سيرجيل

نصٌ تأسيسي

ـ 1 ـ

نحن الآن في زمنٍ تتسارع التغيرات فيه.
العالم يتغير،
الإنسان يتغير،
والإنسانية كوجود وكمعنى تتغير.
يفرض هذا التغير ويؤكده عبارة من كلمتين: الأرضُ.. ضاقت.
ضاقت الأرض: بأحيائها، بسكانها، بإنسانها وحاجاته ومتطلباته ورؤياه وأحلامه وإرادته المصممة دائماً على تجاوز واقعه وذاته وآفاته.

ـ 2 ـ

انكمشت ثروات هذا الكوكب، اكتُشفت وأُحصيت واستُهلكت في معظمها، ووقعت أسيرة تحت سطوة ومقتضيات الاستراتيجيات الكبرى التي تتصارع وتتنافس على الاستحواذ على ما تبقى منها. ويتخذ هذا الصراع بعداً شمولياً، فلا يتوقف على المجال العسكري ـ وهو مرعب حتماً ـ بل يطاول مختلف الحقول التي تؤكد شموليته.
هو صراعٌ جيو ـ سياسي، عسكري مباشر وغير مباشر، لتأكيد السيطرة وإحكام النفوذ وتغيير الخرائط…
هو صراعٌ لإنجاز «أهلية التفوق» العسكري والاقتصادي والعلمي والتكنولوجي، إلى مختلف الحقول المرتبطة بحياة الإنسان ومستقبله ومصيره.
لذلك هو صراعٌ مفتوحٌ وواسع، تُستخدم فيه كل أنواع الأسلحة، وكل مناحي التمايزات، وكل منهجيات وأساليب المتغايرات بين أطرافه.
الإنسان على هذه الأرض، أينما كان، يقيم في بيئة هذا الصراع ويشترك فيه ويخضع لنواميسه ويستسلم لمقتضياته ويتقبل نتائجه.

ـ 3 ـ

يتغير المناخ الطبيعي على هذا الكوكب… برودة وصولاً إلى التجمّد أو سخونة وصولاً إلى ثقب الأوزون واختراقه… والإنسان، رغم ذلك، مستمرٌ في لعبة «التهام الطبيعة»، محكوماً بشهوةٍ لا يبدو أنها قابلة للإشباع!.
أوبئةٌ جديدة، مع فيروساتها، تنطلق من مكان ما؟، تنتشر وسع الأرض… أو تصّنع..؟ لا فرق، ثمة ما يشير إلى إمكانية انتقالها من كونها «سلاحاً طبيعياً ـ من الطبيعة» إلى كونها «سلاحاً مخبرياً مصنّعاً» في سياق صراع السيطرة والهيمنة وإن وصل إلى تهديد البشرية بالإفناء!.

ـ 4 ـ

التكنولوجيا: بثورتها، بتطورها المضطرد المتسارع، بآفاتها، بقدراتها الهائلة، بأسرارها وألغازها، باكتشافاتها، بما تعد به وتخبئه.. تفرض نفسها على واقع الإنسان وراهنه ومستقبله وتهيمن على خياله.
غيّرت التكنولوجيا حياة الإنسان في مختلف الحقول، الصناعية والثقافية وصولاً إلى الاجتماع البشري ومعناه، إذ تنتج البيئة الافتراضية الموازية (ربما البديلة) عن البيئة الواقعية التي يعيش فيها.
تطرح التكنولوجيا في أحد أهم مجالاتها: الذكاء الاصطناعي، مسألة تجاوز الإنسان لحدوده البيولوجية، وتقترح عليه، وربما ستجبره، الاندماج بها للوصول إلى انتاج كائن آخر ـ إنسان معدّل..!!

ـ 5 ـ

رغم هذا التغير غير المسبوق،
بل وربما رغم هذا الجنون!
رغم هذا التحديث في العناوين التي تشغل الإنسان الآن، تشغل المجتمعات والدول وتشكّل أسس استراتيجياتها، رغم ذلك تبقى هناك، مناطق في هذا العالم، كما هي أسيرة عناوينها القديمة التي لا تصدأ ابداً… بل تتجدد مع مرور الزمن… راسخة مقيمة فيه.

ـ 6 ـ

الهلالٌ الخصيب، مثال نموذجي عن تلك المناطق. بالصراعات الجيو سياسية العالمية ـ الإقليمية الشديدة التعقيد التي تتواجه فوق منصّته، بالصراع مع المشروع الصهيوني الذي تأسس وقام في جنوبه منذ أكثر من قرن، وأعلن دولته في 1947..
بفشل دوله / كياناته السياسية في صياغة ( مشروع الدولة ) منذ تأسست تحت عنوان الاستقلال عن الاستعمار…
ببناه الاجتماعية المفككة طوائف ومذاهب وإتنيات…
باختطافه وتغريبه عن ذاته الحضارية وتاريخه الأوليّ وقمعه وفرض رواية تاريخية عليه أوصلته إلى هذه الحالة التي لا مثيل لها…
بشيوع الثقافة الإلغائية فيه التكفيرية ـ الدينية والسياسية في آن..
بفشل تجاربه التحديثية وتعثّر برامجه النهضوية وحركاته التغييرية وأحزابه وتياراته العلمانية وو…
بالخسارات الكبرى التي مُنيت فيها بنيته الاجتماعية ـ الديمغرافية.. بثقافاته المتواجهة / المتذابحة،
بثرواته الضائعة والمهدورة،
بأراضيه المسلوبة شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً،
بهجرة نخبه وعلمائه
بفوضى القيم التي تسوده والفساد الذي يستشري فيه.
الهلال الخصيب: بهذا وغيره، هو الآن وجود مشوّه جيو ـ سياسياً، ثقافياً، اجتماعياً… وأخلاقياً.
رغم ذلك، فيه مقاومة ما…
فيه من لازال يؤمن بأن هذا المكان التأسيسي لتاريخ الإنسانية، قادر على النهوض مجدداً، ولا يستحق أن يموت كواقع وكمعنى.

ـ 7ـ

سيرجيل: موقعٌ في هذا العالم.

الأول من حزيران 2020

نزار سلّوم مؤسس سيرجيل

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق