[هذا الحوار استثنائي، بطَرَفيه، ومضمونه، ولغته، ومنهجه. دون أدنى شكّ يمكن القول: إنّه لقاء تاريخي. محمّد الفيتوري شاعر افريقيا هو المحاور وجولييت المير سعادة / الأمينة الأولى هي المُحَاوَرة. اللقاء تمَّ في بيروت في آذار من العام 1976، أي في ذروة معاناة الأمينة الأولى من مرضها العضال، وقبل وفاتها بثلاثة أشهر. كانت أليسار إلى جانبها وفق ما يشير الفيتوري.
الفيتوري، يبدو مُشبعاً من فكر سعادة، عارفاً مقاصده وما يرمي إليه… ترشح من كلماته وعباراته أطياف من الحب العميق والتعظيم الجليل لـ (دم الخلاص) الواصل إلى صليب المسيح.
الأمينة الأولى تكابد وتحاول أن تتغلب على آلامها كي تُجيب على الأسئلة … وكأنها تخاف أن يتسبب ضعفها الجسدي في خدش صورة أو فكرة أو عبارة تعود لسعادة… عندما يتعلق الأمر بسعادة تنتفض حياةً نابضةً آذاريّة فوّاحة…
منهج الحوار مركّب، بمقدمته، وأسئلته، وتعقيباته، وتعليقاته.
حوار استثنائي عن أنطون سعادة، وحياته، وفكره، وتأثيره، وعلاقته بزوجته… واستشهاده]
مقدمة
قدّم الشاعر محمّد الفيتوري الأمينة الأولى على هذا النحو:
أن تعتبر نفسك جزءاً من كل، أن تتوحّد مع الألم الكلّي، أن تضع برنامجاً للعمل يلغي كل أسباب الآلام، أن تقرر الاصطدام بكل هذه الأسباب، أن يؤازرك في الصدام من استطاعوا نصب الأسلاك بين معاناة “الأنا” ومعاناة “الكل”، أن تموت واقفاً، أن يبقى بعدك من يشهد عليك ويتابع… تلك هي باختصار دلائل قيام “الزعيم”.
هنا جولييت المير سعادة، زوجة مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، تتذكر وتحكي في ميلاد زوجها، وهي هنا الشهادة الكليّة على كل شيء… وهي الشهادة قبل كل شيء حيث الحب الذي لا يتوقف هو الدافع وهو الباعث على كل شهادة أو على كل كلام.
قبل قرابة ألفي عام، استيقظ طغاة العصر، في أورشليم القديمة، على صوته الحزين المتألق بالحب والنبوة، فأنكروه، وحقدوا عليه. واجتمعت كل مفاسد العصر ضده، ولكي يتخلصوا منه إلى الأبد، عقدوا له محاكمة ظالمة، وعلّقوه عارياً على الصليب.
وحين شاهدت الأم، جسد ابنها المصلوب، يتأرجح في الهواء، لم يكن بإمكانها إلاّ أن تبكي كثيراً، وأن تحزن كثيراً.
أمّا هو، فقد كان يعرف – حتى بعد موته – أنّ دعوته، سوف تنتصر، وتضيء ظلمة العصر، وأنّ دمه وحده، كان ثمن خلاص العالم.
وقبل قرابة ألف عام، أوقف الطغاة والمفسدون، رجلاً آخر، نفس الموقف. اتهموه بالشرك والزندقة، وطعنوا في شرفه، وسجنوه، وجلدوه بالسوط (ألف جلدة). طعنوه بالسيف وقطعوا يديه ورجليه. ثم ضربوا عنقه، ونصبوا رأسه (على سور السجن الجديد)، وأحرقوا جثته. ولمّا صار رماداً ألقوه في مياه دجلة.
(لقد أفشى الأسرار الإلهية، ولهذا فإنني لا أبكيه)، هكذا قالت أخت الحلّاج الصوفيّ المصلوب. تلك التي كانت لعظم جمالها، واكتمال شخصيتها، تحتقر الرجال، وتلاقيهم بوجهها، دون أيّ حجاب. أمّا الحلّاج نفسه، فقد كان واثقاً من أنّ كل ما حدث له، سوف يحدث له.
كان الشيخ الذي واجه التعذيب والصلب، وهو في الخامسة والستين من عمره، قد أبصر قبل ذلك بأعوام كيف ستكون نهايته: (على دين المسيح يكون صليبي).
ترى، هل كان الحلّاج مجرد صوفي كبير، تجرّأ على الذات الإلهية، فأفشى أمام العامّة، ما خصته به من أسرار؟ هذا ما قالته أخته وقاله آخرون. أم ترى أنّه كان شيئاً أكبر من كل ذلك؟ كان داعية ومفكّراً اجتماعياً، تبنّى فكر الثورة ضد الدولة العباسية، وعمل مع ثوار عصره (القرامطة) من أجل إسقاطها، بعد أن تآكلتها عوامل الفساد والانهيار والتحليل، وبعد أن تحولت إلى سلطة بطش وإذلال واستنزاف لطاقات ومصالح الجماهير!
وسواء كان مقتل الحلّاج – على هذه الصورة البشعة – بسبب شطحاته الجريئة. بوصفه عاشقاً صوفيّاً، أو بسبب أفكاره “الهدّامة” بوصفه ثائراً اجتماعياً، فإنّ قيمته التاريخية، إنّما تكون في هذا الضوء العظيم، الذي توهّج بانبثاق دمه، فكشف الحقيقة، التي أبصرها، وآمن بها وجعلها إرثاً مشاعاً، للمساكين من بعده.
أن يستقبل إنسان، قدره القاسي (الحكم بالموت) حيث لا يكون أمامه، إلاّ أن يستقبل قدره، ثم لا يستجدي شفقة جلاديه، ولا تسقط عقيدته، تحت قدميه، أن لا يقبل إلا بمستوى الاستشهاد تلك إحدى أسمى مراتب البطولة.
وفي عذابات هذه المرحلة، من نضالات أمتنا، تستوقفنا بضع شخصيات من هذا الطراز، عبد الخالق محجوب، والشفيع أحمد، وفرج الله الحلو، وأنطون سعادة، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، وصاحب الدعوة المبكّرة، إلى الوحدة القومية، والحرية الاجتماعية، وتحطيم هياكل التعصبات الدينية، ونعرات الانعزالية والانفصال.
نَص الحوار
الانتقام لسعادة هكذا يكون
- كيف وجدت نفسك، بعد غياب سعادة؟ لقد عاصرته ردحاً من الزمن، كنت معه، في أفراحه وأحزانه. كثيرون كانوا من حوله. أمّا أنت فقد كنت وحدك، رفيقة أسراره، ليس من حقّي، أو من حق أحد غيري مهما كان قريباً منه، أن يتحدث عنه، كما تتحدثين، إنّ آثاره تكشف لنا جوانب من فكره ومواقفه وعبقريته، ولكنّ حياته الخاصّة، لا يعرفها سواك. هل تبدأين بوقفة عند النقطة الفاصلة، عند قمة المأساة!
كانت السيدة جولييت المير، الأمينة الأولى، وأرملة الزعيم أنطون سعادة مستغرقة في ذكرياتها، حين أيقظتها على كلمة “المأساة” تبدلت ملامح وجهها الإنساني العميق، وتخالطت في وجهها عشرات المشاعر. هل تذكرت شيئاً فبكت، وتذكرت شيئاً آخر، فابتسمت؟!
ربما كنت أحسّ بعنف هذه الأحاسيس، وثقل وقع الذكريات على نفسك، اعتذر يا سيدتي الأمينة، لأنّي أثّرت فيك، ما قد يكون ألمك من خواطر وذكريات! سأستبدل السؤال.
- لا..لا.. إنني فقط كنت أحلم.. كنت أصغي إليه. ليس في ذلك تجاهل لوجودك..
وتابعت الأمينة الأولى:
- لقد علّمنا الزعيم، كيف نعضّ على نواجذنا، ولا نصرخ من الألم، وأنا أعيش في تعاليمه.. الحق أنّه علّمنا أشياء كثيرة، من ذلك أنّنا كلما كبرنا، كبرت فينا القضية. أقصد إيماننا بالقضية، وردي على سؤالك، هو أنّ الشيء الوحيد، الذي أؤكده الآن، ودائماً، هو إيماني بالقضية التي دفع سعادة، دمه من أجلها، لم يطرأ عليه أيّ تغيير، رغم كل التعقيدات والظروف المفاجئة. فلم يكن يعني موت سعادة أيّ معنى من معاني التردد أو التخاذل أو الانقطاع، وهذا ليس بالنسبة لي وحدي، ولكن بالنسبة لكل من عرفوه، وأعرفهم. إنّ موته لم يكن يعني أبداً، سوى العمل والتأكيد على رسوخ مبادئه، وانتصار قضيته، ولو بعد حين.
ولقد سألتني عن موقفي النفسي، بعد غياب الزعيم، لقد تآمروا جميعهم عليه، وقتلوه على هذا النحو الذي سجلته صفحات التاريخ، وأنا كإنسانة، وكامرأة، وكزوجة، لم يكن بمقدوري، أن أحتمل ما هو فوق طاقة البشر.. بكيت؟ نعم بكيت.. رفضت أن أصدّق أنهم قتلوا الأمة. شعرت بصدق أننا فقدنا الرجل المنقذ للأمة.
اعتراني شعور هائل بالخوف والضياع، أدرت وجهي يميناً ويساراً، وكنت سجينة فلم أعرف ماذا أفعل؟ لقد كان الغباء الذي يسود المرحلة، أذكى قليلاً من طبيعته، هل كان حكّام الأنظمة التي دبّرت المؤامرة حينذاك، أذكياء على غير طبيعتهم؟ وإلاّ لماذا سجنوني يوم أن وضعوا قدميه المقيدتين، على درج الموت!!
إنّ “دير صيدنايا” الذي سجنوني فيه، رآني حينذاك، كما لم يرَ امرأة من قبل. وفكّرت أن أرمي بنفسي، من أعلى الدير إلى الهاوية، كان بإمكاني أن أفعل ذلك، ولكنّي ساعة التنفيذ، توقفت، لقد تذكرت تعاليم سعادة، وتذكرت أولادي، وأسندت قلبي بيدي.. وانكمشت في إحدى زوايا سجني.. ومرت الأيام قاسية وسوداء.. ثم نما في روحي شعور بالظلم والإجحاف وكذب العدالة.. ثم أحسست أنّ هناك امرأة أخرى، تولد وتنمو بداخلي.. امرأة شرسة، حاقدة ومنتقمة.. إنّه لا بدّ لي من أن انتقم من القتلة.. بودّي أن أقابلهم واحداً واحداً.. وأن لا أكتفي بالبصق في وجوههم.. لم أعد أهاب أحداً من بعد..
ثم جاءت المرحلة التالية، مرحلة التفكير في تلاميذ سعادة الكثيرين، أولئك الذين شاركوني الشعور بفقدانه، ومن ثم بدأت روحي تعرف الهدوء، وقررت أن أكون أمّاً لهم جميعاً، وأن نسعى جميعاً، لانتصار القضية، وكان هذا أكبر انتقام.
الطريق إلى قلب سعادة
- الخالدون لا يعرفون الموت.. وسعادة لو أنه عاش بجسده، حتى الآن، أو على الأقل، لو أمكن الأخذ بمبادئه، تلك التي اضطهدوه، وائتمروا عليه، وقتلوه من أجلها.. هل كان يمكن أن تحدث الفاجعة الكارثة، التي عاشها الشعب في لبنان أخيراً؟
أجابت في حدة:
- مستحيل.. ولقد كان قتلهم له، إحساساً بخطورة مبادئه، على مخططاتهم الرهيبة للمستقبل. والدليل على ذلك، أنه حيث تحققت مبادئ سعادة، في أية منطقة من المناطق السورية، لا يمكنك أن تجد التناقضات، أو مشاعر البغضاء، أو التعصب، أو العنف. أؤكد على أنه لو تحققت مبادئ سعادة، إذن لكان الشعب في لبنان، قد اكتشف أصدقاءه الحقيقيين، وأعداءه الحقيقيين، اكتشف أولئك الذين يتاجرون بأقداره ومصالحه تحت ستار الدفاع عن الدين. كما اكتشف أولئك الذين يتاجرون بدمائه ومستقبل أمته، تحت غطاء الدفاع عن الوطن، والامتيازات الطائفية.
قلت لها:
- لقد نذر سعادة، حياته للعمل القومي والسياسي، وتلك هي رسالته الكبرى، شأنه شأن رفقائه، في التاريخ، وبعيداً عن هذه المجالات، دعينا نتحدث، على أن سعادة نفسه، أفاض في الحديث، عن كثير من جوانبه الإنسانية.. اهتماماته كإنسان، وكناقد أدبي، وأيضاً كفنان، مثلاً يقول في مذكراته ما نصه: (أمي وبلادي ابتدأ حياتي، وستلازمانها إلى الانتهاء). وأنا أسألك بعدما دخل حياته، أنت المرأة، عن الحيّز الذي ملئته في حياة سعادة الإنسان؟
قالت:
- باختصار.. كنت رفيقة حياته، رفيقة قضيته، ولقد حاولت جهدي، أن أرتفع إلى مستوى قدرته على الاضطلاع بالمهام والمسؤوليات، ليس فقط الاضطلاع بها، بل عن رضا، وغبطة، ودون غرور. ولعله حين اختارني أنا بالذات، لأصبح زوجة له، اكتشف في شخصيتي ما أقنعه، باستعدادي الذاتي، لأن أفهم معناه.
أما الحديث، عن تلك السيدة العظيمة، التي وهبته لأمته، فالذي أؤكده، هو ما كان يؤكد عليه دائماً، في مذكراته، وفي حياته، حول أهميتها البالغة في تكوين شخصيته، وأذكر أنه كان دائماً، يكرر قوله: (لو لم أفقد والدتي، منذ الصغر، لكنت أسعد الرجال). لكم كان يحبها، كانت والدته هي حبه الكبير، الذي أفتقده، وظلّ عائشاً في روحه، فقد كان عمره، عشرة سنوات.
قلت:
- لا شكّ أنّ إقناع رجل مثل سعادة، خارج نطاق قناعاته المبدئية، عملية ليست بالسهلة، كيف استطعت أن تعمّقي قناعاته بك؟
قالت:
- لم أجد صعوبة كبيرة، فلقد كان إخلاصي له، طريقاً رحباً إلى قلبه، وفي كل حياتي معه، كان حبي له مرتبطاً بالقضية، وكان ذلك يعني أن أتنازل عن كل شيء، ما عدا مساعدته على تحقيق رسالته، لم تكن لي رغبات خاصة إطلاقاً، كنت أحس أنّ كل ما أعطيته له، ليس كافياً، تنازلت مثله، عن الراحة. وعن الرفاهية، كنا نعيش معاً، في القضية، وفقط للقضية.
كلنا مسلمون…
قلت:
- أفهم الآن، أنّه يشركك حياته، أنّك إنسان متلاحم به. إنسان في جوهر حياته، هكذا تبلورت قيمتك فيه. لكني قرأت له في مذكراته (البارحة اشتريت حاكياً، لأنّي أشعر بصعوبة الحياة، بدون موسيقى، ولكم كنت أودّ لو أنّي تعلمت هذا الفن الشاق الذي أعانيه)، لقد كان فناناً في اهتماماته السياسية. فناناً في طموحاته الشخصية. كان يدرك أنّ الرجل الذي يتصدى للعمل الاجتماعي، يجب أن يكون فناناً، ذلك هو ما فهمته من تلك الفقرات وأنت هل تحدثينا عن هذا الجانب الغامض، من حياته.
قالت:
- ربما كان ذلك في مرحلة سابقة، على علاقتي به، لا أذكر أنّه حمل آلة موسيقية، أو رسم بريشته لوحة على جدار، أذكر فقط، أنّه كان يحب الموسيقى الكلاسيكية، السيمفونية الخامسة على وجه التحديد، كان يعيش مع بيتهوفن، صراعاته وانفعالاته، التي عكسها في موسيقاه. كان شديد الاهتمام بدراسة النص الموسيقي، ومعرفة ظروف معاناة الفنان، وكثيراً ما رأيته، كلما انتهى من سماع أحد الأعمال الموسيقية، وهو يحلل، أو يفسّر العمل، أو ينتقده، ويسجّل بعض الملاحظات، كذلك بالنسبة للرسم، كان يقف تجاه اللوحة، وقفات طويلة متأملة. يشير إلى انسياب الخط ونعومته. أو يبدي إعجابه، بقدرة الرسام، على مزج اللون، وتكامل الدوائر والأشكال. كان سعادة يعتبر الفن، دلالة على رقي وازدهار الأمة، وميزة تضاف إلى رصيدها. وكان يفرح كثيراً، كلما جاء فنان، إلى الحياة. وبنفس القدر كان موقفه من شعراء جيله، وأذكر تلك الانتقادات العنيفة التي وجهها إلى فرحات وشفيق المعلوف، ورشيد الخوري، والتي ضمنّها كتابه (الصراع الفكري في الأدب السوري)، كان يسمي بعضهم، الشعراء الاستغلاليين، والبعض الآخر شعراء الترنّم.. إذا أردت أن تتعرف على رأي سعادة، في قضية الشعر، وفي قضية تعنيك بكل تأكيد، فستجده في كتابه (الإسلام في رسالتيه)، لقد كان هذا الكتاب، رداً ودحضاً، لمواقف وآراء الشاعر القروي، حيث كانت أفكار هذا الشاعر – وربما كان عن سطحية في فهم جذور القضايا الاجتماعية – تقف ضد فكرته الأساسية، الداعية إلى محاربة التقسيم الطائفي، الذي كان ظله الكريه، يريد أن يمتد إلى السوريين، في المهجر، وفي جريدة “الزوبعة” ارتفع صوت سعادة، مندداً بهذه النغمة البغيضة، معلناً خيانة الدعاة.
لقد عكف سعادة في مقالاته، وفي كتابه المشار إليه، على تحليل ظاهرة الدين، وخطورة التعصب الديني، الذي يسيء إلى وحدة الأمة، وينحرف بحقيقة الصراع. ولقد صرخ سعادة بمقولته المشهورة “كلنا مسلمون” في وجوه أولئكم الشعراء الاستغلاليين. شعراء الانحياز الأعمى، الذي بلغ من نفاقهم، تمجيد انتماء ديني، ضد انتماء ديني آخر، كما استطاع أن يبرز التقارب الجوهري، بين المسيحية والإسلام. وبالطبع فلقد كان لأولئك أنصار متحزبون، هاجموا الكتاب، وانتقدوه بعنف عند ظهوره.
بين الشعر والشعراء
قلت:
- في توجهاته النقدية، نحو الشعر والشعراء، قرأت له قوله (ليس بين شعرائنا الحاليين، من وضع شعراً فلسفياً بالمعنى العصري) وقرأت له قوله (الشاعر الوحيد بين شعرائنا الماضيين والحاضرين. الذي خص شعره، فضلاً عن نثره بالفلسفة، هو أبو العلاء المعرّي) ومن ذلك تبين لنا إلى حد كبير، بعض الأسس والأهداف الفكرية، التي كان سعادة ينطلق منها وإليها، في ممارساته النقدية. إنه يدعو الشعراء إلى أن يكونوا شعراء ومفكرين والشعر عنده ليس مجرد الضوابط الموسيقية، والإيقاعات. إنّه معاناة هموم المجتمع، من خلال الشعر. إنّه الوعي بقضايا الإنسان، وبمعنى أدق، إنّه عناق الوعي الاجتماعي بالشعر، وفي هذا الاتجاه، فإنّ أبو العلاء لم يكن مجرد فيلسوف انعزل داخل صومعته، وأخذ يتطلع إلى نفسه، منفصلة عن العالم، ولكنه حتى داخل عزلته، كان يشارك أبناء عصره قسوة المعاناة، هل يمكن لنا أن نستخلص من إعجاب سعادة، بالشاعر المعري، أنّ سعادة قد تأثّر بأفكاره الإنسانية والاجتماعية، ومن ثم انطلق في بناء دعوته، توافقيني على أنّ جذور حركة سعادة الاجتماعية، إنما نبتت وتشربت من أرضية هذه الأبيات:
في اللاذقية ضجة
ما بين أحمد والمسيح
هذا بناقوس يدق
وذا بمئذنة يصيح
غلب الخلاف عليهم
يا ليت شعري ما الصحيح؟
قالت الأمينة الأولى:
- ليت في مقدوري أن أجاوب.. لا أعتقد أنّ أحداً آخر، غير سعادة نفسه، لدية القدرة أو الحق، على الإجابة، إنّه رجل فكر وثقافة ومعاناة اجتماعية، قبل أن يكون رجل سياسة وداعية إلى التغيير والثورة على المجتمع المتخلّف. ربما جاز هذا الافتراض، أو ذلك، المهم الحقيقة التي دخل بها سعادة، تاريخ النضال الجماهيري، نحو سعادة الإنسان.
كالبركان عندما يثور
قلت لها:
- إنّهم ودعاء وإنسانيون، عندما يجدون أنفسهم، في محاور الجدل الفكري، ومواقف الإقناع، وهم من ناحية أخرى، حاسمون ومقاتلون، في حالات البت المصيري، في القضايا التي آمنوا بها، أنا أتحدث عن سعادة وآخرين معه في التاريخ.. وعن سعادة أسألك متى كان يثور، ومتى كان يحزن، أو يفرح، أو يغضب؟
قالت:
- النظام والانضباطية، كانا شغله الشاغل. كان يحتدّ كثيراً، تجاه القضايا الحزبية، فقد كان يرى ضرورة التقيّد بالمهمات، خصوصاً إذا كان الإهمال أو الإغفال، من أحد المسؤولين الكبار باعتبار أنّ خطأ الكبير، خطيئة كبرى. مثلاً عندما كان يكلّف أحدهم بمهمة، ثم لا ينجزها أو يسيء إنجازها، كان يثور كالبركان.
وفي خجل وروعة ابتسمت الأمينة الأولى وتابعت:
- حتى أنا، كثيراً ما تعرضت لثورته. ويحدث ذلك، كلما وقعت في خطأ ما ولم أعترف بخطئي أو إذا أعطيت رأياً، ثم أصررت عليه، بعد تبيان خطئه.
موقف خاص بي، أذكره بعد أن أثبتت الأيام، كم كان سعادة، ينظر إلى البعيد.. لقد كان يعلمني قواعد اللغة العربية، ولصعوبتها كنت، في بعض الأحيان، أنسى القاعدة فأخطئ. وتثور ثائرة سعادة ويصرخ في وجهي:
يجب أن لا تكرري هذا الخطأ. إنّ هذه اللغة، سوف تكون لغتك الوحيدة في المستقبل، وأعتذر عن الخطأ وأعده بتلافيه.
بالمناسبة، لقد كنا حينذاك في الأرجنتين، واضطررنا للبقاء فيها، بسبب نشوب الحرب، وكان سعادة يرفض الحديث بغير اللغة العربية، ويصرّ على أن نتكلم – أنا وبناتي الصغار- كي نخاطبه بها. حتى ابنتي أليسار (كنت أجلس إلى جانبها ساعة إجراء الحديث) وكان عمرها سنتين، طالما أدهشتني، لشدة تأثرها بأبيها، خاصة وهي تردد أغنية طفولتها المفضّلة وبلغتها العربية الفصحى:
زورق في البحر يسري
حاملاً كنزاً ثميناً
قبس فيه يضيء
منظر يسبي العيونا
الإرادة الحازمة في مواجهة السم
وأزهرت الابتسامة، على شفتي السيدة، المستوحدة بجمال الوقار والتواضع وقلت:
- لم تخبريني بعد، متى كان الفرح؟
قالت:
- كلما جاء طفل جديد إلى الحياة. كان سعادة لا يرى في الأطفال الجدد، مجرّد أعداد زيادة في البشر. كان يتأملهم باستغراق ووله، ويصغي إلى ضحكاتهم وأصواتهم البريئة. وكأنما يستمع من خلالها أصداء تدفق الحياة، في عروق المستقبل. كانوا في رؤيته، الأحلام المجسّدة، لأفكاره عن المستقبل ولذلك كانوا موضع عنايته، واهتمامه. الحياة عند سعادة هي الولادة الجديدة، هي اضطراد النمو في الحقائق والأشياء.
وأيضاً الطبيعة، كان سعادة يحب أن يطيل الوقوف أمامها، ويكاد يلتصق بها التصاقاً، كان يعيشها، ويعيش فيها، ويعيش معها، حتى لقد كان يخيّل لي أنّه جزء من الطبيعة في القوة، وفي الخير، وفي العطاء.
قلت:
- بقدر ما كانت مليئة بالروعة والمحبة، كانت حياتك معه مليئة بالأحداث، منذ سنة 1932 حتى سنة 1949.. ترى ما هي أخطر ثلاثة مواقف واجهتماها معاً؟
قالت:
- عندما توصلت سلطة الانتداب الفرنسي، بواسطة عملائها وجواسيسها المأجورين إلى اكتشاف الحزب (1935). ثم اعتقال الزعيم وأركان الحزب في السجن والمحاكمة. هل تعرف أنهم بعدما ألقوا القبض عليه، وزجوا به في غياهب السجن، للمرة الثانية (1937) حاولوا أن يتخلصوا منه، بدس السم في شرابه؟
وذات مرة، واجهوه بأحقادهم، طلبوا إليه أن يشرب السم، وأن يكتب على نفسه، أنه انتحر.. وأدرك الزعيم نواياهم، وإصرارهم على التخلص منه، فصدهم بإصراره، وقوة إرادته، وكان جوابه، أنهم لو أسقطوا شعرة واحدة من رأسه، سوف يدفعون الثمن غالياً، وقد دفعوه.
قلت:
- بقيت لديّ بعض الاستيضاحات.. ماذا كان يعني الزعيم سعادة، بقوله في مذكراته: (إذا دخلت المبادئ العنصرية الشعبية، لأمة لم تتمكن منها التربية القومية المتينة.. اقتضت أن تتنازل تلك الأمة عن مثلها الأعلى).
قالت:
- الجملة واضحة. وأعتقد أنّ كلمة (الشعبية) هي المسؤولة عمّا قد يكون تبادر إلى ذهنك من التباس. والشعبية تعني في إطار مفاهيم واصطلاحات تلك المرحة، كل ما هو ضد الفكرة القومية، تعني الطائفية، والإقليمية والانعزالية.
إنّ سعادة، في كلمته يطالب الجماهير بضرورة التسلّح بالوعي والفهم العميق الذي يتجاوز حدود الأنانية والعصبيات، إنّه يرمي إلى القضاء على الروح العنصرية، وكل ما يتولد عنها، من أفكار فردية وشوفينية. إنّ الدين عنده قضية شخصية، لا ينبغي لنا، أن نسمح لها، بالتأثير على وحدة ومصير المجتمع، إنّ الفرد يستطيع أن يتمسك بإيمانه دون أن يطغي هذا الإيمان، على إيمانه الأول بقوميته.
***
كان سعادة حاضراً بروحه، وكان تمثاله البرونزي، الواقف إلى يمينها، ما يزال مصوّباً نظراته إلى الأمام. وكنت أعرف ظروفها الصعبة…
وكان موعد ذهابها إلى فراشها قد حان.. لذلك طلبت إليها أن تأذن لي بالاكتفاء.. إنني أعرف أنّ سعادتها باسترجاع ذكرياتها، قد تكلّفها من العناء والجهد فوق ما تطيق، ودعتها. ثم خرجت، بينما احتلت ذهني منها ملامح وقسمات وجهها العميق التجارب والجراحات، وصوتها المفعم بالثقة والاطمئنان.
————————————————————-
تنويه: نشرت مجلة الديار- كانت مجلة يرأس تحريرها ياسر هواري – هذا الحوار في آذار 1976، ثم نشرته مجلة صباح الخير – البناء، العدد 637 – 25 حزيران .1988
قرأت الحوار سابقا في صباح الخير… شكرا سيرجيل شكرا حضرة الأمين نزار دائما تتحفنا بمقالات ودراسات قيمة لكل جملة فيها أهميتها بدون حشو ومبالغة وبلغة جذابة… واني شخصيا أعتبر لغتك في الكتابة ومصطلحاتك ومقارباتك هي فتح جديد في آفاق الكتابة العصرية والتي تحتاج بالمقابل الى وعي معرفي وحب من القارئ….. شكرا
سررت بمطالعتك ورأيك، وأرجو أن نتمكن من تكريس ما تسميه الكتابة العصرية ولغتها . مع تحياتي وشكري