الشرع الأعلى

الذي رَأى

الذي رَأى

[كتب ميشال نبعة، هذا النصّ في الأول من آذار من العام 1987. نستعيده الآن بعد 34 عاماً، توالى فيها الأول من آذار وتكرر وعاد. ميشال نبعة الذي كان استثنائياً في رؤيته الإبداعية لأنطون سعادة، يقرأ القرن العشرين في ضوء منهجيته وفلسفته بلغة نابضة متدفقة، وبأسلوب يميّز ميشال نبعة ويليق بسعادة وقضيته.

نستعيد هذا النصّ، ونستعيد ميشال نبعة معه، ونلتقي على منصّة أنطون سعادة…]

الذي رَأى

  • وعاد الأول من آذار

إنه دوماً هكذا، يذهب ليعود في تكرار أبدي لحركة كونية تدور على ذاتها في رتابة نظام شمسي، متين في رتابته حتى الإغراق في المجانية. ولولا ما نتلمس عليه من كائنات تنمو وتدب ومن جماد يترّسب عليه توالي الأزمنة، ولولا ما نحسّ في داخلنا من حياة تصحو، ولو لم ندرك بالغريزة وبالعقل ما ينظم انفجار الحياة فينا ومن حولنا على إيقاع هذه الحركة الرتيبة، لكان قتلنا النعاس في حضن هذه الأرجوحة الكونية.

وصرنا نتذكر لنحيا. في البدء، مع الذاكرة كان التاريخ. ومع التماع الذاكرة كانت المحطات الكبرى والمفاصل التاريخية، وعلى دوران الحركة الدائمة، الرتابة كانت نقاطاً للذكرى.

نتذكر مطلع القرن الذي نشارف على نهايته. شعب يتململ تحت نير سلطة غاشمة شارفت على نهاياتها. شعبنا المقهور، شعبنا المغلوب على أمره، شعبنا الذي أسقطت عليه السلطنة العثمانية حالتها الانحطاطية، وردته إلى وضع بدائي منكمش، وأرغمته على الاكتفاء بسبل العيش الرخيص، ولم تترك له سوى المراقبة المجانية لشروق الشمس ومغيبها والمتابعة البليدة لكرّ الأيام الرتيب طيلة أربعة قرون من الزمن، شعبنا هذا، مع مطلع القرن العشرين بدأ يأمل بمكانة تليق بأصالته الحضارية. باكورة من رجالاته النهضويين، على درجة متفاوتة، حاولوا التفتيش عن مرتكزات نهضوية بحماس عفوي في الغالب وفذّ أحياناً. منهم من حاول تلمّس دفائن الذات المكبوتة، ومنهم من دخل إلى الذاكرة الحية على قدر ما بقي من الذكرة من حياة، ومنهم من جمع ما وصلت إليه اليد مما تبقّى من مراجع تراثية في متناول اليد، ومنهم من تلفّت من حوله عن قرب، ومنهم من جاب خبرات الأمم البعيدة يستطلع ما حجبته كثافة ستائر العثمنة، بعيداً كان أم قريباً.

وبغصّة نتذكر الخيبة في مطلع القرن العشرين. الخيبة اللاحقة لما كانت ترصده لأمتنا القوى المعادية المنتصرة على السلطنة العثمانية والمتنكرة لآمال شعبنا وأحلام طلائع رجالاته النهضويين. وكذلك الخيبات المتتالية لما تأسس فرضاً وزوراً على الأرض الطيبة وفي عتمة وجدان الشعب، حتى لم يعد لمطلع هذا القرن العشرين ما يحسد عليه نهايات هذا القرن العشرين.

نتطلع على خط أفقي لنرى خريطة سياسية غير مطابقة لساحة التفاعل التاريخي على كامل تراب البيئة الطبيعية. نراجع تاريخنا منذ ما كان جليّاً ومن قبل، ونتداول ظروفنا وأوضاعنا الحياتية الراهنة حتى من دون الرجوع إلى أيّ تاريخ أو أيّ خبرة سابقة أو أيّ ذاكرة متداولة فلا نستطيع أن ننخب حدثاً واحداً تاريخياً كان أم راهناً، مفصلاً حضارياً تراثياً كان أم معاصراً، تياراً ثقافياً قديماً كان أم حديثاً، تقليداً شعبياً غابراً كان أم مستمراً، أسطورةً، فلكوراً، لحناً موسيقياً، نمطاً غذائياً، نمطاً زراعياً، أعرافاً اجتماعية، زواجاً، مآتمَ، تقنية الصناعات الحرفية، تقنية التحويل الأولي للمنتوجات الزراعية، أسلوب عيش، قيماً حياتية، عقليةً شعبيةً… نراجع ونتدوال ونعيد المراجعة والتداول فلا نستطيع أن نجد ملمحاً واحداً من الملامح التي ذكرنا والتي لم نذكر، لأنها بلا حد ولا حصر واسعة وسع الحياة.

 قلنا لا نستطيع أن نجد ملمحاً واحداً توقف مرة في التاريخ عند نقطة يقف عليها اليوم مأمور جمركي أو مأمور جوازات على حدود كيان سياسي في الهلال السوري الخصيب……………. لم يترك لنا جلقامش أيّ شعور بأنه عبر بلاداً غريبة في مساره من أوروك إلى الساحل السوري كما أشعرنا أوليس هوميروس من تجواله بين الجزر اليونانية رغم الفارق الزمني البعيد. ولم تحتكر رقعة جغرافية من الهلال السوري الخصيب مطابقة لأيّ كيان سياسي راهن معابد البعل، أليست في تدمر أشهر وأكبر هذه المعابد؟ ولم تنفرد منطقة سورية بفولكور الدبكة، أليست طالعة من الرقص التموزي السحيق؟ حتى التبولة كما المجدرة ليست ولم تكن يوماً حكراً على جبل لبنان. وهل انحصرت الحركة السريانية – المارونية في أنطاكية أم كانت مسكونية بمعنى أنها كانت حركة مقاومة ضد هيمنة الإمبراطورية الرومانية الشرقية على الثقافة الشعبية الآرامية السورية فانطلقت من أنطاكية على خطين:عكس مسار العاصي حتى شمال جبال لبنان، وعلى ضفاف الفرات حتى الرها، كما انتشرت في الداخل السوري من بادية تدمر حتى تخوم الصحراء. وهل من لزوم للحديث عن العصر العربي الإسلامي؟

حدود رُسمت عشوائياً ولكن ليس مجانياً. ولقد بدأ الكدّ باكراً لإعادة تركيب المحطات التاريخية زوراً وتزويراً على قياس الوضع الراهن وبحسب الخريطة المرسومة، وكأن المجتمعات البشرية تحدد دورة حياتها على خطوط مسطرة رسام طوبوغرافي، وكأن واقع البيئات الحضارية الطبيعية خاضع لتقلبات الاجتهاد خضوع النظريات السفسطائية. ولقد توالى الكرّ بنظريات ساقطة علمياً وتاريخياً، ولكنها معلبة مسبقاً وجاهزة دوماً للحلول محل ما يسبقها إلى السقوط، من التزوير التاريخي إلى الزور الراهن. ولقد ركزت بلبلة المعرفة التاريخية على بلبلة شمولية المجتمع التاريخي حتى أصبح الطموح “الحضاري” مسقوفاً باكتفاء ذاتي قزم متأقلم مع سلطة الأمر الواقع المفروض وعلى حساب رحابة البيئة الطبيعية. ولا يمكننا تقدير نتائج خريطة سايكس – بيكو السلبية وما نتج عنها من عواقب على مصالح المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلا بالمقارنة مع ما يجري اليوم على الشريحة اللبنانية الراهنة لخريطة سايكس – بيكو.

إنّ اقتطاع المناطق، وفصل أحياء المدينة الواحدة، واستنهاض عصبية الزواريب، وجباية الرسوم المحلية الإضافية، وفرض المناهج التربوية الفئوية، وقطع طرق المواصلات والتواصل، وحواجز العبور، كل هذا هو صورة طبق الأصل لما حدث عند وضع خريطة سايكس – بيكو على الأرض وما رافق تطبيق هذه الخريطة. والانهيارات الكوارثية على الصعد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية النازلة بالكيان اللبناني تعطينا صورة واضحة، لأنها نافرة، عن النتائج السلبية التي نزلت بمجمل مصالح المجتمع السوري في كامل البيئة الطبيعية بعد إخضاعه لاتفاقية سايكس – بيكو. فليحاول التقدير من يدّعي القدرة على تقييم هكذا حصيلة. الفارق الوحيد كان في أسلوب العنف وكثافة التدمير. عنف بارد لتقسيم الهلال السوري الخصيب وعنف دموي لتفتيت الشعب في لبنان، تعطيل بطيء للبنى المجتمعية ولمصالح المجتمع الواسع في الحالة الأولى وتدمير فوري ومباشر في الحالة الثانية. ومن البديهي أنّ الفارق في الأسلوب ناتج عن الخصوصية النفسية لصاحب الأسلوب. فبعد أن قامت دولة إسرائيل على أشلاء الخريطة السياسية المقطعة أوصال الهلال السوري الخصيب، وبعد أن كانت المستفيد الوحيد من اتفاقية سايكس – بيكو، بادرت إلى إكمال تنفيذ مشروعها الخاص – مهما راوغت الآخرين، محلياً ودولياً، بأنها تتولى “مشاريع ذات منفعة مشتركة” – بادرت بأسلوبها الخاص وحسب نفسيتها الخصوصية.

هذا مما نراه عندما نتطلع أفقياً على مساحة البيئة الطبيعية. نعود فننظر عمودياً في ذاتنا التاريخية لنرى خريطة اجتماعية غير مطابقة لسياق التكامل الحضاري. وكما كان “الستاتوكو” الرابض ميدانياً على كامل تراب البيئة السورية الطبيعية يشلّ دورة الحياة الواحدة، ويضغط على شرايين النبض السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، فارضاً على الأرض الطيبة حالة انكماش مناطقي مشابهة تماماً للحالة التي تسود على الأرض السائبة الخاضعة لوضعية قطاع الطرق، كان “الستاتوكو” الآخر، الموروث من عصور الانحطاط والمحفوظ مجلّداً في البراد العثماني طيلة أربعة قرون طويلة، يعمل تقطيعاً في أوصال القافلة التاريخية الواحدة، ويقيم حواجز، وأحياناً متاريس، بين المراحل التاريخية المتتالية، بين سمات الحقب التمزامنة، بين الملامح المضيئة لمسار تلك الحقب وتلك المراحل، حتى بدا موروثنا الحضاري وكأنه أشلاء تراث تعرّض خلال مساره أو لاحقاً وبمفعول رجعي، لتتالي غزوات قطاع الطرق، الطرق الحضارية هذه المرة.

بليّتنا هذه المرة أننا منحنا فرادة بين أمم الأرض لا تحسد عليها الفرادة، بليّتنا في هذه الحالة تشليع الإنسان، الإنسان – المجتمع، الذات التاريخية، الروحية المجتمعية، كينونة الخلاصة الحضارية، وليس فقط التي عليها يدب.

نحن خلاصة تاريخية واحدة. لسنا مجموعة خلاصات تاريخية. كل فرد منا هو، بذاته ولذاته، خلاصة تاريخية واحدة، في أيّ بيت عاش ومن أيّ فخذ انزلق. كل فرد منا هو وريث طبيعي لمجمل الإرث الطبيعي على كامل البيئة وعلى امتداد التاريخ منذ مما قبل أن يكون جليّاً. وليس بإمكان أيّ قوة، أيّ هيئة، أي تشريع، أيّ عرف، أيّ قانون أحوال شخصية، أن يحرمه من أيّ حصة، أيّ بورة، أيّ كتاب، أي آرومة، ولا أن ينتزع منه أيّ حق من حقوقه الطبيعية في استثمار وتثمير كامل الإرث في مشاريع مستقبلية تطال أفق التاريخ الآتي. كل فرد منا هو، بذاته ولذاته، شيعي – ماروني – درزي – سنّي – أرثوذكسي… إلى كامل لائحة الحصص – المحطات الأساسية والمجيدة في سياق تاريخنا الطويل، والتي تبقى أساسية ومجيدة بنسبة ما تبقى في حضن التراث الحضاري العريق وضمن سياقه المتواصل.

من منا يرضى بأن يكون ابن حقبة محدودة في الزمن التاريخي، من منا يكتفي بأن ينتمي إلى ملمح برق في زمن غابر؟ أين الاستماتة في طلب الحقوق الطبيعية، في طلب الإرث الكامل، أين الجشع، أين الطمع، أين النهم؟ صفات، ولمرة واحدة ليست شوائب. هنا، فقط، فضائل هي.

من يجرؤ، من يستطيع ادعاء القدرة على تقدير الأضرار، على تقييم حصيلة الخسائر الناتجة عن اقتطاع شرائح تراثية والتفرد بملامح تراثية مبتورة على حساب سياق حضاري متواصل ومتكامل؟

هنا أيضاً، وكما حدث على الساحة الميدانية، بدأ الكدّ باكراً لإعادة تركيب الهيئة المجتمعية الواحدة زوراً وتزويراً على قياس الشرائح التراثية المبتورة. لماذا الاقتطاع ولماذا إعادة التركيب؟ هنا ازدوج الضرر الفظيع. تجاوز الاعتداء مسار الركب التاريخي والمحصلة الحضارية الطالعة منه فأصاب الشريحة التراثية ذاتها المقصود إبرازها وإعادة تركيبها ضمن إطار خلاب. أُخرجت السمكة المباركة من المياه الحيية وأُدخلت شكلاً مجمداً ضمن إطار ما كان قط خلاباً. واصطفت الأُطر نماذج عشوائية لأشكال مذهبية – طقسية جامدة. قيل، أعيد تركيب الهيئة المجتمعية. العوض بسلامتنا، بضربة واحدة قضي على التراث العريق وعلى مفاصله المجيدة وعلى الهيئة المجتمعية.

بعد عملية التجفيف والتحنيط هذه تجبهنا تساؤلات.

هل تقدر التيارات التراثية الطائفية والمذهبية بعد أن تتعرف على ذواتها الحضارية. هل تتذكربعد خطوط مسارها التاريخي؟ هل يعرف الأتباع ظروف النشأة التاريخية لهذه التيارات واستهدافاتها؟ هل هم اليوم في ظروف مشابهة؟ هل أنّ الدور التاريخي الذي لعبته هذه التيارات هو نفسه ما يستكمل اليوم؟ وإذا ما قدرت العودة من دار الخلد لكبار المؤسسين والرموز، هل يتعرفون على تياراتهم من خلال هؤلاء الاتباع؟ وأخيراً، هل يقبل المؤسسون الكبار، والرموز التي تمحورت حولها هذه التيارات، أن يُستغل إرثهم في لعب أدوار لا تمت بصلة إلى الغايات والمقاصد التي من أجلها أسسوا ومحوروا؟

نعود حيث بدأنا لنتذكر مطلع القرن العشرين. شعب يتململ، رجالات نهضويون يتلمسون سبل النهضة، كل شيء على ما يرام، ما من أحد يعرف ما كان يضمره القرن العشرين.

شاب رأى.

قال وأسس.

ومنذ مطلع القرن الذي نشارف على نهاياته، نحن في زمان أنطون سعادة. ما كشف عنه وما دعا إليه.

قالوا تجاوزه الزمن… وشككوا واستحوا وعدّلوا واستعاروا. كان ذلك عشية انفجار لبنان. ليتنا بقينا في مطلع القرن العشرين.

ونتذكر… صبيحة ضياع فلسطين وإعلان دولة إسرائيل: قتلوه.

من فلسطين إلى لبنان، من الجمر إلى الحرائق خلف ركام الدمار والموت والكوارث، يطلّ سعادة، وحيداً مهيباً واثقاً…

وأتذكر، قال لي رفيق: كنبتةٍ بريّة نزل عليها المطر.

عميد الثقافة: ميشال نبعة

————————————————

تنويه: نشر هذا النصّ في جريدة البناء – العدد 569 – السبت 7/3/1987.

ميشال نبعة

فنان مسرحي وكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق