مسار جلجامش

في البحث عن يسوع؟

يسوع الجليلي والغنوصية السورية

الجليل موطن العائلة المقدسة

تبدو منطقة فلسطين صورة مصغرة عن الغرب السوري، الذي تُشكل قسمه الأدنى الجنوبي. وهي تتألف من المناطق الجغرافية التالية:

1 – شريط الموانئ الساحلية، وأهمها عكو (عكا)، ويوبا (يافا)، وأشقلون (عسقلان)، وغزة.

2 – السهل الساحلي، وهو شريط خصب من الأرض الموازية للبحر.

3 – منطقة التلال المنخفضة (أو سهل شفلح) ، ويشكلها الانحدار التدريجي لمنطقة الهضاب الفلسطينية.

4 – الهضاب الفلسطينية، وهي بمثابة الامتدادات المنخفضة لجبل لبنان الشرقي؛ وتتألف من أربعة أقسام: أ- مرتفعات الجليل في الشمال، يليها وادي يزرعيل (مرج ابن عامر) الذي يفصل الجليل عن بقية الهضاب الفلسطينية؛ ب- الهضاب المركزية أو مرتفعات السامرة؛ ج- مرتفعات يهوذا؛ د- نجدة النقب.

5 – وادي الأردن، وهو غور عميق يمتد بين بحيرة طبرية والبحر الميت، ثم يستمر بعد ذلك في وادي عربة.

إن الصورة العامة التي تقدمها لنا جغرافية فلسطين، هي صورة منطقة متنوعة تتألف من بيئات معزولة عن بعضها بعضاً. وقد انعكست هذه الجغرافيا المتنوعة

فلسطين في أيام يسوع

على الحياة السياسية؛ ففي منطقة كهذه يصعب تحقيق الوحدة السياسية، لذا فقد كانت فلسطين على الدوام مقسمة إلى عدد من الدويلات الصغيرة المستقلة. وتتجلى عزلة البيئات الفلسطينية بشكل خاص في مناطق الهضاب، ونموذجها منطقة الجليل التي يفصلها عن الهضاب المركزية ومرتفعات يهوذا وادي يزرعيل العريض والخصب. فمنذ أواخر عصر البرونز القديم، في أواخر الألف الثالث قبل الميلاد، ظهرت في الجليل الأعلى مدينة حاصور الشهيرة في العالم القديم، والتي تحكمت في منطقة الجليل فيما يشبه دولة المدينة الموسعة خلال عصر البرونز الوسيط والحديث وصولاً إلى دمارها في نهايات القرن الثالث عشر قبل الميلاد (ربما على يد شعوب البحر).

تشير الدلائل الأركيولوجية والتاريخية إلى أن صلات الجليل الثقافية والسياسية مع منطقة الساحل الفينيقي، ومع العالم السوري الأوسع، كانت أقوى من صلاته مع المنطقة الفلسطينية. فإلى جانب اللقى الأثرية والبنى المعمارية المكتشفة، والتي تشير بقوة إلى روابط الجليل مع الشمال أكثر من روابطه مع الجنوب، فقد ورد اسم حاصور في أكثر من عشرين رقيماً اكتشفت ضمن أرشيف مدينة ماري على الفرات الأوسط. ونعرف من هذه الرُقم عن عدد القناصل والسفراء الذين كانوا يفدون إلى حاصور من الممالك الكبرى، وعن شحنات البضائع التي كانت ترسل إليها من ماري. كما ونعرف عن اسم أشهر ملوكها المدعو ابني هدو، الذي لعب دوراً مهماً في السياسة السورية خلال الفترة التي يغطيها أرشيف ماري.

في عصر الحديد الأول والثاني، الذي شهد مولد مملكتي السامرة ويهوذا، بقيت منطقة الجليل على عُزلتها عن مناطق الهضاب الأخرى، ولا يوجد لدينا دليل على صلات ثقافية مع جارتها السامرة، بل على العكس من ذلك. فالفخاريات وغيرها من اللقى المكتشفة خلال هذا العصر تشير بقوة إلى مؤثرات فينيقية، وصُوْرية (نسبة إلى صور) بشكل خاص. ويبدو أن الجليل قد وقع تحت سيطرة صور آناً وتحت سيطرة دمشق آناً آخر. كما وقع تحت سيطرة السامرة لفترة قصيرة خلال الهزيع الأخير من حياتها، وتأثر بالحملات الآشورية التي ساقت إلى السبي أعداداً كبيرة من سكانه وأحلّت محلهم سكاناً من المناطق المقهورة الأخرى.

تنقصنا المعلومات عن منطقة الجليل خلال العصر الفارسي. أما خلال العصر الهيلينستي والروماني، فقد تهلين الجليل مثلما تهلينت فينيقيا والسامرة وشرقي الأردن، ونشأت فيه مدن جديدة ذات طابع إغريقي، أهمها مدينة سيفوريس ومدينة تبيرياس (طبرية) التي بناها هيرود ودعاها باسم الإمبراطور الروماني تيبريوس. كان التركيب الإثني لهذه المدن متنوعاً، فقد احتوت على ذخيرة أساسية من السكان الجليليين القدماء، وعلى شرائح أخرى تم تهجيرها إلى الجليل من قبل الآشوريين، وعلى جاليات يونانية. أما الديانة الغالبة فكانت كنعانية تقليدية تم تطعيمها بعناصر إغريقية بعد مطابقة الآلهة المحلية مع الآلهة الإغريقية والرومانية. ولهذا يطلق مؤلف إنجيل متَّى على الجليل اسم جليل الأمم، أي جليل الوثنيين (متَّى 4: 15).

ونظراً لبعد مقاطعة اليهودية وعزلتها عن جيرانها، لم يحتوِ الجليل حتى مطلع القرن الثاني قبل الميلاد إلا على جالية يهودية قليلة العدد، وكان الجليليون ينظرون بعداوة إلى هؤلاء ويعتبرونهم جسماً دخيلاً على المجتمع الجليلي. وعندما ثارت مقاطعة اليهودية على الحكم السلوقي وجد الجليليون في هذا مناسبة للتخلص من اليهود؛ وهذا ما دفع بيهوذا المكابي عام 164 ق.م إلى الإسراع لنجدة يهود الجليل وإجلائهم إلى أورشليم. نقرأ في سفر المكابيين الأول: ” وبينما هم يقرؤون

يسوع في الجليل

الكتاب، إذا برسل قد وفدوا من الجليل وثيابهم ممزقة وأخبروا قائلين: قد اجتمعوا علينا من بْطُلْمايُس وصور وصيدا وكل جليل الأمم ليبيدونا… فلما سمع يهوذا المكابي والشعب هذا الكلام، عقدوا مجمعاً كبيراً وتشاوروا فيما يصنعون لإخوتهم الذين يعانون الشدة وهجمات الأعداء. فقال يهوذا لسمعان أخيه: اختر لك رجالاً وامض فأنقذ إخوتك الذين في الجليل… ومضى سمعان إلى الجليل وشن على الأمم حروباً كثيرة، فانسحقت الأمم أمام وجهه، فتتبعها إلى باب بطلمايس، فسقط من الأمم نحو ثلاثة آلاف رجل، وسلب غنائمهم. وأخذ اليهود الذين في الجليل، وعربات من حديد، مع النساء والأولاد وكل ما كان لهم، وجاء بهم إلى اليهودية بسرور عظيم.” (1مكابيين 5: 14-23) وبذلك فقد تم إفراغ الجليل من اليهود.

ولكن الوضع في الجليل تغير ظاهرياً بعد ضمه إلى أملاك اليهودية في عهد الملك المكابي أرسطو بولس الأول، وفَرْض الدين اليهودي على أهله بقوة السلاح من قبل خلفه الملك أليكسندر ينايوس، وذلك في مطلع القرن الأول قبل الميلاد، أي قبل جيلين أو ثلاثة أجيال من ميلاد يسوع. ومع ذلك فقد بقيت اليهودية بمثابة قشرة سطحية تعلو الثقافة والمجتمع الجليليين، والمراجع اليهودية ملأى بالإشارات إلى قلة دين الجليليين وجهلهم بأداء الطقوس والواجبات الدينية اليهودية، وعدم وجود فريسيين أو كتبة أو علماء شريعة بينهم يعلمونهم أصول دينهم.

بعد دخول الرومان إلى سوريا واستيلائهم على أورشليم عام 63 ق.م وانسلاخ الجليل وبقية المقاطعات التي ضمها المكابيون بالقوة إلى الدولة اليهودية، ساد جو من التسامح الديني شجع الكثيرين على الارتداد عن اليهودية والعودة إلى دين آبائهم، ولا سيما في عهد هيرود الكبير الذي عينه الرومان ملكاً على فلسطين، و الذي شجع الديانات المحلية على التعبير عن نفسها، وبنى المعابد لها. وهذا يعني أن الجليل لم يقع تحت السيطرة اليهودية إلا لفترة قصيرة لم تزد عن أربعين سنة، وأن من بقي على اليهودية في الجليل بعد ذلك لم ينظر إلى نفسه كيهودي أرثوذكسي، مثلما لم يُعَدُّ يهودياً حقاً من قبل أهل اليهودية.

في جليل الأمم هذا، ولد يسوع، وعاش طفولته وشبابه، وفيه بشر برسالته الجليلية الأممية، وكان تلاميذه وأتباعه جليليون، وهو لم يذهب إلى اليهودية إلا في آخر حياته التبشيرية حيث صلبه اليهود. وأما عن أبويه، فربما كانا على الديانة الكنعانية التقليدية، أو من أسرة تهودت قبل جيلين أو ثلاثة واستمرت على اليهودية بحكم العادة، أو أنهما كانا من أتباع جماعة روحانية من جماعات مدرسة جبل الكرمل المعروفة في التاريخ القديم، والتي ورد ذكرها في مؤلفات الكُتاب الكلاسيكيين الذين وصفوا الكرمل بأنه أكثر الجبال قداسة. ولكني أرجح اعتماداً على ما سأسوقه من شواهد أن يسوع قد نشأ في بيئة ثقافية غنوصية، وأنه تلقى المعارف على يد واحد من أبرز معلمي الغنوصية السورية، وهو يوحنا المعمدان المعروف لدينا من الأناجيل المسيحية.

في الغنوصية

يقع مفهوم “الغنوص” أو “العرفان” في بؤرة عقائد وممارسات الغنوصيين. و”الغنوص” كلمة يونانية تدل على المعرفة بشكل عام “Gnosis”، ولها أشباه في عدد من اللغات الهندو-أوروبية مشتقة من الجذر نفسه، مثل الكلمة السنسكريتية “جنانا- Jnana” والكلمة الإنكليزية Know بمعنى يعرف، و”Knowledge” بمعنى معرفة. ولكن المعرفة التي يسعى إليها الغنوصي ليست مما يمكن اكتسابه بإعمال العقل المنطقي وقراءة الكتب وإجراء التجارب والاختبارات، وإنما هي فعالية روحية داخلية تقود إلى اكتشاف الشرط الإنساني، وإلى معرفة النفس، ومعرفة الله الحي ذوقاً وكشفاً وإلهاماً. هذه المعرفة هي الكفيلة بتحرير الروح الحبيسة في إطار الجسد المادي والعالم المادي الأوسع لتعود إلى العالم النوراني الذي صدرت عنه بعد دورات لا حصر لها من تناسخ الروح في الأجساد. فالروح الإنسانية هي قبس من روح الله، وشرارة من نور الأعالي وقعت في ظلمة المادة، ونسيت أصلها ومصدرها. والإنسان في هذه الحياة أشبه بالجاهل أو الغافل أو النائم أو السكران. ولكن في أعماق ذاته هناك دوماً دعوة إلى الصحو عليه أن ينصت لها، ويشرع في رحلة المعرفة التي تحوله من نفس حيوانية أسيرة لرغبات وشهوات الجسد إلى نفس عارفة أدركت روابطها الإلهية وتهيأت للانعتاق الذي يعود بها إلى ديارها. وعلى الرغم من أن هذه الدعوة إلى الصحو موجودة بشكل خافت لدى النفوس الغافلة.

ولكن الله الذي يبحث عن الغنوصي في أعماق ذاته ليس الإله الذي صنع هذا العالم المادي الناقص والمليء بالألم والشر والموت، بل هو الآب النوراني الأعلى الذي يتجاوز ثنائيات الخلق، ولا يحده وصف أو يحيط به اسم. وهو الذي وصفه كتاب يوحنا السري بالكلمات التالية: “الواحد الموجود بصمديته، القائم بنوره. البداية التي لم تسبقها بداية. بلا حدود ولا أبعاد لعدم حدوث شيء قبله يحدده ويقيس أبعاده. خفي لم يره أحد. بلا أوصاف لأن أحداً لم يفهم كنهه فيصفه. بلا اسم، لعدم وجود أحد قبله يطلق عليه الاسم. قائم في نفسه ولنفسه وراء الوجود ووراء الزمن”(1). إن ما يميز المسيحية الغنوصية عن المسيحية القويمة، هو أن عالم المادة المرئي ليس من صنع الله وإنما من صنع إله أنى هو إله اليهود، الذي يوازي أنجرا مانيو شيطان الزردشتية. تتصوره الأدبيات الغنوصية على مسخ مزيج من هيئة الأفعى وهيئة الأسد وله عينان تشبهان جمرتين من نار، يجلس على عرش يحيط به معاونوه من قوى الظلام المدعوون بالأراكنة (مفردها أركون، أي حاكم باللغة اليونانية). يدعى بالاسم “يهوه” وبالاسم “يلدابوث” ويلقب بـ”سكلاس” أي الأحمق، وبـ”سمائيل” أي الأعمى، وبـ”الديميرج” أي الإله الصانع باللغة اليونانية (Demiourgos). وعلى الرغم من أن هذا الإله قد صنع الإنسان من مادة الأرض الظلامية نفسها، إلا أنه أخذ روحه من نور الأعالي المسروق وحبسها في قوقعة الجسد، ولكي يبقيه في حجب الجهل فقد فرض عليه الشريعة التي تشغله عن نفسه وعن اكتشاف الجوهر الحقيقي للروح(2).

يلف الغموض نشأة الغنوصية، ولكننا إذا اعتمدنا ظهور أولى النصوص الغنوصية المكتوبة بمثابة البداية التاريخية لهذه الحركة، لقلنا بأنها ابتدأت خلال النصف الأول من القرن الأول الميلادي مع ظهور مؤلفات معلمها الكبير فالينتينوس الإسكندري، وبلغت أوج عطائها خلال النصف الأول من القرن الثاني الميلادي على يد معلمين آخرين ينتمون إلى نفس المدرسة الإسكندرية. أما الغنوصية السورية فقد بدأت في وقت متزامن مع الغنوصية الإسكندرانية، ويعزو ظهورها إلى المدعو سمعان ماجوس الذي نشأ في مدينة السامرة بفلسطين ونشر فيها تعاليمه على ما نفهم من سفر أعمال المرسل في كتاب العهد الجديد المسيحي (8: 4-12). وسمعان هذا من أكثر الشخصيات الغنوصية غموضاً، لأن مؤلفاته قد ضاعت ولم يبقَ منها إلا أفكار متفرقة وصلت إلينا عن طريق نقاده المسيحيين. وقد امتلأ ما وصلنا إليه من سيرته بالخوارق والمعجزات، حتى ضاعت ملامح سيرته الحقيقية. نشط سمعان خلال النصف الأول من القرن الأول الميلادي. وهذا

يعني أنه قد عاصر يسوع ونشط خلال فترة نشاط الرسل الأوائل. ومن اليسير الذي وصلنا عنه، لا يبدو لنا سمعان يهودياً راديكالياً ثائراً على الأرثوذكسية

لوحة المسيح للفنان الياس زيات

اليهودية، ولا مسيحياً غنوصياً متطرفاً، وإنما تنبع غنوصيته من مصدر ثالث، هو على ما يبدو الغنوصية المبكرة التي نشأت عن الموروث الوثني التقليدي للمنطقة.

يقول سمعان، وفق ناقده هيبوليتوس، بأن الله قوة أزلية موحدة وغير متمايزة، منغلقة على نفسها في صمت مطلق. ثم إن هذه القوة اتخذت شكلاً وانقسمت على نفسها، فظهر “العقل” Nous وهو مذكر، و”الفكرة” Enoia وهي مؤنثة. وبذلك انشطرت الألوهة إلى قسم علوي هو عالم الروح، وقسم سفلي هو عالم المادة. فلقد امتصت الفكرة إنيويا القوى الخلاقة للآب وأنتجت ملائكة وقوى عملت بواسطتهم على صنع العالم المادي. ولكن إنيويا فقدت السلطة على القوى التي نشأت عنها، وصارت أسيرة لها ولا تستطيع الرجوع إلى الآب. ثم ظهر سمعان ماجوس كتجسيد لله على الأرض لكي يحرر إنيويا من قيودها، ويقدم الخلاص من العالم المادي لكل من يتعرف عليه. بصفته هذه، من البشر. وقد كان لسمعان عدد من التلاميذ أشهرهم دوتيسيوس وميناندر، اللذان بشرا في سورية واتخذا من أنطاكيا مقراً لهما(3).

يوحنا المعمدان والغنوصية السورية

يلف الضباب شخصية يوحنا المعمدان، فهو يظهر فجأة ودون مقدمات في أناجيل متّى ومرقس ويوحنا وهو يُعَمِّدُ الناس بالماء لمغفرة الخطايا على شاطئ نهر الأردن. أما مؤلف إنجيل لوقا فيورد قصة عن ميلاده من الكاهن العجوز زكريا وامرأته العاقر أليصابات، تشبه قصص الميلاد الإعجازي لبعض الشخصيات التوراتية مثل إسحق وصموئيل وشمشون، ولكنه يصمت بعد ذلك عن حياة المعمدان بعد ميلاده إلى حين ظهوره على شاطئ نهر الأردن؛ أما عن رسالته وتعاليمه فإن مؤلفي الأناجيل يجعلون منه خاتمة النبوة في إسرائيل وآخر أنبياء العهد القديم، وهذا هو مؤدى قول يسوع في إنجيل لوقا:”كان الناموس والأنبياء إلى يوحنا المعمدان، ثم ابتدأت البشارة بملكوت الله.” (لوقا 16: 16). هذا وتقدم لنا أناجيل متّى ومرقس ولوقا روايات متشابهة عن ظهور يوحنا وطقس المعمودية الذي كان يمارسه، ثم عن قدوم يسوع للاعتماد على يديه. نقرأ في افتتاحية إنجيل مرقس:” كان يوحنا يُعمد في البرية ويكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا. وخرج إليه جميع كورة اليهودية وأهل أورشليم واعتمدوا جميعهم منه في نهر الأردن معترفين بخطاياهم. وكان يوحنا يلبس وبر الإبل ومنطقة من جلد على حقويه ويأكل جراداً وعسلاً برياً، وكان يكرر قائلاً: يأتي بعدي من هو أقوى مني الذي لست أهلاً أن أنحني وأَحُلَّ سيور حذائه. أنا عمدتكم بماء وأما هو فسيعمدكم بالروح القدس. في تلك الأيام جاء يسوع من ناصرة الجليل واعتمد من يوحنا في الأردن. وللوقت وهو صاعد من الماء رأى السماوات قد انشقت والروح مثل حمامة نازلاً عليه، وكان صوت من السماء: أنت ابني الحبيب الذي به سررت” (مرقس 1: 4-7). أما في إنجيل يوحنا فإن يسوع لا يعتمد من يوحنا على الرغم من أنه مر به وهو يُعمد:”وفي الغد نظر يوحنا يسوع مقبلاً إليه فقال: هذا هو حَمَلُ الله الذي يرفع خطية العالم، هذا هو الذي قلت عنه يأتي بعدي رجل صار قدامي لأنه كان قبلي وأنا لم أكن أعرفه. لكن ليظهر لإسرائيل لذلك جئت أعمد بالماء.” (يوحنا 1: 29-31). وفي كلا الروايتين لا يلتقي الرجلان بعد ذلك أبداً.

إن ما تقوله لنا هذه الأخبار الشحيحة هو أن تعاليم يوحنا المعمدان لم تخرج عن الإطار العام للعقيدة اليهودية في أشكالها المتأخرة. فيوحنا كان يبشر بقرب حلول ملكوت الرب الذي بشر به كبار الأنبياء من قبله مثل إشعيا وإرميا، وهو مملكة أرضية يحكمها الإله يهوه بنفسه. وكان يعمد بالماء لمغفرة الخطايا استعداداً لدخول المعتمدين في هذا الملكوت، ولاستقبال المسيح اليهودي الذي يُفتتح الملكوت بظهوره. ومثل هذه الأفكار لم تكن بالشيء الجديد، وكان الأسينيون يبشرون بها، وهم طائفة يهودية طهرانية اعتزلت المدن وأقامت في البرية في انتظار قدوم المسيح، وكانت تمارس طقوس التعميد بالماء.

إلا أن ظهور بعض الطوائف الغنوصية منذ القرن الأول الميلادي، والتي تَدَّعي انتسابها إلى يوحنا المعمدان، وتنسب إليه تعاليمها وطقوسها، يزودنا بمقاربة جديدة لتصوُّر التعاليم الأصلية ليوحنا. وتحدثنا كتب التراث العربي مثل كتاب الفهرس لابن النديم، وكتاب الملل والنِحَل للشهرستاني، والآثار الباقية للبيروني، ومعجم البلدان لياقوت الحموي، وغيرها، عن أكثر من طائفة معمدانية كانت حية في أيامهم، ومنها طائفة “المغتسلة” التي نشأ فيها ماني ثم انشق عنها وأسس الديانة المانوية خلال أواسط القرن الثالث الميلادي(4). وقد بقي من هذه الطوائف اليوم طائفة الصابئة المندائيين التي تقيم في جنوب العراق والمناطق العربية من إيران. وكلمة صابئة منشقة من الجذر صبأ الذي يدل في اللغة المندائية الآرامية على التعميد والتطهر بالماء، وهو طقس الدخول في الدين. أما كلمة المندائية فمشتقة من كلمة مندا التي تعني معرفة أو علم، ويعادلها في اليونانية كلمة غنوص (Gnosis). وعلى ما نستشف من مصادر المندائيين أنفسهم، ومن كتب التراث العربي، ومن دراسات المستشرقين المحدثين، فإن الموطن الأصلي لهذه الطائفة كان في منطقة القدس وشواطئ نهر الأردن، ثم هاجروا شرقاً نحو وادي الرافدين عقب الاضطرابات التي رافقت وتلت الحروب اليهودية الرومانية فيما بين عام 66 وعام 70 للميلاد، والتي انتهت بدمار أورشليم على يد القائد الروماني تيتُس. ومازال اسم الأردن (أو يردنا باللغة المندائية) وهو النهر المقدس لديهم، يطلق على الماء الجاري الذي يستخدم في طقوس التعميد. وقد عُثر في منطقة ميسان في الجنوب العراقي على قطع نقود تحمل كتابة مندائية تعود بتاريخها إلى نحو 150م.

ينتسب المندائيون إلى النبي يوحنا الذي يدعونه بلغتهم يهنا أو يَهيا، وتورد كتبهم المقدسة عن نسبه وميلاده أخباراً تشبه قصة إنجيل لوقا والقصة القرآنية. نقرأ في إحدى تراتيلهم: “باسم الحي ربي، النور السني. وُلد يوحنا في القدس. أليصابات ولدت ولداً من الأب الشيخ زكريا. يوحنا ولد ولمس الأردن وكان نبياً. نوَّر

الصابئة المندائية

الإيمان قلبه، ونحن نتعمد بمائه، ونرتسم بالرسم الزكي. ونأكل من زاده ونشرب من مائه، فتنفتح قلوبنا إلى النور.” وطقس التعميد عندهم لا يتم إلا بالماء الجاري، وذلك على سُنَّة يوحنا الذي كان يعمد في ماء الأردن. ويخضع للتعميد الصغار في طفولتهم، والكبار قبل الزواج، كما يتعمد من شاء أن يكسب أجراً. ويجري التعميد في يوم الأحد وهو اليوم المقدس عندهم. كما يجري في المناسبات الدينية. ويهدف هذا الطقس إلى تطهير الجسد والروح، ويكون الغطس الكامل في الماء رمزاً لفناء الجسد الخاطئ، والخروج من الماء رمزاً للجسد الذي انبعث روحياً. وخلال طقس المعمودية وبقية الاحتفالات الدينية يرتدي المندائي الثياب البيض التي ترمز إلى النور، ويتحاشى بشكل عام اللون الأسود الذي هو لون الظلام والخطيئة.

يقوم جوهر العقيدة المندائية على الإيمان بأن نفس الإنسان أو نَسْمَته (= نشمتا بالمندائية) هي نفحة من الذات العليا، ولا بد لها وأن تعود يوماً إلى باريها وتتحد به في حياة باقية خالدة. وقد حلت هذه النسمة الإلهية أول ما حلّت في جسد آدم الأرضي ومعها شيء من جلال موطنها الأصلي وجماله، وفي الوقت نفسه حلت في الجسد الأرضي روح الشر (روها) ومعها كل ما في دنيا الظلام من خبث وشر. ولكن من خلال العرفان، أو الماندا، يستطيع الإنسان اكتشاف أصله السماوي ويصارع في داخله روح الشر، وبذلك يتحقق الانعتاق بعد الموت51).

اعتماداً على وجود هذه الطوائف الغنوصية المعمدانية التي تنتمي إلى يوحنا المعمدان وتنسب إليه تعاليمها، واستمرارها غير المنقطع منذ القرن الذي عاش فيه يوحنا، نستطيع الاستنتاج بدرجة عالية من الثقة أن هذه التعاليم هي التي سمعها تلامذة يوحنا الأولون ونقلوها إلى الأجيال اللاحقة، وأن يوحنا كان بحق واحداً من مؤسسي المدرسة الغنوصية السورية. ولا شك في أن علاقة يوحنا بيسوع لم تقتصر على لقاء واحد وإنما استمرت لفترة طويلة تتلمذ خلالها يسوع على يد يوحنا قبل أن يستقل عنه ويباشر العمل مستقلاً. وقد تقصى الباحث رودولف أوتو في المصادر القديمة أخباراً تقول بأن سمعان ماجوس الذي يُعتبر في البحث الحديث المعبر الأقدم على الفكر الغنوصي السوري، لم يكن في حقيقة الأمر إلا تلميذاً ليوحنا المعمدان، التحق به بعد أن تلقي علومه في الإسكندرية وعاد إلى فلسطين. وقد اعتبره يوحنا أنجب تلاميذه وكان عازماً على تعيينه خلفاً له، ولكن سمعان كان في رحلة قصيرة إلى مصر عندما جرى القبض على يوحنا ثم أُعدم بعد ذلك.(6)

ملامح غنوصية في سيرة يسوع

إن تقصي الملامح الغنوصية في سيرة يسوع كما ترويها الأناجيل، يتطلب منا بحثاً خاصاً مستفيضاً، ولن نستطيع في هذه الدراسة القصيرة سوى إيراد بعض الملاحظات التي لا تفي الأمر حقه.

في إنجيل يوحنا لدينا مقطع غامض لم يفلح مفسرو الكتاب المقدس حتى الآن في تقديم تفسير مرضٍ له. فبعد جدال طويل بين يسوع ومحاوريه من اليهود في أورشليم قالوا له: “ألسنا على صواب إذا قلنا إنك سامري وأن بك مسّ من الشيطان؟” (يوحنا 8: 48). فكيف يكون يسوع سامرياً والأناجيل تروي أنه ولد في بيت لحم من أبوين جليليين كانا في زيارة عابرة لأورشليم، وأنه عاش طيلة حياته في الجليل؟ وفي الحقيقة فإن التفسير الوحيد لصفة السامري في هذا المقطع، هو أن اليهود قد شعروا منذ البداية بوجود صلة بين تعاليم يسوع الغريبة عليهم وبين أفكار الغنوصيين السامريين من أتباع سمعان ماجوس.

وعلى الرغم من أن الأناجيل الأربعة التي بين أيدينا اليوم قد خضعت لعملية تحريرية طويلة الأمد جعلتها في اتفاق مع توجهات كنيسة روما، إلا بعض الملامح من سيرة يسوع الغنوصية تبقت لنا فيها. فيسوع لم يستخدم أياً من أسماء الإله التوراتي أو صفاته أو ألقابه في الإشارة إلى إلهه، بل دعاه دوماً بلقب الآب، والآب السماوي، فهو أب ليسوع وأب للمؤمنين جميعاً:”فاغفروا لكي يغفر لكم أيضاً أبوكم الذي في السماوات زلاتكم” مرقس 11-25. “إن الأعمال التي أعملها باسم أبي تشهد لي” يوحنا 10: 25. “لأن لكم أباً واحداً هو الآب السماوي” متّى 21: 9. “صلوا أنتم هكذا: أبانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك… إلخ”. “فكونوا أنتم كاملين لأن أباكم الذي في السماوات كامل” متّى 25: 48. إن كل الآلهة السابقة على يسوع كان لها أسماء، إلا إله الغنوصيين الذي لم يُدعَ باسم معين، وإنما أشاروا إليه دوماً بلقب الآب، والآب الأعلى، والآب النوراني، والإله الخفي… إلخ. وهذا الإله الخفي هو إله يسوع.

وقد ركز يسوع على ثنائية النور والظلمة اللذين يرمزان إلى الآب النوراني الأعلى والإله الديميرج سيد العالم المادي الكثيف والمظلم. قال يسوع:”أنا نور العالم. مَنْ يتبعني لا يخبط في الظلام، بل له نور الحياة” يوحنا 8: 12. “مَنْ سار في النهار لا يعثر لأنه يرى نور هذا العالم، ومن سار في الليل يعثر لأنه ليس فيه نور” يوحنا 11: 9. ” النور باقٍ معكم وقتاً طويلا، فامشوا ما دام لكم النور مخافة أن يدرككم الظلام، لأن الذي يمشي في الظلام لا يدري أين يسير. آمنوا بالنور مادام لكم النور، فتكونوا أبناء النور” يوحنا 12: 35-36. “جئت إلى العالم نوراً، فمن آمن بي لا يقيم في الظلام” يوحنا 12: 46. ” النور يشرق في الظلمات ولا تغشاه الظلمات… الكلمة هو النور الحق الذي ينير كل إنسان” يوحنا 1: 5-9.

وفي مقابل ملكوت الرب الذي يؤسسه يهوه على الأرض في نهاية الزمن، فإن مملكة إله يسوع لا تنتمي إلى هذا العالم. فعندما سأله بيلاطس في المحاكمة: أأنت ملك اليهود؟ أجاب يسوع:”ليست مملكتي من هذا العالم. ولو كانت مملكتي من هذا العالم لدافع عني رجالي لكي لا أُسلَّم إلى اليهود. ولكن مملكتي ليست من هنا” يوحنا 18: 36. هذا الملكوت لن يتأسس في زمن مقبل يسعى إليه تاريخ الإنسان، بل هو حاضر هنا والآن في داخل المؤمن. سأله الفريسيون متَّى يأتي ملكوت الله، فأجابهم:”إن مجيء ملكوت الله لا يُستدل عليه بشيء، ولا يقال ها هو ذا هنا، أو ها هو ذا هناك، فإن ملكوت الله هو فيكم” لوقا 17: 20-21.

كما استخدم يسوع مصطلحات غنوصية واضحة عندما تحدث عن غربة المؤمنين في هذا العالم، قال يسوع:”ستعانون الشدة في هذا العالم، فاصبروا لها، لقد غلبت العالم” يوحنا 16: 33. “إن أبغضكم العالم فاعلموا أنه قد أبغضني قبل أن يبغضكم، لو كنتم من هذا العالم لأحب العالم من كان منه، ولكن العالم أبغضكم لأنكم لستم منه” يوحنا 15: 18-20. “بَلَّغتهم كلامك فأبغضهم العالم، لأنهم ليسوا من هذا العالم، كما أني لست من هذا العالم” يوحنا 17: 14. لهذا فإن يسوع إنجيل يوحنا لم يأت ليدين العالم، كما هو الحال في الأناجيل الثلاثة الإزائية، بل ليخلص العالم:”ما جئت لأحكم على العالم بل لأُخلِّص العالم” يوحنا 12: 47. وهذا الخلاص هو في طبيعته هروب من عالم فاسد لا أمل في إصلاحه لأنه واقع تحت سلطان الظلمة:”من أحب حياته هلك، ومن كره حياته في هذه الحياة الدنيا حفظها للحياة الأبدية” يوحنا 12: 25. والحياة الأبدية تبدأ عندما تنكشف البصيرة على الحقائق السرية؛ عندها يولد الإنسان ولادة جديدة، ولادة من الأعلى الروحاني لا من الأسفل المادي:”ما من أحد يمكنه أن يرى ملكوت الله إلا إذا ولد من علٍ… إلا إذا كان مولوداً من الماء والروح. فمولود الجسد يكون جسداً، ومولود الروح يكون روحاً” يوحنا 3: 3-6.

هذا وبإمكاننا تتبع الآثار الغنوصية في تعاليم يسوع اعتماداً على إنجيل توما الذي يُعتبر بمثابة الإنجيل الخامس على الرغم من أن الكنيسة لم تعده في جملة الأناجيل القانونية. وهذا الإنجيل لا يحتوي على سيرة لحياة يسوع وإنما على مجموعة من أقواله دون الإشارة إلى مناسباتها. ولسوف نقدم فيما يلي مختارات قليلة من هذه الأقوال(7).

1- قال في معرفة النفس التي تقود إلى معرفة الآب: “عندما تعرفون أنفسكم عندها يعرفونكم، وتعرفون أنكم أبناء الآب الحي.” (الفقرة 2). “على من يبحث ألا يتوقف عن البحث إلى أن يجد ضالته، وعندما يجد ضالته سوف يضطرب، وعندما يضطرب سوف يدهش ويسود على الكل.” (الفقرة 1). “من يبحث يجد، ومن يريد الدخول يُفتح له.” (الفقرة 94)

2- وقال في انكشاف البصيرة الذي يجعل الأبدية حاضرة هنا والآن: “قال له التلاميذ: متى راحة الموتى، ومتى يأتي العالم الجديد؟ فقال لهم: إن ما تنتظرونه أتى ولكنكم لم تتبينوه.” (الفقرة 51). “وقالوا له أيضاً: متى يأتي الملكوت؟ فقال يسوع: لا يأتي حين ننتظره. لا يقولون لكم هو ذا هنا أو هو ذا هناك، لأنه يملأ الأرض ولكن الناس لا يرونه.” (الفقرة 113). “إن الملكوت في داخلكم.” (الفقرة 3)

3- وقال في القيامة العامة للموتى التي لن تجلب الحياة الثانية لمن لم يجدها قبل موته، ومن وجد الحياة قبل موته لن يموت أبداً: “هذه السماء ستزول، والتي فوقها ستزول، ولكن الذين هم أموات لن يحيوا، والذين هم أحياء لن يموتوا.” (الفقرة 11)

4- وقال في أصل النفس الفردية المتجذر في عالم النور العلوي، وفي إدراكها لغربتها في عالم المادة: “إذا سألكم الناس من أين أتيتم قولوا: أتينا من النور.” (الفقرة 50). “طوبى للمتوحدين والمختارين، لأنكم تجدون الملكوت، عنه نشأتم وإليه تعودون.” (الفقرة 49). “كونوا مثل عابرين.” (الفقرة 42). “سألته مريم المجدلية: من يشبه تلاميذك؟ قال لها: يشبهون أطفالاً يعيشون في حقل لا يخصهم.” (الفقرة 21).

الحواشي

1- راجع النص الغنوصي المعروف بعنوان منحول يوحنا (The Aporyphon of John) في كتاب:

– James M. Robinson، ed، The Nag Hammadi Library، Harper، New York، 1972، p.98 ff.

2- هذه التصورات مبثوثة في عدد من النصوص التي عُثر عليها في مكتبة نجع حمادي الغنوصية بمصر العليا. انظر المرجع السابق.

3- Willis Barnston، The Other Bible، Harper، New York، 1984،pp. 603-609.

4- بخصوص هذه الطائفة المعمدانية وصلة أسرة ماني بها، راجع:

– جيو ودينغرين: ماني والمانوية، ترجمة سهيل زكار، دمشق 1985، ص 41-42.

5- هذه المعلومات عن تاريخ وعقائد وطقوس المندائيين قدمتها بالاستناد إلى:

– ناجية المراني: مفاهيم صابئية مندائية، بغداد 1981. الفصل الثاني.

6- Kurt Rudulf، Gnosis، Harper، 1987، pp.296-298.

7- هذه الفقرات من إنجيل توما هي من ترجمتي عن النص الإنكليزي للإنجيل:

– D. John and R. Ray، The Gospel of Thomas، Seaston، Barklely، California، 2000.


[رابط فيلم وثائقي عن الصابئة المندائية، لمن يريد معرفة المزيد عن هذه الديانة – سيرجيل]

———————————————————

تنويه: ينشر سيرجيل هذه المقالة البحثية، بإذن خاصٍّ من المؤلف، والمقالة موجودة على مدونته، وكانت الجريدة الألكترونيّة ناسنيوز قد نشرتها أيضاً.nnasnews

فراس السّواح

مفكّر وباحث في الميثولوجيا وتاريخ الأديان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق