مرَّ قرن على ولادة أنطون سعادة، والإشكاليات التي طرحها، والمعضلات التي واجهها هي…هي، لم تتغيرّ ولم تتبلور، فكأن الزمن مرّ ونحن غافلون عنه. لقد استشرف أنطون سعاده المستقبل ودافع عنه، لأنه رأى أن خير وطنه يعتمد على القيام بهذه النقلة النوعية من الدولة التقليدية إلى الدولة الحديثة. والانتقال إلى نمط الدولة الحديثة، الوطنية/القومية خطوة الزامية كي تستطيع شعوب هذه المنطقة البقاء والازدهار، فهو رأى بوضوح أننا في حال رفضنا الولوج إلى العالم الحديث، سنقع في التقوقع والانحسار ثم الانهزام. وهو يأبى أن يرى بلده في حال اضمحلال وانكسار.
الدولة القومية هي الدولة الحديثة التي تخطتّ أنماط المجتمع التقليدي، فهذا الأخير كان يرتكز على تجمعات بدائية، عشائرية ثم دينية مع ما رافقها من إمبراطوريات أو سلطنات. وبرز في القرن التاسع عشر شكل جديد من أشكال المجتمع، قائم على واقع وحالة الانتماء إلى الوطن، إلى الأرض التي يعيش عليها شعب معين. وفي هذا الوضع الجديد يصبح الانتماء ملازماً للمتحدّ، أي أن هوية الفرد تعود إلى مكان إقامته وليس إلى دينه أو عشيرته أو قبيلته.
المنطلقات الاساسية لفكر سعادة
يستند سعادة في نظرياته وفكره وأبحاثه وأعماله على المنطلقات الأساسية التالية، والتي من دونها لا قيمة لأعماله وتراثه:
أولاً، الارتكاز على العلم كمصدر للمعرفة، لا على الوحي أو الحدس؛ وبالتالي، على جميع الباحثين الذين يريدون دراسة فكر سعادة اللجوء إلى المنهجية العلمية لدعم أو تفنيد مقولاته ونظرياته.
ثانياً، يؤكد سعادة أن الحقائق العلمية هي حقائق نسبية لا مطلقة، أي أن ما نحسبه حقيقة اليوم حسب الأبحاث العلمية، قد يتغير تبعا لحقائق أو اكتشافات جديدة تنقض ما قبلها.
ثالثاً، الملتزمون بفكر سعادة، مرتبطون بالإطار العام الذي حدده، ألا وهو بناء الدولة-الأمة في نطاق سورية الطبيعية أو سوراقيا، وكل ما عدا ذلك قابل للنقاش والتعديل بحسب تغير الأوضاع، لأن سعادة يؤمن بالتطور.
رابعاً، أنطون سعادة لم يلق كلامه انطلاقاً من فراغ، بل إن فكره كان مرتبطاً بالأحداث المحلية والاقليمية والدولية، وانتزاع الجمل من مكانها وزمانها وإعطائها صفات مطلقة، يتنافى مع فكر سعادة، لذلك يجب الحرص حين مناقشة أفكاره تدوين السَنة التي كُتبت فيها، كما المناسبة التي دعت إلى موقف أو فكرة محددتين.
خامساً، اعتبر سعادة أن النقد الذاتي أداة ضرورية لتصحيح أخطائنا: “يجب أن نكون جريئين فنعترف بأغلاطنا وندرسُ أسبابها جيداً إذا كنا نريد أن نحافظ على كرامتنا القومية، وان نتقدم مع الأمم الحية. أما نسيان الاغلاط وتجاهلها، فلا نتيجة له غير البقاء حيث نحن”. (انطون سعادة، الآثار الكاملة، ج 8:18).
أخيراً، كل من يتشبث بحرفية النص، والتشديد على المسلمات، ورفض النقاش والتغيير، يكون مناهضاً للمنهجية العلمية التي ارتكز عليها سعادة، ورافضاً لمسار التطور والتقدم في المجتمعات الانسانية.
مفهوم الديمقراطية
انطلق سعادة من أن الدولة الديمقراطية “هي دولة قومية حتماً، فهي لا تقوم على معتقدات خارقة، أو إرادة وهمية، بل على إرادة عامة ناتجة عن الشعور بالاشتراك في حياة اجتماعية اقتصادية واحدة. الدولة أصبحت تمثل هذه الارادة، فتمثيل الشعب هو مبدأ ديمقراطي قومي لم تعرفه الدول السابقة. الدولة الديمقراطية لم تمثل التاريخ الماضي، ولا التقاليد العتيقة، ولا مشيئة الله، بل مصلحة الشعب” (انطون سعادة، الاعمال الكاملة، الجزء الثالث: نشوء الامم، صفحة 111، العام 1938)، ذلك أن الديمقراطية تُسبغ على سكان أرض معينة، ودون أي استثناء، حق المواطنة، كما أنها ترسخ مبدأ المساواة الذي يساوي بين جميع المواطنين القاطنين المتحد بمعزل عن جنسهم، وعرقهم، ودينهم، ومعتقدهم.
المواجهة الأولى في تاريخ البشرية كما يراها سعادة كانت بين الإرادة الشعبية والإرادة الإلهية المتمثلة برجال الدين الذين كانوا يتولون زمام الحكم. فالدولة الدينية لا تستطيع أن تكون دولة ديمقراطية لأنها تفرق بين المواطنين فتعطي الأفضلية والأولوية لمعتنقي دين أو مذهب معين على حساب المواطنين الذي يعتنقون ديناً آخر، كما أن الدولة الدينية تعتمد على الشرع الديني كما يفسره رجال الدين، ولا تسمح للشعب في اختيار قوانينه، ويمسي “رعايا” عليهم الانصياع لأحكام إلهية نادراً ما تتغيرّ. بالإضافة إلى ذلك، مجرد نشوء دولة دينية، يقود إلى بروز أقليات دينية مختلفة تحتدم في صراع مع الأكثرية الدينية ما يتسبب بحروب داخلية مدمرة.
الدولة الدينية إذاً، عاجزة عن تطبيق النظم الديمقراطية، وخاصة مبدأ المساواة بين المواطنين، لذا، وفي صراع البشرية عبر التاريخ، تم تجاوز الدولة الدينية من قبل الشعب الذي أراد أن يختار نظامه، وممثليه، وقانونه. يصف سعادة هذا التطور: “في النزاع بين الإرادة القومية العامة، وبين السلطة المتحدرة من الدين أو من الله، ابتدأت الإرادة الشعبية تربح وتزيد نفوذها على سلطة المؤسسة الدينية ومبادئ الحكم بمبادئ الله لا الشعب. والانتصار الفاصل في النزاع هو الذي حدث في الثورة الفرنسية ومن الثورة الاميركانية، فنشأت فكرة الديمقراطية العصرية التي تعني في الأخير تمثيل الإرادة العامة في الحكم، أي جعل الإرادة العامة للشعب أو للأمة، الإرادة النافذة ومرجع الأحكام. وقد انتصر هذا المبدأ انتصاراً نهائياً، ولم تتبقَ سوى جماعات قليلة، ضعيفة الشأن لا تزال تعمل بالمبادئ السابقة، مبادئ السلطة الدينية“. (المحاضرات العشر، المحاضرة السابعة، ص. 115)
الديمقراطية التعبيرية كحالة استثنائية
طرح أنطون سعادة هذا الموضوع لأول مرة في الارجنتين، وفي خضم استعار الحرب العالمية الثانية التي قسمت العالم إلى محورين: جبهة “دول المحور”، ومركزها روما-برلين، والتي بنت ايديولوجيتها على مبادئ الفاشية والنازية؛ و”محور الحلفاء” الذي جاهر بتطبيق النظم الديمقراطية. وكانت دول المشرق العربي تقبع تحت الانتدابين البريطاني والفرنسي. هنا، نظر سعادة إلى الديمقراطية من وجهتي نظر: مفهوم الديمقراطية النظري من جهة، ومفهومها العملي المنبثق من تبني محور “الحلفاء” الغربيين لها: “ان الذين يتبجحون بعطف برلين أو رومة عليهم، لا يفرًقون عن الذين يتبجحون بعطف لندن أو واشنطن أو باريس عليهم. وأنصار الديمقراطية من السوريين لا يختلفون بطبيعتهم عن أنصار الفاشستية والاشتراكية القومية” (انطون سعادة، الاعمال الكاملة، الجزء السابع، صفحة 75، عام 1944). وبالتالي، اعتبر سعادة أن وقوف كيانات “سوراقيا” إلى جانب الدول الحاملة لواء الديمقراطية، أو الدول الداعمة للنظام الفاشستي، ليس إلا التحاقاٍ بالغرب وخضوعا لاستعماره. (راجع الاعمال الكاملة، الجزء: 9: 90، 149، 182، 186). في هذه الحالة طلب سعادة من القوميين “تجنب أي تأييد مطلق لرومة-برلين، والقيام بحملة على فرنسا وبريطانيا بناء على وجهة نظر سورية قومية اجتماعية، لا من وجهة التضارب العقائدي أو النظري بين الجهتين “الكلية” (totalitarian)، والديمقراطية.
أمام هذا الواقع، فتش سعادة عن مخرج يحمي الأمة السورية من تناطح الجبابرة الذين انقسموا إلى فريقين، وكل فريق يحتكر نظرية تدعم فتوحاته العسكرية، فتفتقت فكرة “الديمقراطية التعبيرية”، ومدلولها “التعبير عن الارادة العامة” بدلاً من “تمثيل الارادة العامة”، فيحل الفرد مكان الشعب للتعبير عن مصالحه (الاعمال الكاملة، الجزء 4: 37-38 العام 1940، والجزء 7: 113). وأغلب الظن، أن هذه الفكرة أتته نتيجة إقامته في الارجنتين حيث التراث اللاتيني يشدد كثيراً على صورة “البطل المنقذ” للأمة وللشعب.
إذاً، طرحَ سعادة موضوع الديمقراطية التعبيرية كمخرج للقوميين السوريين وللشعب “السوراقي”. كان للخروج من الاصطفاف الغربي الاستعماري في كلا الجبهتين والنظريتين، وبما ان المستعمر الذي يدعي الديمقراطية جاثم على أرضنا، لم يرَ سعادة بداً من طرح موضوع “التعبيرية”. فهو يرفض رفضاً قاطعاً الهيئات التمثيلية من تنفيذية وتشريعية في سوراقيا، والمسماة “وطني” لأن القرار ليس في يدها، بل في يد الأجنبي.
الديمقراطية التمثيلية
إن خط سعادة الاساس هو الديمقراطية التمثيلية منذ بدايات مقالاته في الثلاثينات من القرن الماضي، وتابع هذا الخط مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وأهمل اهمالاً كليّاً “الديمقراطية التعبيرية” لأن دول سوراقيا تحررت من الاستعمار، وفُتح الباب أمام الصراع الفكري والسياسي في المنطقة، كما وجد أنَّ التاريخ قد تخطّى هذه المقولة، فاستوعب التحولات وسار مع تطور المعطيات العلمية دون أن يتشبث برأي لم يعد له مكان، فأفكار سعادة لا تنبع من فراغ، بل هي محصلة دراسة عقلانية لتطور المجتمعات وتقدمها، لأن الانتصار النهائي لأية فكرة ليس مقتصراً فقط على قوتها المنطقية وصحتها، بل على مدى انتصارها على أرض الواقع. فحين انتصرت جبهة “الحلفاء” الغربيين، انتصرت معهم أيضاً فكرة الديمقراطية التمثيلية، وأصبحت الشعوب كافة تطالب بها، وسقطت مقولات الفكر الفاشي والنازي من مجرى التاريخ الحديث، وبعد عودة سعادة إلى لبنان عام 1947، سئل من أحد الصحافيين ما هو تصوره حول شكل الأمة السورية المقبلة، فأجاب: “جمهورية برلمانية ديمقراطية وعلمانية قبل كل شيء” (الآثار الكاملة، ج 14: 64)، ما يعني أنَّ سعادة، وبعد مراقبة مسار الأحداث العالمية، رأى أن لا مجال للعودة عن الدولة الديمقراطية العصرية التي هي على شكل جمهورية، يكون فيها المجلس النيابي ممثلاً للشعب. وشدد على التمسك بخصائص الايديولوجية الفكرية للديمقراطية ومنها احترام حقوق الإنسان، والحقوق المدنية والسياسية، فكان سباقاً في المطالبة بحقوق الإنسان وذلك منذ العام 1935 حين دعا الانتداب الفرنسي إلى احترام حقوق المواطن قائلاً: “في نظام ديمقراطي كالنظام الذي يقال أنه سائد في هذه البقعة، هنالك حقوق مقدسة هي حقوق العضوية التي تبيح لكل عضو من أعضاء هذه الجمعية، التي هي الدولة اللبنانية، حق التفكير، وحق الاعتقاد، وحق نقل الاعتقاد، وحق التصريح بالآراء وحق الاجتماع للمداولة في العقائد والآراء، وحق تكوين رأي في الحكومة وأشكالها، ونقل هذا الرأي إلى عضو أو أعضاء آخرين، فيفسح المجال أمام الشعب للتطور نحو أفضل النظم وأقوم المبادئ وأصلح الحالات. فإذا جرى تدخل من قبل الحكم بقصد تعطيل هذه الحقوق المقدسة، كانوا طغاة ظالمين يدوسون الحقوق عينها التي أوصلتهم إلى الحكم”. (الاعمال الكاملة، الجزء 2: 356). ولقد حرص سعادة أن يقوم حزبه بتعليم أنصاره وأعضائه مبادئ الحقوق المدنية، “ووضع قواعد نظام جديد يقيم العدل الاجتماعي والاقتصادي” (الاعمال الكاملة، الجزء 260:4). فرأى أن الحكومات في سوريا ولبنان تهضم هذه الحقوق المدنية: “فلبنان ليس ملكاً خاصاً لبعض سكانه بل هو حق عام لجميع أبنائه الذين يجب أن يكونوا أحراراً للتفكير في مصيرهم، في الاعتقاد الذي يجدونه أفضل لحياتهم “(الآثار الكاملة، ج 59:6)، كما انتقد سعادة ممارسات الحكومات التي تتصرف وكأنها الدولة “ليست الحكومة الدولة، فقد دُفن هذا المبدأ مع لويس الرابع عشر (ملك فرنسا) وهو يرقد إلى جانبه بسلام”. (الآثار الكاملة، ج 50:3).
——————————-
تنويه: كتبت الدكتورة صفيّة أنطون سعادة هذا المقال في العام 2004، بمناسبة مرور مائة سنة على ولادة والدها (1904).
———————————-
في المسألة نفسها، يمكن مراجعة مقال نزار سلّوم بعنوان: سانتياغو / بيروت (في سبيل الخروج من متاهة الديمقراطية). رابط المقال: sergil.net
2 تعليقات