في مرحلة ما بين الحربين العالميتين، وبالرغم من تحرّر بلاد المشرق من النير العثماني، أدّى فقدان السيادة القومية لهذه البلاد إلى سقوطها مجدّداً تحت الهيمنة الغربية (الفرنسية – البريطانية) بعد تجزئتها طبقاً لتفاهمات «سايكس – بيكو» (1916) التي أبرمت، سرّاً، بين القوى المتحاربة التي انتصرت مصالحها في الحرب الكبرى (1914-1918).
وإحياءً لمطامح قديمة لدول الجوار السوري، لا سيّما تركيا في الشمال الغربي والسعودية في الجنوب الشرقي، استولى الأتراك تدريجياً وبتزكية من الفرنسي، على مناطق واسعة وغنية من الأراضي السورية الشمالية تُقدّر بحوالي 250.000 ألف كلم2 ويعيش فيها قرابة الـ25 مليون سوري. وقد بارك الفرنسيون المنتدبون على سورية هذه الغنيمة الثمينة التي فاز بها الأتراك مع أنهم خسروا، كدولة منتدبة، جزءاً لا يُستهان به من «حصّتهم» في بلاد المشرق التي كانوا قد تقاسموها مع الإنكليز.
الأمر نفسه حدث للمنطقة نفسها مع السعوديين في ما كان يُعرف يومها بـ«مملكة نجد والحجاز» التي أنشأها عبد العزيز آل السعود بعد أن انتزعها، بالمكر والغدر من حكامها السابقين: آل الرشيد في نجد والهاشميين في الحجاز، والذي حوّلها، لاحقاً، إلى مملكة تحمل اسم عائلته (السعودية).
لقد استولى ابن السعود (عبد العزيز) وأنصاره من أتباع المذهب الوهابي على ثلثي بادية الشام في مطالع الثلاثينيات من القرن الماضي، في وقت كانت فيه سورية تغطّ في سبات عميق، فاقدة لأبسط مقومات الاستقلال الحقيقي والسيادة الفعلية مفتقرة إلى سلطة حقيقية، منبثقة من الشعب، تدافع عن حقوقها ومصالحها القومية. وصلت قوات ابن سعود إلى العقبة والأردن وبادية الشام وهدّدت المنطقة الجنوبية الشرقية من العراق (الكويت، النجف وكربلاء). ولولا الضغط البريطاني لتأمين صنيعته الفتية إمارة شرق الأردن من جهة، ومساندة الحكم الهاشمي التابع للإنكليز في العراق من جهة ثانية، لكانت المنطقة بأسرها، اليوم، تابعة للمملكة التي يتحكم آل السعود بمصيرها.
ولكن، على الرغم من التدخل البريطاني لحماية حلفائه الهاشميين في عمان وبغداد، تمسكت السعودية بأغلب المناطق التي سيطرت عليها، لا سيّما في الغرب والشمال الغربي في بادية الشام، وخليج العقبة، والشاطئ الشرقي للبحر الأحمر، والشاطئ الغربي للخليج العربي. ومن أهم المناطق السورية التي استولت عليها المملكة العربية الناشئة حديثاً في الثلاثينيات من القرن الماضي، نذكر بعضها مبتدئين من الغرب إلى الشرق:
(1) ساحل خليج العقبة (الشرقي) حيث يبلغ طوله الإجمالي من وادي عربة شمالاً إلى مضيق تيران وجزيرة صنافير، عند بوابة البحر الأحمر، جنوباً حوالى 160 كلم والتي تسيطر السعودية على ثلاثة أرباعه، أي على حوالى 120 كلم. ويتبع هذا الساحل، بحسب التقسيمات الإدارية السعودية، إلى منطقة تبوك التي تربط بين العقبة والبحر الأحمر ومنطقة الجوف السورية المحتلة، أيضاً، كما سنرى لاحقاً. واستمرّ النزاع بين الأردن والسعودية على هذه المناطق، لا سيّما العقبة، إلى الستينيات من القرن الماضي، وقد حُلّ، طبعاً، على حساب المصالح القومية في الأردن.
أما المدن والقرى التابعة جغرافياً للعقبة والملحقة عنوة بالسعودية فأهمها: حقل، وهي أكبر المدن على الخليج بعد العقبة وتبعد عن مدينة تبوك السورية المحتلة مسافة 200 كلم إلى الشمال. رأس الشيخ حميد، وهو رأس داخلي ممتد في داخل البحر الأحمر وعنده يبدأ خليج العقبة. مقنا وهي ميناء بحري على العقبة. البدع وهي مدينة داخلية تقع إلى الشرق من ساحل العقبة وتبعد عنه مسافة 30 كلم وقرابة الـ45 كلم عن البحر الأحمر، وجزيرتا تيران وصنافير الرابضتين عند نقطة التقاء خليج العقبة بالبحر الأحمر والتي احتلتهما «إسرائيل» في حرب 1967، ووضعا تحت السيادة المصرية في العام 1982 بموجب اتفاقية كامب ديفيد، ثم منحتهما مصر للسعودية بموجب اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين في 8 نيسان 2016.
(2) منطقة تبوك وتضم إلى مدينة تبوك عدة مدناً أخرى أهمها قيال وشرماء على البحر الأحمر، وتقع تبوك في القسم الجنوبي الشرقي لبلاد الشام وهي جزء منها، وكانت تتبع، قبل سلخها، لواء الكرك في شرقي الأردن الذي يضمّ بالإضافة إليها كل من الطفيلة ومعان والشوبك والعقبة، وقد تمثّلت تبوك بممثلين اثنين في «المؤتمر السوري العام» الذي انعقد في دمشق، على مدى عام كامل من حزيران 1919 إلى تموز 1920، الأمر الذي يُثبت هويّتها السورية بوصفها إحدى مناطق شرق الأردن (موفق محادين، مجلة اتجاه، العدد 22 ،2011). تبلغ مساحتها 108.000 كلم2، نصفها سورية، ويُقدّر عدد سكانها بحوالي مليون نسمة، وتشكل، بموقعها، بوابة بلاد الشام إلى الجزيرة العربية، من جهة الجنوب الشرقي. أما عن تسميتها فيُقال إن أصلها هو كلمة (Tabou) اللاتينية والتي تعني المكان المنعزل نظراً لأن تبوك، بموقعها، منعزلة في بادية الشام. أما تاريخها فيعود إلى ما قبل الميلاد وكانت ممراً للقوافل التجارية العابرة من الجزيرة العربية إلى الشام ومصر، وهي منطقة غنية بالآثار التاريخية الكنعانية والرومانية والإسلامية، وتبعت في العصور الأولى للمسيحية لما عُرف بـ«المقاطعة العربية» التي أنشأها الرومان أثناء احتلالهم لسورية وجعلوا بُصرى مركزاً إدارياً لها، وقد ضمّت المقاطعة بادية الشام كلها حيث كانت مسرحاً لارتحالات البدو بين الجزيرة العربية وسورية. وأهم مدنها بالإضافة إلى العاصمة تبوك: أملج، حقل، الوجه، البدع وشرماء.
(3) منطقة الجوف وعاصمتها سكاكا وأهم مدنها: دومة الجندل، وطبرجل، ويخترقها من الغرب إلى الشرق وادي السرحان. والجوف التي تبلغ مساحتها 139.000 كلم2 وسكانها 360.000 ألف نسمة هي، بكاملها، منطقة سورية، وهي موغلة في القدم وغنية بالنقوش النبطية والإغريقية والإسلامية. وقد أعطاها موقعها الجغرافي مكانة مهمة منذ العصور القديمة، فهي أحد طرق التجارة بين الجزيرة العربية وبلاد الشام، كما أنها طريق الحج البري إلى الأماكن المقدّسة في الحجاز، وفيها منفذ الحديثة البري وهو أكبر منفذ حدودي في الشرق الأوسط. ويحدّ الجوف من الشرق صحراء النفوذ حيث يتوقف عندها وادي سرحان. وتتميّز منطقة الجوف بعناصر جذب سياحي منها: توفر العديد من الآثار القديمة، ووجود بحيرة دومة الجندل التي تُعدّ من أهم عناصر هذا الجذب، وتعتبر الجوف أكبر منتج لزيت الزيتون في السعودية حيث يزرع فيها بكثرة شجر الزيتون.
ــ دومة الجندل هي إحدى مدن الجوف الرئيسية ظهرت إلى النور في العهد الآشوري وتشير إليها المصادر الآشورية بـ «أدوماتو». ورد ذكرها في كثير من الكتب التاريخية وفي أشعار كبار الشعراء، وتميزت كعقدة مواصلات بين الشام والعراق والجزيرة العربية. وتعاقب على حكمها الأنباط، والتدمريون في عهد الملكة زنوبيا، وكذلك الشاعر امرؤ القيس الذي اتخذها قاعدة لنفوذه الذي امتدّ شمالاً حتى الأردن.
ــ وادي السرحان هو أطول وادٍ في بادية الشام، يبدأ غرباً من الأزرق في جنوب شرق الأردن (وبعضهم يقول من حوران) وينتهي على تخوم منطقة الجوف شرقاً حيث تبدأ صحراء النفوذ الكبرى التي تشكل الحدّ الفاصل جغرافياً بين بلاد الشام والجزيرة العربية، ويزيد طوله عن 500 كلم وعرضه، في بعض المناطق، يصل إلى 50 كلم وتبلغ مساحته حدود الـ 25000 كلم2. يتألف من أودية عديدة، وفيه مستقرات للمياه على هيئة سبخات من أكبرها سبخة حضوضاء التي تقرب من بلدة العيساوية وسبخة دومة الجندل. تقول فيه الرحالة الإنكليزية الليدي آن بلانست في كتابها «رحلة إلى نجد»: «أن وادي السرحان منخفض فوضوي غريب، ومن المحتمل أنه كان قاعاً لبحر قديم، وربما كان قاعاً لواد عظيم إبان العصر المطير على هذه المنطقة قبل عشرة آلاف سنة». وفي عصور مبكرة من التاريخ، كان وادي السرحان والصحارى العربية المحيطة به من الشرق والجنوب مسرحاً للحملات الآشورية والبابلية الموجّهة ضدّ الأعراب الذين كانوا يغيرون على أطراف بادية الشام والعراق بغرض السلب والنهب. وعندما غزا الفرنسيون بلاد الشام في أعقاب معركة ميسلون عام 1920، وجد عدد من الثوار السوريين ممن واجهوا الفرنسيين، ومنهم سلطان باشا الأطرش، ملاذاً لهم في وادي السرحان واستمرّت إقامتهم في الوادي الحصين قرابة عشر سنوات. ويربط وادي السرحان بين حواضر منطقة الجوف التي هي: مدينة سكاكا، ودومة الجندل، والقريات، وطبرجل، وصنوبر، وما يحيط بهذه الحواضر من تجمعات سكانية. ويُعتبر الوادي منطقة زراعية لخصوبة أرضه ووفرة مياهه الجوفية. وقد ورد ذكره في عدد من المصادر، خصوصاً في كتاب «عشائر الشام» (أحمد وصفي زكريا، دار الفكر، ط2، 1983) وكتاب «عشائر العراق» (عباس العزاوي، الدار العربية للموسوعات، 4 مجلدات، ط 2005، 1643 ص).
(4) منطقة عرعر ويُسمّيها النظام السعودي بـ«منطقة الحدود الشمالية» وتضم إلى العاصمة عرعر منطقتين إداريتين هما: طريف، ورفحاء. سمُّيت المدينة بهذا الاسم نسبة إلى وادي عرعر الذي تقع فيه، ويُقال أيضاً لكثرة شجر العرعر فيها قديماً. تقع عند المتطرف الشمالي لبادية الشام وتفصلها مسافة 65 كلم عن العراق وتُعدّ بوابة مرور كبيرة إلى العراق والشام وتركيا فأوروبا من جهة الجزيرة العربية، واكتسبت أهميتها من خط أنابيب الزيت (التابلاين) الذي يمرّ فيها والذي أنشئ عام 1950 حيث تحوّلت إلى محطة سكن للعمال القادمين من منطقة نجد وبعض الدول المجاورة. تبلغ مساحة هذه المنطقة 127.000 كلم2 وهي، في معظمها، أراض سورية، أما سكانها فيبلغون 300.000 ألف نسمة. ومن مدنها المعروفة، بالإضافة إلى مدينة عرعر: طريف التي أنشأتها شركة الزيت المعروفة باسم «آرامكو»، رفحاء، وجديدة عرعر منفذ الحدود بين الجزيرة العربية والعراق.
ــ طريف تقع بالقرب من حدود السعودية مع الأردن، وتتميّز بموقعها على الطريق الدولي الرابط بين دول الخليج العربي وبلاد الشام. وقد أنشئت لغرض محدّد: ترسيم حدود السعودية مع الأردن والمحافظة عليها. وتمّ لهذا الغرض توطين البدو فيها بالرغم من عدم توفر المياه، وقد لعب خطّ نقل البترول (التابلاين) في مطالع الستينيات من القرن الماضي دوراً مهماً في عملية التوطين هذه.
ــ رفحاء هي ثاني أكبر مدينة بعد عرعر في شمال شرق بادية الشام، وتقع على طريق الحج القديم الذي كان يُعرف بـ«طريق زبيدة» زوجة الخليفة العباسي هارون الرشيد والذي كان يربط بغداد بمكة، كما تقع، حالياً، على الطريق الدولي الرابط بين دول بلاد الشام ودول الخليج وأوروبا، وقد أنشئت بعد إنشاء شركة التابلاين عام 1951 واكتسبت أهميتها من مرور أنابيب النفط فيها، ومن المنفذ البري الحيوي الذي شكلته.
(5) منطقة الخفجى، وتقع على الخليج العربي، جنوب شرق الكويت، وتتبع إدارياً ما يُسمّى بـ«المنطقة الشرقية» في السعودية. سكانها تجمع من جنسيات مختلفة دفعتهم الحاجة إلى العمل فيها، بعد اكتشاف النفط عام 1958. أما الأصل اللغوي لهذه الكلمة فربما جاء من المكان المنخفض، وربما سُميت الخفجى لملوحة مائها، فالخفيج هو الماء المالح في اللغة، وربما وردت التسمية من الخفج وهو نبات لونه أشهب وله ورق عريض وينبت في الربيع، ولعله أرجح الأقوال.
(6) بادية الشام أو الصحراء السورية، كما أطلق عليها الرحّالة الأجانب، تمييزاً لها عن الصحراء العربية التي هي إلى الجنوب الشرقي منها، هي وصحراء النفوذ العربية «صحراءان» متداخلتان الواحدة بالأخرى إلى حدّ اعتبر فيه بعضهم أن هذا التداخل بينهما يُبشر بإمكانية قيام امبراطورية عربية كبرى تضمّ سورية والجزيرة العربية معاً.
كثر التنازع بين السلوقيين، حكام سورية، والبطالسة، حكام مصر، عام 268 ق. م. على هذه المنطقة التي تحتضن، في جغرافيتها، معظم المناطق والأودية والمدن والأرياف التي سبق ذكرها والتي تتبع، حالياً السعودية، وتشكل نقطة الالتقاء، من جهة الشرق، بين الهلال الخصيب وشبه الجزيرة العربية. تقع جنوب شرق الشام وتضم إلى هذه المنطقة كلاً من شرق الأردن وغرب العراق حتى نهر الفرات الذي يشكل حدودها الشرقية، ويؤلف وادي السرحان، بكامل رقعته الجغرافية، بما فيها الجزء المحتل من قبل السعودية، جزءاً لا يتجزأ من بادية الشام التي تغطي مساحة 550.000 كلم2 من جغرافية بلاد الشام المنقوصة المساحة، حالياً، بسبب استيلاء آل السعود على ما مجموعه 250.000 ألف كلم2 من جغرافيتها الطبيعية الكاملة، وهذه المساحة المنقوصة هي عبارة عن مساحة تقترب من مساحة ثلاث مناطق إدارية في السعودية هي، كما سبقت الإشارة: نصف منطقة تبوك، كامل منطقة الجوف بما فيها كامل وادي السرحان، معظم منطقة عرعر، بالإضافة إلى منطقة الخفجى وجزء من منطقة حفر الباطن التي تحدّ الأراضي العراقية. ويجتاز البادية السورية، من جهتها الشرقية، خط أنابيب شركة أرامكو الذي كان يوصل النفط من رأس تنورة، على الخليج العربي، إلى الساحل الشرقي للبحر المتوسط.
حصون على تخوم المناطق الحضرية
يتبين لنا من استعراضنا لمحطات العبور (الترانزيت) التي أقامها ابن السعود بين مملكته وبلاد الشام والدساكر التي زرعها على امتداد خطوط أنابيب النفط التي مدّتها الشركات الأجنبية المستثمرة بغرض الحماية والصيانة وإيواء العمال والموظفين (؟) أن هذه المواقع التي ارتبط وجودها، تاريخياً، بالنفط هي، فعلياً، مراكز أمامية متقدّمة داخل بادية الشام، وتعني، من الناحية الاستراتيجية، أنها أصبحت جزءاً من المجال العربي (السعودي) الجغرافي الحيوي بعد أن خسرته سورية بسبب طلاقة تخومها من جهة الصحراء العربية من جهة، وتهاونها في الزود عنها من جهة ثانية. فبعض الأمم، كبولونيا واليونان وهولندا وبلجيكا وإلى درجة أقل سورية – يقول الخبراء- جنت عليها قلة حدودها أو رخاوتها وطلاقتها كثيراً، فالصحراء، بالنسبة للبيئة الحضرية، حدّ يقف عنده عمرانها وتمدنها وثقافتها. ولكن الصحراء لم تكن (في مثل سورية) حدّاً للقبائل المتاخمة لحدودها، المتحينة الفرص للانقضاض عليها، كالقبائل العربية التي قادها شريف مكة إلى سورية في ما عُرف بـ«الثورة العربية الكبرى» في الحرب العالمية الأولى ثم قادها، بعد خسارة ملكه في الحجاز، خصمه العنيد ابن السعود، وذلك للاستيلاء على أرض آمن من الصحراء وأضمن للعيش منها، والاستقرار فيها، وإنشاء إمبراطورية عربية بعد ضمّ سورية إليها.
إن القبائل العربية التي كانت تُغير في أزمان سابقة على بادية الشام كانت تواجهها الدول القائمة آنذاك، كالآكاديين والآشوريين والبابليين، فتطاردهم إلى الصحراء وتنشئ الحصون والمخافر ونقاط المراقبة على تخومها. ولقد أمدّنا التاريخ بشواهد كثيرة، منها رسم لفصيلة من الجيش الآشوري بلباسها الرسمي وسلاحها على صهوات أحصنة مسروجة تطارد مجموعة من «اللصوص العرب»، كما ورد في النص، وهم هاربين عراة على ظهور جمالهم. الأمر نفسه تكرّر في القرنين السابقين للمسيحية (مع الأنباط) والقرون الثلاثة التي تلت (مع الرومان والتدمريين والغساسنة) حيث أقام هؤلاء مراكز محصّنة على امتداد حافة البادية السورية لا ليحولوا بينها وبين البدو إذ كانوا يعتمدون على الخدمات التي يقدّمها البدو لهم، ولكن ليُنظموا ارتحالات هؤلاء البدو حيث كانت القبائل ذات المضارب الكبيرة تقضي الشتاء في جزيرة العرب وخاصة في نجد، وفي الربيع، كانت تتجه نحو الشمال باحثة عن المراعي فتصل إلى أطراف الحدود الحضرية، في بادية الشام، في ما عُرف يومها بـ (المقاطعة العربية)، وعادة ما تؤدي هذه الارتحالات إلى منازعات بين البدو الرحّل وبين الحضر (رينيه ديسّو، العرب في سورية قبل الإسلام، 1958، ص4).
وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر، فإن إغارة ابن السعود أو «وثبته» باتجاه بلاد الشام، خصوصاً باديتها، كانت تسير وفق ارتحالات العرب المعتادة منذ القدم مروراً بحقبة الفتح الإسلامي وما بعدها. فالطابع البدوي ترك بصماته على هذه الإغارة، حيث سلكت المعابر نفسها التي سلكتها القبائل العربية المتنقلة بين الجنوب والشمال، أو بين جزيرة العرب وبلاد الشام، وتشير التحقيقات الأركيولوجية الأخيرة إلى أن الأطراف الشرقية والجنوبية لبادية الشام تعجّ بقرى مدمرة ترجع في تاريخها إلى العهد الروماني وما قبله (الأنباط) وما بعده (التدمريون). وأن هذه المناطق المهجورة، والتي أعاد آل السعود ترميم بعضها بعد استيلائهم عليها، كانت مأهولة قديماً بالسوريين وبعض العرب الذين كانوا يتنقلون بمواشيهم في البادية السورية. ومن هنا جاءت تسميتها بـ«المقاطعة العربية» خاطئة، فقد تبيّن، لاحقاً، أن مبرر التسمية الوحيد هو أن البدو العرب، خصوصاً في فصل الصيف، كانوا يسكنون تلك المقاطعة، وقد عجّل الرومان بإقامة حصون صغيرة كسياج للأطراف الحضرية، كما شقوا الطرق الرئيسية التي تمتدّ في الصحراء.
تزلّف بعض السوريين
عامل أساسي آخر ساعد ابن السعود وسواه من الطامحين بضمّ سورية، كلها أو بعضها، إلى مشاريعهم التوسعية التي تتشوّف إلى إنشاء إمبراطورية عربية (ابن السعود)، وإمبراطورية وخلافة إسلامية (الحسين وأولاده من بعده) هو تألب السوريين المستعربين المتزلفين لهذا الهاشمي أو ذاك السعودي، وبعض المدّعين الذين اغتنموا الفرصة للظهور ممن شاركوا في «الثورة العربية» (1916) ثمّ أيّدوا ابن السعود بعد هيمنته وأسرته على الجزيرة العربية (كأمين الريحاني الذي استخدمته بريطانية للترويج لـ«الوحدة العربية» وتغذية خيال العرب بها، فقام برحلته المشهورة في بلاد العُربة ووضع كتابه «ملوك العرب»، وشكيب أرسلان الذي مثّل أدواراً مشبوهة مع الأتراك والفرنسيين والطليان والألمان). فهؤلاء خلطوا بين القضية القومية السورية وبين القضية العربية العامة، ذاهبين إلى القول بأننا عرب وأن سورية جزء متمّم لبلاد العرب وولاية من ولايات المملكة العربية (الهاشمية ثمّ السعودية). الأمر الذي أدّى إلى تعاظم مركزية الحسين (الشريف) ثمّ ابن السعود في سورية، وتزايد عدد العاملين، خصوصاً من الصحافيين، لابن السعود في لبنان والشام وفلسطين: هم يبثون الدعاوة له باسم الوحدة العربية وهو يغذّيهم بالمال ويُغدق عليهم الأنعام. وقد قويت الدعاوة له حتى أن كثيراً من السوريين أخذوا ينظرون إليه نظرهم إلى المنقذ المنتظر. وقد وجد أنطون سعادة أن فكرة التوسع العربي، الهاشمي فالسعودي، في سورية ليست خيالاً بل حقيقة تدعمها الحاجة المادية إلى موارد العيش. فابن السعود، برأيه، يحتاج إلى موارد لتثبت مملكته، الأمر الذي يُمكن أن تُوفره له سورية. وكما وجدت القبائل العربية لعهد النبي أغراضها المادية في الاتحاد في الإسلام، كذلك تجد القبائل العربية الممثلة، اليوم، بأنظمة جاهلية متخلفة، أغراضها المادية في العصبية الدينية الوهابية، فترمي إلى فتح جديد لاستكمال الاستيلاء على الأمصار المجاورة باسم الرسالة الوهابية المعادية لكل تمدّن حقيقي (سعادة، الأعمال الكاملة، ج2، ص153-154).
هذا العامل، إذن، ذو شقين: شقّ عربي عنصري، وشقّ ديني تعصبي. ويمكن تفنيد هذا العامل المزدوج والردّ على دعاته، بما يلي:
1- ليس في التاريخ السوري، على الإطلاق، ما يثبت أن السوريين ألفوا في الماضي وحدة عنصرية أو مدنية أو سياسية كاملة مع أية أمة أو أي شعب آخر. بل كل ما كان هنالك فتوحات وغزوات من كلّ حدب وصوب كان لبعضها تأثير في البلاد السورية أكثر من غيرها مثل الفتح الروماني والفتح العربي. أما الفتح التركي، فإنه لم يؤثر في البلاد إلا من الوجهة السياسية البحتة.
2- إن ادّعاء المغالين في العروبة بعلاقتي العنصر واللغة اللتين «تجمعان» العرب بالسوريين بعد علاقة الدين اضمحلت هي أيضاً. فالسوريون الذين يعودون إلى عنصر عربي لم يعُد فيهم من ذلك العنصر ما يُميّزهم به إلا الاسم. وهذا أيضاً لم يعُد يُعوّل عليه الآن بعد الامتزاج الغريب الذي حدث بين العناصر المختلفة التي وُجدت في سورية على كيفية مدهشة.
هذا بالنسبة لعلاقة العنصر، أما علاقة اللغة والثقافة بين السوريين والعرب، فالسوريون فتحوا أعينهم بعد تقلبات الدهر فما وقعت إلا على كتب قليلة من «الأدب العربي» فكانت هذه الكتب المستند الوحيد الذي لجأوا إليه، وما أوهاه مستنداً! أبيات من الشعر تارة تمثل الشعور الجامح (الحماسة والفخر) وطوراً تمثل الإحساس المنفعل تحت تأثير عامل قوي (الغزل والتشبّب) ونماذج من الكرم البدوي وبعض أخبار قواد العرب وأمرائهم، وهذا كان كل الثروة الروحية التي ورثوها عن العرب. أما حقيقتهم هم وثروتهم الروحية الكبيرة فلم يكن لها ذكر البتة! كان من وراء ذلك أن السوريين توهموا أن هذا الميراث الضئيل هو ميراثهم الوحيد، وأن البكاء على الأطلال والتغزل والتشبّب تتضمن المثال الأعلى الذي عليهم أن يُحققوه. فحدا كثيرون منهم العيس وبكوا على الأطلال في شيء كثير من الانخداع (سعاده، المرجع السابق، ص474).
3- إن القول إن التاريخ السوري والتاريخ العربي تاريخاً واحداً يُشبه القول إن تاريخ ألمانية وفرنسة وبريطانية تاريخاً واحداً، وكذلك تاريخ إسبانية والبرتغال… الخ. كما أن القول إننا عرب وأن تاريخنا واحد واللغة واحدة والعادات واحدة هو كلام عاطفي خالٍ من الصفة العلمية. فليست سورية والعُربة (Arabia) بلاداً واحدة، وليست العادات والتقاليد السورية والعادات والتقاليد العربية واحدة.
في التوطئة لهذا البحث، ذكرت أن «السعوديين» والأتراك استولوا، في ظل تآمر دولي فرنسي وبريطاني، على مناطق واسعة وغنية من سورية الكبرى (تمييزاً لها عن سورية الصغرى) قاربت مساحتها الـ 500.000 كلم2. فسورية، إذن، كانت صيداً ثميناً لكلا الطرفين، ولم يقف هذان الطرفان عند الحدّ الذي بلغاه من اقتطاع هذا الكم الهائل من الأراضي السورية، فأطماعهما بالمزيد منها لا تزال تُداعب مخيّلة الحكام في كل من أنقرة والرياض. إن الخطر التركي، كصنوه الخطر السعودي، الذي كان كامناً، لفترة طويلة، هو الآن خطر مداهم، بل مهاجم: لقد ابتدأ الأول بكيليكية والإسكندرونة وديار بكر، في الشمال، وفي أهدافه أن يستولي على الموصل وحلب ومنطقة الجزيرة العليا، وأن ينتهي في صنين، في أعالي جبال لبنان، وابتدأ الخطر الثاني بالسيطرة على أجزاء من بادية الشام ويتطلع إلى الأنبار في العراق. وإلا، كيف نفسّر التدخل التركي – السعودي السافر في الشؤون الداخلية لكل من الشام والعراق؟