الذين ناقشت معهم هذه الرسالة يعتبرون أن سعاده كان يمازح “صديقه الوثيق” فخري معلوف (نصوح الخطيب)، ومن الخطأ تحميلها مضامين أكثر من ذلك. لكني، وعلى مسؤوليتي الشخصية، أنظر إلى “الحلم” بصفته خطة أو اقتراح خطة لمعاقبة الخائن الذي يحمّله سعاده مسؤولية تعريض الحزب لخطر وجودي. بل أن رفيقاً عزيزاً عبّر لي بعد اطلاعه على المسوّدة الأولى لمقالي هذا عن اعتقاده بأن ما كتبه سعاده كان بمثابة أمر للتنفيذ… لكن لم ينفذ! وسأعرض للخطوات المطروحة في رسالة الزعيم بالتسلسل:
1 – هناك حزب الصلاح وهناك شركات الفساد، والصراع محتدم بينهما.
2 – الخائن “رجل من أهل السوء باشا في الخديعة والنميمة”، المقصود طبعاً محمد الباشا المناصفي.
3 – حصل هذا المُندّس على أسرار حزب الصلاح ما أدى إلى إلحاق نكبات عظيمة بالحزب.
4 – يوجد ثلاثة أشخاص يمكن إعتبارهم “هيئة محكمة مهيبة” تتولى التحقيق، واتخاذ القرار وتنفيذ العقوبة.
5 – الرجال هم: “أحد الثلاثة يشبه وجه القائم في الساحل الشمالي (فكتور أسعد)، ووجه الثاني كوجه رئيس الدائرة التنفيذية في المكتب المختص (وليم سابا)، ووجه الثالث وديعاً” (وديع إلياس مجاعص)!
6 – لكل واحد من هؤلاء الثلاثة رأي:
أ ـ يحاسب الخائن ويُطرد.
ب ـ يُقتل غيلة ويمشي الحزب في جنازته.
ج ـ يُخطف ويُحاكم سرياً ويُعدم بالرصاص كما الخونة.
نحن إذاً أمام خطة متكاملة لمحاسبة الخائن وإيقاع العقوبة القصوى به، ولذلك يكتب سعاده إلى نصوح: “فما رأيك وما رأي الثلاثة في هذه المسألة أو هذا اللغز؟” ولا شك في أنه تعمّد طرح هذه الفكرة على شكل “حلم غريب”، ليس لتسلية رئيس المجلس الأعلى أو غيره من المسؤولين وإنما لجس نبض القيادة الحزبية في بيروت. ولذلك نراه يختم “حلمه” بعبارة ذات وجهين لمزيد من التقية: فيصف المسألة بأنها تافهة، ويدعو نصوح إلى “ولع سيجارة بهذه الورقة”!
ومن الملفت للنظر أن تناول سعاده لهذا الموضوع، في رسائله خلال تلك الفترة، تراجع بصورة كبيرة بعد رسالة “الحلم الغريب”. وعلى حد علمنا، ليس في تراث سعاده الذي وصلنا أية كتابات هدفها الترفيه عن القارئ أو تسليته، فالزعيم لم يكن يقصد في الحياة لعباً.
لندن – 26 أيار 2024