[في نهاية كتاب موسيقا النقد، لمؤلفه نزار سلّوم، ثمة دعوة مفتوحة للمفكرين والمهتمين، للمساهمة في مقاربة الفكر القومي الاجتماعي، والنهضة والحزب، من مِنَصة الأمة وحاجتها لهذا الفكر ولهذه النهضة ولهذا الحزب.
الأمين سميح ديب، وهو أستاذ جامعي ومتخصص بالفلسفة، له كتاب مرجعي بعنوان: العنف الصهيوني، إضافة للعديد من الأبحاث والدراسات، قرأ كتاب موسيقا النقد واستوقفته جملة نقاط وجد أنها تنطوي على إشكاليات، لا بدَّ من مقاربتها والحوار حول مضمونها.
ينشر سيرجيل مقالة الأمين سميح ديب، التي تشكل إضافة لكتاب موسيقا النقد مادة يمكن التأسيس عليها، في بناء حوار فعّال منتج وخصب وقادر على الوصول إلى خلاصات جديدة، فضلاً عن إنتاج مناخ فكري/ فلسفي، نفتقد وجوده راهناً.]
سعدت واستمتعت بقراءة كتاب (موسيقا النقد) للأمين نزار سلّوم، الذي كما أعهده: ثرياً برؤيته، عميقاً في بحثه، دقيقاً في تعابيره، ومصيباً في توجهاته.
في قراءتي هذه لفتت انتباهي بعض العبارات وشغلت ذهني وتركتني مع العديد من الأسئلة التي أرغب في طرحها والمشاركة في تناولها ومقاربتها.
” لا شك أن وصف أنطون سعادة بالمفكر والفيلسوف قد أغرى العديد من مريديه…” – ” فإنهم في الوقت نفسه يعيدون إنتاج سعادة على نحو استبدادي …ويحاصرونه في صورة تؤطره كفيلسوف أو مفكر، وهي صورة مأخوذة على نحو افتراضي حتما “.
” سعادة لم يكن كاتباً، ولا مفكّراً، ولا باحثاً، ولا فيلسوفاً … هذه مزايا كان يفعّلها عندما تحتاج القضية التي كرس حياته لأجلها … هذه وغيرها صفات جزئية للصفة الأساس ” الزعيم “.
” لا يبدو سعادة مهتماً بإظهار نفسه كمفكر، بل يبدو مهتماً بإظهار ” قضية بلاده “. مما يعني أن صفته الرئيسية العامة هنا كمؤسس تتجاوز صفته كمفكر. هذه الصفة العامة المتعددة الأبعاد تعّبر عنها كلمة ” الزعيم “.
هذه العبارات، الواردة في سياق البحث، استوقفتني وأشكلت علي، لا بل صدمت بعض القناعات التي كنت أعتبرها يقينية وثابتة. إلاّ أن هذا الإشكال لم يطل كثيراً، لأني مقتنع تماماً أنَّ الأمين نزار قادرعلى حله وإيضاحه والإجابة على ما أحمل من أسئلة.
سأحاول قدر الإمكان أن أوجز ما أنا مقتنع به، بصيغة تساؤلات ومقاربات لهذه الإشكاليات:
– أعتقد بأن أنطون سعادة من المفكرين والفلاسفة القوميين المتميزين. صحيح أنه لم يهتم بإظهار نفسه (كشخص) مفكر أو فيلسوف ولكن اهتمامه كان واضحاً وجلياً في تأكيد وإظهار حقيقة فلسفته وعالميتها. لم يهتم بإظهاراسم البَنّاء ولكنه كان شديد الاهتمام بتأكيد وإظهار ماهية البِناء وعظمته ومتانته وقيمته. أما اسم وعظمة البَنّاء فهي تحصيل حاصل تشير إليها عظمة البِناء ذاته. وبهذا نجد اهتمامه ونفهم اعتراضه على من استخدم مفهوم المدرحية دون الإشارة لمن أوجد هذا المفهوم، وكذلك اعتراضه على الرفيق جورج عطية لتصنيفه للكواكبي ضمن النهضويين، وإغفال ذكر أن حضرة الزعيم وهو الذي ميّزه وأدرجه في هذا الحقل.
(كاتب، مفكر، باحث، فيلسوف، مؤسس، قائد، زعيم). أعتقد أن مجمل هذه الميزات ” الصفات ” تتماهى وتتكامل مع بعضها البعض بحيث تشكل الأسس الفكرية والفلسفية والمرجعية الصلبة لها جميعاً ومن ضمنها ميزة ” الزعيم “. وعلى هذا فأنطون سعادة كان بجدارة مفكراً وفيلسوفاً متميزاً وزعيماً متألقاً.
من جهة الفلسفة وتساؤلاتها:
- أليست الفلسفة ذلك البحث العميق عن (الانسان – المجتمع) وحياته ” نشوءً وارتقاءً وقيماً “؟.
- أليست الفلسفة نظرة عامة للحياة والكون والفن نفهم من خلالها هذا الكون ونفسّر هذا الوجود ونجيب على ما يطرح من أسئلة ؟.
- أليس التفلسف فعلاً عقلياً ممتعاً غرضه وغايته فهم الحياة وبالتالي ” فن حياة ” ؟.
أين موقع الفلسفة المدرحية من هذا؟
يمكنني أن أقول، مع العديدين، إن أنطون سعادة من أكثر المفكرين الاجتماعيين اهتماماً (بالإنسان – المجتمع) وأكثرهم تأكيداً على المنهجية الانشائية ” النهضوية “. وأنا هنا مقتنع كل الاقتناع بأن وضع العقيدة القومية الاجتماعية وحملها كرسالة بغرض انتصار المجتمع وتجذير أسس ارتقائه وتطوره، هو عمل فلسفي في الصميم.
فحضرة الزعيم نفسه يؤكد أن العقيدة القومية الاجتماعية بأسسها وتعاليمها ومبادئها والتي تنطلق منها نهضته القومية الاجتماعية، ما هي إلا “إجابات عن أسئلة علمية فلسفية عميقة ” وارتسامات لمنهجه الفكري والفلسفي. ” فقواعد الفكر التي نشأت عليها النهضة القومية الاجتماعية وتميز بها الحزب السوري القومي الاجتماعي هي قواعد فلسفية … عامة ثابتة بالمعنى الفلسفي المطلق”.
فما المانع أن يكون سعادة هو المفكر والفيلسوف المتميز والزعيم المتألق أيضاً؟
صحيح أن حضرة الزعيم لم يهتم بتمييز نفسه ” كفرد ” مفكر أو فيلسوف، لكن الواضح أنه في معظم كتاباته وخطبه، ومنذ بدء مسيرته لم يترك فرصة أو مناسبة إلاّ وأكد فيها وبحماس اهتمامه وتمييزه لفلسفته، كفلسفة وكنظرة عامة للحياة والكون والفن متقدمة ومرتقية، ليس لسورية فقط بل للبشرية جمعاء. مشدداً ومؤكداً أنها الترياق الجديد الذي سينقذ العالم مما سببته الفلسفات التقليدية.
أليس هذا جوهر وصلب عمل الفلاسفة المتميزين؟
واهتمامه هذا، كما هو معروف عنه، بعيد كل البعد عن الترفع أو الترف، بل هو من موقع تأكيد فلسفته كحقيقة واقعية موضوعية وكضرورة حضارية عالمية، دون أن يضعف أو يلغي اهتمامه ” بقضية بلاده “.
ففي المحاضرة الأولى من المحاضرات العشر أعلن حضرة الزعيم:” علينا أن نفهم فلسفة الحركة القومية الاجتماعية لندرك كيف يمكن أن نعالج الأمور”. وهو أيضا من أكد ” أن لا إنقاذ لهذه الأمة ولا كسب لهذا الصراع بين مبادئ الحياة الجديدة ومبادئ الحياة الجامدة إلا انطلاقاً من نظرة عامة جديدة للحياة والكون والفن. نظرة إبداعية تغييرية ترتكز على الحقيقة الأساسية ” المجتمع “.
وباهتمام كبير وشعور غني بالمسؤولية ليس تجاه بلاده فقط بل تجاه العالم والبشرية جمعاء استشرف ” إن هذا العالم يحتاج اليوم الى فلسفة جديدة تنقذه من تخبط الفلسفات الجزئية الأحادية. وأن هذه الفلسفة التي يحتاجها العالم هي فلسفة التفاعل البنّاء المّوحد الجامع للقوى الانسانية. هي الفلسفة المدرحية التي تقدمها نهضتكم “.
وفي اجتماع قومي في المهجر عام / 1939 / في بيونس أيرس أعلن ” أن سورية تحمل الى العالم رسالة اجتماعية ” المدرحية ” … في هذه الفلسفة يجد العالم الأساس الوحيد لإنشاء نظام جديد تطمئن إليه الجماعات الإنسانية كلها. وترى فيه إمكانيات الاستقرار السلمي واضطراد الارتقاء في سلم الحياة الجديدة “.
ونلحظ أيضاً إظهاره وتمييزه لفلسفته من خلال اهتمامه بوجود مفكرين قوميين اجتماعيين يدرسون الفلسفة المدرحية ويتخصصون بها. وهذا واضح من خلال مخاطبته للرفيق هشام شرابي ” أفضل اكتفاءك من التخصص في العموميات بما وصلت اليه لتنصرف الى التخصص في فلسفتنا وقيمنا والعمل في ثقافتنا “. كذلك يظهر اهتمامه في رده على الرفيقين غسان تويني ويوسف الخال بقوله ” انكما تمثلان اعتقادات ليست من القضية ولا من نظرة الحركة وإيمانها. بل من أفكار وتأثيرات لا علاقة لها بالحركة القومية الاجتماعية وفلسفتها وعقيدتها وروحها “.
وفي مقالة له في جريدة الزوبعة عام / 1942 / بعنوان ” العقيدة السورية القومية الاجتماعية ” جاء فيها ” إنَّ العقيدة السورية القومية الاجتماعية تقدم نظريات جديدة في الاجتماع بأشكاله النفسية والاقتصادية والسياسية جميعها ….. نظرة فلسفية شاملة تتناول العالم وشؤونه الاجتماعية والاقتصادية”.
هل مجمل هذه الأمثلة كانت مجرد أقوال قالها حضرة الزعيم ؟ ونحن الواثقون كل الثقة أنه لم يقلها ترفعاً ولا ترفاً بل قالها تأكيداً للحقيقة من موقع المفكر والفيلسوف الجاد والمسؤول تجاه أمته والعالم، والحريص كل الحرص على وضع أسس وقواعد جديدة تخدم ارتقاء أمته والبشرية جمعاء وتكون قاعدة متينة لحياة اجتماعية أرقى وأغنى وأفضل.
وهنا نسأل:
أليست الفلسفة هذه الرؤية الواحدة والنظرة الشاملة بأسسها وقواعدها الجديدة للنشوء والتطور والارتقاء الإنساني؟ وهل الفلسفة المدرحية دون هذا الأمر؟ ثم أليست أهم مهام ” الزعيم ” المتألق ومصدرغناه تجذير هذه الأسس وبناء الصروح على هذه القواعد؟
حين نتمعّن في كتابات حضرة الزعيم وخطبه وأقواله نجد أن الفلسفة المدرحية فلسفة مكتملة قائمة بذاتها. لا تخصّ الأمة السورية فقط بل هي بمثابة تركة إنسانية تضج بنبض كوني تتجاوز القوميين الاجتماعيين أبناء عقيدته وحدود بلاده. ” فهي لم تأت سورية فقط بل أتت العالم أجمع “, فمعظم طروحاته وتطلعاته هي طروحات وتطلعات عالمية متقدمة ومرتقية، تعدّت عصره واستوعبت مشكلات الاجتماع البشري لتشمل الانسان أينما كان فرداً كان أم مجتمعاً.
وللتعريف بالفلسفة المدرحية وتحديد موقعها بين الفلسفات لا بد من استعراض موجز لكل من الفلسفتين التقليديتين ” المادية والمثالية “.
المادية والمثالية (عرضٌ موجز):
تبني الفلسفة المادية عمارتها الفلسفية على قاعدة أن المادة هي أساس هذا الوجود، وأن جميع مظاهر هذا الكون وأشيائه ترجع الى أساس واحد وحيد هو المادة، وأنها الجوهر الحقيقي
وقاعدة استمرار العمران والارتقاء الإنساني، وأن كل ما نراه وما نسمعه وما نحسه هو نتاج ما يطرأ على المادة من تغير وتحول، وأن العالم مكتف بذاته لا يحتاج الى رب يخلقه ويعتمد عليه في وجوده، وأن لا وجود لروح مستقلة قائمة بذاتها، فالمادة هي التي تولّد الوعي، وما العقل إلا شكل من أشكال المادة، وأن الأفكار هي إحدى تجليات المادة. فالعالم المادي الذي ننتمي اليه والمدرك بالحواس هو الواقع الوحيد، وأن ضميرنا وفكرنا لا ينتجان عن الروح لأن الروح عينها هي نتاج أعلى للمادة.
بالمقابل، جاءت الفلسفة ” الروحية أو المثالية ” لتقول: إنَّ العقل هو جوهر هذا الوجود أو هو الوجود الحقيقي لا المادة. وهي تردّ كل وجود الى الفكر الذي تعتبره الموجه الوحيد لحركة المجتمع والتاريخ وأساس كل ارتقاء انساني، وتنكر وجود أية مادة مستقلة عن الفكر كما ترهن وجود المادة بقوى الوعي والادراك، وأن لا وجود للمادة إلاّ من جهة ما هي مدركة، فالوجود لديها هو الادراك، فإذا لم يكن الشيء المادي مدركاً لم يكن موجوداً.
كما تنكر أي وجود مادي مستقل عن الفكر، وتعتبر أن كل ما هو موجود خارج الوعي لا يمكن أن يكون موجوداً. كذلك تقول بأن إدراك الأشياء لا يتم بالحواس بل بالفكر وحده، وهذا يستوجب أن تكون الأشياء ذات طبيعة فكرية. فالفكر هو الذي يعطي للمادة صورتها ويعرف قوانين تغيرها ويسيطر عليها.
بقيت حالة الصراع على أشدها بين هاتين الفلسفتين، إلى أن جاء سعادة بفلسفته المدرحية التي فرضت نفسها ليس كفلسفة جديدة فقط، بل ومتميزة أيضاً ومتجاوزة ومناقضة لهاتين الفلسفتين ” داعيا العالم الى ترك عقيدة تفسير التطور الإنساني بالمبدأ الروحي وحده، وعقيدة تفسيره من الجهة الأخرى بالمبدأ المادي وحده، والإقلاع عن اعتبار العالم ضرورة حرب مهلكة بين القوة الروحية والقوة المادية. وإلى التسليم بأن أساس الارتقاء الإنساني هو أساس مدرحي ” مادي – روحي ” وأن الإنسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الأساس وتبني صرح مستقبلها عليه “.
الفلسفة المدرحية وموقعها (عرض موجز):
بداية، لا بدَّ من إيضاح أمرهام وأساسي هو أن المدرحية ليست دمجاً بين كلمتي ” المادة والروح “، وليست تركيباً فلسفياً أو اتجاهاً وسطاً بين اتجاهين يفسران طبيعة الوجود. كما أنها ليست اعترافاً ضمنياً بمفهومي ” المادة المطلقة المستقلة والروح المطلقة المستقلة “، أي ليست توفيقية ولا وسطية. بل هي وحدوية تعبر عن وحدة الروح والمادة في اتحاد صميمي واحد متماسك.
هي ” المدرحية “: منهج ورؤية فلسفية شاملة في النشوء والتطور والتغير الاجتماعي. هي نظرة فلسفية جديدة للحياة والكون والفن. مكتملة قائمة بذاتها ولها منهجها وتتجه لتكون ضرورة حضارية وعالمية، ناتجة عن ادراك دقيق لبنية الوجود الاجتماعي كمركب مدرحي ” مادي – روحي ” متكامل غير مفصوم الى روح ومادة. تتناول العالم وشؤونه الاجتماعية والاقتصادية، مقيمةً بناءها الفلسفي على أساس واقعي موضوعي ” هو الوجود الاجتماعي “، الحياة فيه فعل وتفاعل تكاملي إيجابي بين قواه المادية والروحية. تتجاوز وتناقض كل من الفلسفتين المادية والمثالية، وتقدم للإنسانية وللعالم رؤيتها الواحدة الواضحة للوجود والحياة من أجل بناء حياة اجتماعية جديدة مرتقية ومتطورة.
هذا الظهور للمدرحية كفلسفة جديدة متميزة بمنهجها ونظرتها أحدث تحولاً هاماً وكبيراً في المسيرة الفلسفية ككل، من حيث توجيه العقل الى الاهتمام بقضايا الحياة والوجود الأساسية الكبرى وقضايا الحياة العملية.
وهنا ألا يكون قولنا: إنَّ أنطون سعادة من المفكرين والفلاسفة القوميين المعاصرين المتميزين هو الصواب ؟.
نكتفي بهذا الإيجاز تعريفاً بالمدرحية. أما التعّرف عليها كنظرة عامة، وعمق ادراكنا لها وفهمنا لأهم ميزاتها وأسسها الفكرية والفلسفية ليس غرضه ومكانه هنا، بل يكون ذلك من خلال بناء دراسة خاصة بمختلف جوانبها وحقولها.
من الأمور الملفتة للإنتباه، أن أنطون سعادة يشكل فرادة في التاريخ. فهو أول فيلسوف قومي صاغ عقيدته وأهدافه القومية والاجتماعية والسياسية في إطار فكري وعلى قواعد فلسفية عميقة. فعقيدته القومية الاجتماعية عبارة عن إجابات عن أسئلة علمية فلسفية ” من نحن ؟” ” ما الذي جلب على شعبي هذا الويل ؟”. كما أن ” قواعد الفكر التي نشأت عليها النهضة القومية الاجتماعية وتميز بها الحزب السوري لقومي الاجتماعي هي قواعد فلسفية “. مما يؤكد أصالة عمله الفلسفي ويؤكد أيضاً أنه أحد المفكرين والفلاسفة المتميزين.
إلا أن ظروف أمته الحاضرة وهذه الحرب الخطيرة الواقعة عليها والتي تستهدف وجودها وقتلها وطمس هويتها الحضارية ألزمته أن يقودها بنفسه وأن ينصرف كلياً للإعداد لها.
وانطلاقاً من قلقه الوجودي المصيري ومن الروح المتولدة من عقيدته وتعاليمها وفلسفتها التي تضج بها نفسه، وتحقيقاً لموجبات القيادة لحملة الرسالات والعقائد العظيمة ” انتصاراً لحقيقتها وتحقيقاً لغايتها “. استمر في قيادة هذه الحرب بكل الصدق والأمانة، متنكباً بعث نهضة أمته، حاملاً وجع بلاده، راهناً عمره لتخفيف هذا الوجع وإزالته، سلاحه فيها عقيدته وأفكاره وفلسفته.
لم يهادن ولم يساوم ولم يتردد. بل في اللحظة المصيرية الحاسمة. لحظة الاحتياج. رد الأمانة وأتم الرسالة وختمها بدمه مقدماً درسه الأبلغ والأخير في ابتكارٍ، هو الأروع للفداء وعطاء الذروة. فكان الثامن من تموز المهيب، لا بل كانت المحاضرة الحادية عشر.
أعود للسؤال الأساس، هل أنطون سعادة (مفكر، فيلسوف، باحث، مؤسس، قائد، زعيم)؟
بدايةً، لا بدَّ من التنويه أن هناك تكاملاً وتماهياً بين هذه الميزات، كما هو الحال بين (الحزب والحركة والنهضة). فجميع هذه الميزات تتماهى مع بعضها بتكامل مغني، حيث أن الميزة التي تكون في موقع الحاجة والتفعيل تبدو أكثر وضوحاً وأكثر ظهوراً وأكثر ألقاً، دون انعزال عن الميزات الأخرى بل بإغناءٍ من تلك الميزات.
فهذا الظهور لميزة ” الزعيم ” وهذا الوضوح والألق والتجاوز لغيرها من الميزات ومنها (الفكرية والفلسفية)، ليس لأساسيتها هي ولا لجزئية بقية الميزات، بل هي ظاهرة وواضحة ومتألقة لحضورها الدائم ولأنها في موقع الاحتياج والتفعيل ولتكاملها مع بقية الميزات ولأن سعادة نفسه هو ” الزعيم “.
فهذا الحضور الواضح المتألق ” للزعيم “، ناتج بالضرورة عن غنى الخلفية الفكرية والفلسفية كمرجعية أساسية الى جانب شخصية الزعيم نفسه. فحضرة الزعيم في أوج تألقه كزعيم لم يتخلى عن كونه فيلسوفاً يحمل رسالته الاجتماعية المميزة الى العالم: ” المدرحية “. وبالتالي لو لم يكن أنطون سعادة في الأصل (باحثاً ومفكراً وفيلسوفاً) لما كان زعيماً بهذا الحضور المحتشد والألق العالي؟.
فالمفكر والفيلسوف عندما تشده الظروف لأن يكون في موقع ما ” مؤسساً أو زعيماً “، هل يعني ذلك أن يتخلى أو ينعزل عن أفكاره وعن رؤياه ووجهات نظره ؟
أم تبقى أفكاره ورؤياه ووجهات نظره القاعدة التي ينطلق منها، وتبقى هي من يحدد ومن يحكم وجهة واتجاه بندقيته؟ ثم أليست العقيدة القومية الاجتماعية بأطرها الفكرية وأسسها الفلسفية القاعدة والأساس التي انطلق منها أنطون سعادة ” الزعيم ” ؟.
أليست الفلسفة ” فهماً عميقاً غنياً للحياة وبالتالي فن حياة “؟ وعندما تكون هكذا فهي الفلسفة الحقة.
كيف يكون زعيماً حقاً من تُفتقد لديه أهم موجبات الزعامة (سعة الأفق، وعمق الرؤيا، وبعد النظر)؟ ألا يؤكد هذا أن الفكر والفلسفة هما القاعدة الصلبة والأساسية التي ينطلق منها ويتألق على أساسها كل ” زعيم “؟.
أخلص وأقول مع الدكتور ناصيف نصار: “إن فلسفة سعادة هي مدرسة فكرية جديدة، “ومع الأمين نزار سلّوم وهو يعلن في رده على التجاهل والتعتيم الذي لحق فكر وفلسفة أنطون سعادة: أنه ” افتقد على مدى نصف قرن وأكثر لأميز فلسفة قومية في تاريخنا المعاصر ” مشدداً ومؤكداً أن رأيه هذا ليس من باب التشاوف ولا بكونه من المحازبين.
مقال جدير بالقراءة يجب تعميمه لمزيد من النقاش
لم يتسن لي الاطلاع على الكتاب انما التعليق الذي وضعه الأمين سميح ديب يدل على ان الكتاب والتعليق يفتحان ابوابا جديدة ويلقيان الضوء على جوانب جديدة لنظرة سعاده الفلسفية .فالأمين ديب يربط مفهوم الزعامة بالمداليل الفلسفية وكأنه يقول ان سعاده اراد ان يضع للفلسفة ارجلا تسير عليها. شكري وتقديري لهما.