عنوان الكتاب: أنطون سعادة. حياة، فكر، نضال
الكاتب: سعادة مصطفى أرشيد
دار الرعاة للدراسات والنشر
__________________________________
” أولئك الذين لا يتذكرون تاريخهم محكوم عليه بتكراره“
بهذه العبارة المقتبسة من كلام الفيلسوف الأمريكي جورج سانتيانا، يستهل الكاتب الفلسطيني سعادة مصطفى أرشيد بداية كتابه إشارة منه على أهمية معرفة تاريخ الأمة والصراعات التي عانت – ومازالت – تعاني منها، كي نستطيع فهم واقعنا وفك شيفرة ألغازه التي لم نستطع فهمها لولا منهج أنطون سعادة الذي استطاع ان يكشف ستار الحقيقة حول أرضاً وحضارة تاريخية يتشارك سكانها منذ مئات السنين وجداناً وكينونة تاريخية واحدة سواء أكان ذلك في الفلكلوريات الشعبية والأمثال والأهازيج أو العادات والقيم، فاستطاع أن يقدم لنا كسوريين أنموذجاً فلسفياً قومياً عظيماً نستطيع من خلاله أن نرجع لروح أمه واحدة كل ما تحتاجه قواعد وأسس متينة للبناء ومن ثم الانطلاق.
يدور مضمون هذا الكتاب في فلك أنطون سعادة، حيث تسلسل الكاتب، في القسم الأول، بأسلوب سردي تاريخي وكأنه يأخذ القارئ نحو رحلة أشبه بالفلاش باك” نحو بدايات سعادة ونشأته وأولى كتاباته وأعماله السياسية، وأولى الأسس التي بلورها في بيروت عام 1932 لتأسيسه للحزب السوري القومي.
مع شرح للظروف التي نشأ من خلالها الحزب والتي تمخض عنها أهم الوثائق الفكرية التي كتبها سعادة بصفتها الأساس الذي يشرح العقيدة القومية السورية وطبيعة النهضة الإصلاحية التي يهدف إليها من وراء تأسيس الحزب.
ثم يذكر الكاتب ظروف اعتقال سعادة وصراعاته ونضاله السياسي والفكري بعد خروجه من السجن خاصة بعدما تم كشف غطاء السرية عن الحزب، واتضاح مبادئه وإعلانها، حيث لم يواجه من سلطات الاحتلال الفرنسي فحسب؛ إنما تمت مواجهته من قبل مؤسسات سياسية ودينية تقليدية.. كما يوضح الكاتب الظروف التي أدت إلى إصدار أهم صحيفة فكرية عن الحزب القومي، وهي صحيفة النهضة 14/ أكتوبر/ 1937.
على صعيد آخر، يوضح الكاتب العراقيل التي واجهت الحزب بالذات من واقع القوى السياسيّة المتخلفة وذات المرجعيات العائلية الاقطاعية والطائفية، وتضافر التحديات التي أدت إلى رحيل سعادة واغترابه عن الوطن، لتبدأ رحلة نوعية أخرى ونضالات في الاغتراب، تجعل القارئ يعيش هموم سعادة ويسمع صرخاته الوطنية وهواجسه العاطفية وضغوطاته النفسية إزاء مسؤوليات الحزب ومبادئه وإيمانه العميق بقضيته، انتهاء بعودته إلى الوطن ومواجهاته مع الحكومة حتى إصدار مذكرة توقيف في حقه.
كما يعرج الكاتب على التوترات السياسية التي سبقت إعدام سعادة واستشهاده، خاصة موقفه من القضية الفلسطينية وجهوده المتفانية لتسليح الحزب وإشراكه في النضال الفلسطيني من منطلق مبدأه السامي الذي ظهر في خطابه في الأوّل من آذار عام 1949 حيث قال: (إن الصراع بيننا وبين اليهود لا يمكن أن يكون فقط في فلسطين، بل في كلّ مكان حيث يوجد يهود قد باعوا هذا الوطن وهذه الأمّة بفضّة من اليهود… إن لنا في الحرب سياسة واحدة هي سياسة القتال. أما السياسة في السلم فهي أن يسلم أعداء هذه الأمّة بحقها ونهضتها).
وبنهاية تراجيدية مؤلمة، يشير الكاتب الي تضافر المؤسسات القومية والاستعمارية والدينية بكافة طوائفها نحو تجريم أنطون سعادة وتكفيره والحكم على منهجه السامي بالإلحاد حيث صدرت الوثائق التي تصادق على إعدامه، انتهاء بشهادة الخوري إيليا برباري الذي حضر تنفيذ إعدام سعادة.
في القسم الثاني من الكتاب، يوضح الكاتب الأسباب التي أدت إلى سوء فهم سعادة ومنهجه، فأعادها إلى جملتين رئيستين من الأسباب أولاهما موضوعية فكرية تتعلق بصراعات الحزب مع أشرس وأعتى الخصوم في الساحة الشرقية، من المؤسسات الدينية والعشائرية البطريركية المحافظة الرجعية التي لا تمتلك ما يمكنها من فهم مبادئ انطون سعادة.
– والثانية تتعلق بذاتية الحزب وبنيته ومفهومية التنظيم، حيث كان سعادة يمتلك المنهج والرؤيا، وكذلك الكاريزما الطاغية، فلم ينجح في بناء رعيل يمثّل سدّاً بديلاً في حال غياب رأس الهرم الذي كان يتوقّعه وكان حاضراً في ذهنه على الدوام.
القسم الثالث من الكتاب، شرح في خلاله الكاتب فكر سعادة وعقيدته ومبادئه الثمانية التي تتعلق بالأمة السورية، ومبادئه الإصلاحية الخمسة.. كذلك مواقفه ومنطلقاته الفكرية على الصعيد التاريخي والسياسي والفلسفي والاجتماعي والثقافي، وأهم الأسس والقواعد النهضوية التي ارتآها سعادة لإعداد الأمة السورية لتستعيد سيادتها وقرارها..
القسم الرابع من الكتاب خصصه الكاتب لمفاهيم سعادة ونظرته تجاه: العقيدة، الأمة، القومية، الدين، السياسة، الديمقراطية، الفلسفة، الثقافة، الأدب، الموسيقى، الحب والمرأة.
حيث أوضح رؤيته وتعريفه لهذه المؤسسات الموغلة في كينونة المجتمع وذاكرته الجمعية، بالذات المؤسسة الدينية والسياسية، وما يتعلق بالمرأة والثقافة.. وكان من أهم ما ارتآه بشأن المؤسسة الدينية متمثلاً في قوله:
(إن فكرة الجامعة الدينية السياسية منافية للقومية عموماً والقومية السورية خصوصاً، فتمسك السوريين المسيحيين بالجامعة الدينية يجعل منهم مجموعاً ذا مصلحة متضاربة مع مصالح مجاميع دينية أخرى ضمن الوطن، ويُعرض مصالحهم للذوبان في مصالح الاقوام التي تربطهم بها رابطة الدين (كالفرنسيين والطليان وغيرهم). وكذلك تشبث السوريين المحمديين بالجامعة الدينية يعرض مصالحهم للتضارب مع أبناء وطنهم الذين هم من غير دينهم، والتلاشي في مصالح الجامعة الكبرى، المعرضة أساسياً لتقلبات غلبة العصبيات، كما تلاشت في العهد العباسي والعهد التركي. ليس من نتيجة للقول بالجامعة الدينية سوى تفكك الوحدة القومية والانخذال في ميدان الحياة القومية)
وتحدث كذلك عن موقفه تجاه الصهيونية، حيث أكد سعادة أن القضية الفلسطينية ليست مسألة يهود يريدون الإقامة في فلسطين، بل هي مسألة (انترنسيونية) متعلقة بمطامع المستعمر الغربي في الاستيطان في المشرق العربي خاصة بعد اكتشاف آبار البترول في الجزيرة العربية والعراق من قبل البريطانيين. فموضوع فلسطين يتعدى هجرة اليهود الغربيين ويختص في جزء كبير منه بسياسات الدول التي ساندت وسلحت هذه الهجرة لأغراضها ومصالحها، وبالتالي، اعتبر سعادة أن المواجهة يجب أن تكون قومية.
وكان من أعظم ما تبناه أنطون سعادة تجاه القضية الفلسطينية، أنه اعتبرها ليست قضية دينية، وبالتالي الجهاد الديني لا يقود إلا إلى مزيد من الخسارة ذلك أن الصهيونية ليست ديناً، بل هي مشروع قومي استعماري تحميه وتؤازره دول قوية لها مطامع ومصالح في الشرق الأوسط، وفي سوريا الطبيعية.
(وعلى رؤيته العظيمة هذه لا بد لنا نحن كفلسطينيين أن نعيد النظر بأسس النضال تجاه الصهيونية وأن ننتبه لكل محاولات أسلمة القضية الفلسطينية وحرفها عن مسارها النضالي الحقيقي)
القسم الخامس من الكتاب
خُصص لمبادئ الحزب الإصلاحية كدستور نهضوي شامل ينطلق من المبدأ الأساسي: سورية للسوريين والسوريون أمة تامة.
القسم السادس والأخير
خصص لتصفح مقالات وخطب أنطون سعادة ورسائله.
تلك المقالات التي كانت أشبه بدروس في الجغرافيا السياسية العربية، والتي استشرف سعادة من خلالها رؤيته بأن الأمة السورية ذات مصير مشترك في فلسطين والعراق ولبنان والأردن والشام والكويت وشبه جزيرة سيناء. وفعلا كانت هي مناطق المواجهة والاشتباك مع الإمبريالية الأميركية ومع المشروع الصهيوني التخريبي في سورية الطبيعية، وهي مناطق الصراع والاستنزاف الحالي في يومنا الحاضر.
وكذلك وضحت مقالات سعادة بعقلانية سياسية عميقة دور الملكية المصرية وآل سعود في لعب دور في مأساة فلسطين واحتلالها، كما تطرق من خلالها إلى معاهدات الهدنة مع الكيان الصهيوني، ليس باعتبارها خيانة، بل كجزء من المصالح السياسية لهذه الأمم العربية التي تتعارض مع مصلحة الأُمة السورية في سورية الجنوبية، حيث كان سعادة مدركاً للسياق التاريخي الذي أنتج هذه الأمم العربية، وكان يدرك الأطماع الاستعمارية في سورية.
وأخيراً، يختتم الكتاب برسالتين أحدهما، رسالة انطون سعادة لحبيبته، والثانية لرفيقته جولييت، تشي من خلالهما تلك العاطفة المبحوحة في أحبال أنطون النضالية، وتنهيداته المترادفة مع نفحات صراعاته الفكرية والوطنية.. التي انتهت بصوت كلماته المكتوبة وكأنها الرنين: “ولتحيى سورية”
نتابع الموقع بين الحين والاخر،